خالد ربيع
فيلم أوبنهايمر، للمخرج كريستوفر نولان، يروي سيرة الفيزيائي الغامض روبرت أوبنهايمر.. خاف على العالم لكنه اخترع القنبلة الذرية ودمر العالم في 1945. «من الخوف ما قتل».
تركز أحداث الفيلم المرهق والممتع على مدرس الفيزياء النظرية، الأميركي روبرت أوبنهايمر، حيث يحكي عن عمله كمدير علمي على مشروع مانهاتن لتطوير أول سلاح نووي في تاريخ البشرية خلال الحرب العالمية الثانية.
اشتهر هذا العالِم بقولته الشهيرة عندما نجح في صنع أقوى سلاح مدمر في التاريخ: «الآن أصبحت أنا الموت، مدمر العوالم».. «Now, I am become» Death, the destroyer of world».
مسارات الفيلم
حدد كريستوفر نولان 3 مسارات للقصة، وعاد بلقطات، فلا شباك لتقديم مخترع القنبلة الذرية «يلعب دوره كيليان ميرفي في جميع الأعمار» خلال أيام دراسته الجامعية في عشرينيات القