عهود حجازي
الحبُّ الذي ينفذ إلى الروح ولا يقبل مساومة الجسد، والأُنس الذي تحيا به الحياة وإنْ عابثَها الموت، التمسُّك بمعنى الوجود بدون استسلام، على الرغم من بشرية الإنسان وخضوعه لنواميس الكون: المرض والموت.
هذه الترنيمة هي ما يمكن سماعه عند مشاهدة فيلم «ترياق»، الذي تدور أحداثه في تسعينيات القرن الماضي، وهو من إخراج حسن سعيد، وكتابة علي سعيد، وبطولة عبدالناصر الزاير. حائز على جائزتي النخلة الذهبية لأفضل فيلم قصير، ولأفضل تصوير سينمائي في مهرجان أفلام السعودية التاسع «2023».
يعرض الفيلم قصة المطرب الشعبي «أبو حسين» العاشق لفنِّه، والذي أصيب بمرض عضال منعه من مواصلة الغناء، وظل يقاوم العلاج، مستجديًا استعادة صوته بدون جدوى.
شعرية الحدث
في هذا الفيلم قصة مجازية لكلِّ ما نفقده ونحن نحبُّه، ولكلِّ ما نستبسل في الحفاظ عليه؛ ومع ذلك يتسلل من بين أيدينا ويتلاشى. يذهب الفيلم بعيدًا في أعماق الذات الإنسانية التي ترفض التسليم بفكرة الذبول وتتصور أنها ذاتٌ خالدة، لا تمرُّ بها صروف الدهر وتقلبات الحال. يظهر ذلك بجلاء في عدم إذعان أبي حسين لكلام الطبيب، ونفوره من متابعة جرعات الدواء، ظنًا منه بأنه بهذا الفعل يخادع قدَره، ويمنحه فرصة لإعادة ما سلبه منه المرض.
تتردد في الفيلم أغنية «الله يذلّك يا زمن» التي تغذِّي القصة وتؤطِّرها بما تعنيه كلمات الأغنية من شكوى وغضب وحزن واعتراض، على اعتبار الزمن قوة عليا، تتسلَّط على الإنسان فتجرِّده من مزاياه، ولا يملك مقاومتها سوى بالكلمات. ويعتبر اختيار هذه الأغنية في هذا السياق استعارة، تجعل من الكلمة سلاحًا ضد عدوٍّ افتراضي، يمكن الوقوف في وجهه بهذا السلاح.
ولا تنتهي الاستعارات والمجازات في «ترياق»، ففي اللقطة التي يُخفي فيها أبو حسين أداة العزف «العود» في كيس أسود تمويهًا لعائلته بأنه يخرج النفايات، وما إن يغادر البيت حتى يحرر أداته من الكيس ويرمي به؛ تبرز صورة بالغة الحساسية، انزياحٌ شعريٌّ، من الرمي إلى المحافظة، ومن التخلِّي إلى ثبات التعلُّق، إلى حماية الشغف والإبقاء على شعلته مهما كانت الصعوبة ومهما اضطر الأمر إلى إلباسه لباسًا دونيًا تمويهًا وغيرة عليه من المساس.
وبالانتقال إلى لحظة اليأس وانقطاع المدد، في الوقت الذي لم يعد يصدر عن حنجرته سوى صوت يشبه الفحيح، إذ به يسمع صوته الذي يعرفه حق المعرفة، منبثقًا من مسجل صوت عند النافذة؛ هذا الصوت هو صوته حين كان قادرًا، وكأن الظروف لم تغدر به قط. في هذه اللحظة تحديدًا، حين ينطلق الصوت في عتمة اليأس معلنًا ميلادًا جديدًا غير محسوب، يتجلى المحور الشعري للفيلم، وهو «محور المزاج والشعور الذي يتيح للمشاهِد النظر من زاوية أكثر عمقًا في العمل». «أمين صالح، شعرية السينما، 2020».
ما الترياق؟
بين الصوت المفقود والعنوان رباط وثيق، فالترياق في أبسط معانيه هو الدواء، لكنَّ الدواء مادي محض، بينما الترياق لفظة شاعرية، تمنح المداواة معنى وجدانيًا. فليس الترياق دواءً خاليًا من المتعلّقات، ولكنه الشفاء الذي يلمس الروح فتقوم عافية الجسد وتحلِّق بالمريض في سماء الاستطاعة وإن كان طريحًا. إنه المعنى الحقيقي لمن يتداوى بما يحب، ويجد لذته في تجرُّع هذا الحب، ولو كان الثمن حياته. أبو حسين هنا أيضًا يحاول أن يغنِّي، والغناء في حياته لا يُعدُّ طربًا؛ بل قيمة أصيلة، وسلاح مقاومة، وركن يقوِّم به مزاجه ويداوي جراحه.
ويأتي التساؤل هنا عن موضع الترياق في الفيلم مقترنًا ببقية القصة، فمنذ البداية يظهر طفل يتابع أبا حسين ويسجِّل صوته في الخفاء في مسجل كبير الحجم. وحين يمرض الأخير ويأخذ صوته في التلاشي، يتسلل الطفل إلى النافذة لتشغيل المسجل على الصوت القديم، باعثًا الأغنية من مرقدها، موقظًا الذكريات، ومشيرًا إلى أنَّ ذلك الصوت لن يموت.
الطفل هنا ببراءته التامة وعفوية مواساته يرمز بفعله إلى «الترياق» في صورته الكبرى: المداواة بالمحبوب. مثلما أُلقي على وجه نبي الله يعقوب قميص ابنه يوسف – عليهما السلام – فارتدَّ بصيرًا. فقد أعاد الطفل الصوت إلى الرجل الكبير، وبشكلٍ ما أخبره بأنه لم يفقده، وبوسعه سماعه مرات لا متناهية، وكأنه ما زال يغني.
هنا تتجلى شعرية الصورة، تحديدًا حين يتوقف الصوت الحقيقي ويبدأ الصوت المسجَّل، كأنها حنجرة نائمة أفاقت من مرقدها. فالوقت قصير في عمر الزمن بين النهاية والبداية؛ لكنه في عمر الانتظار والرحلة بين انطفاء اليأس وإشراقة الأمل، كان طويلاً كيوم البعث. كان على أحدٍ أن ينقذ اللحظة ويحلَّ عقدة الفيلم كلها، فجاء الطفل بالترياق، في لحظة توهُّج واكتمال.
العَود الأبدي
بحسب «نيتشه»، فالحياة تتكرر بنفس طريقتها وحيثياتها بدون نهاية. ويمكن الاستشهاد بهذه الفكرة الفلسفية فيما يتعلق بفلم (ترياق)، حيث نشهد هذا التكرار الأبديّ للصوت، لكنه تكرار نوعي. فالمختار للإعادة هنا ليس مأساة المرض، بل متعة النغم، لا تتكرر الآلام في الصوت المسموع، بل البهجة التي كانت تخلقه. ولا توجد نهاية لانبعاث الصوت حين يعطب الإنسان ويقترب من النهاية؛ لأنَّ صوته يُبعث كلَّ مرة، بأغانيه نفسها، بحمولاته الشعورية ومراحله العمرية، وبحالاته التي تأرجح فيها بين الجموح والوهن؛ يغدو حب المصير فكرة مقبولة، ويصبح الكاسيت المسجَّل قادرًا على منح الخلود؛ إذ إنَّ «أشياء الصورة الشعرية تستدعي امتداد الزمن من أجل إعادة خلق هذه الأشياء حسب العوالم البلاغية والرمزية والتخييلية؛ أي خلق زمن الديمومة الذي يخلِّد الأشياء في الذاكرة الشخصية». «حمادي كيروم، فن فهم السينما، 2023».
إنَّ العشق مخلِّد، والشغف لا يموت، وأكثر شيء حرصنا عليه في حياتنا قد يعود بعد أن نظنَّها النهاية.
باحثة دكتوراه، مهتمة بتحليل الخطاب السينمائي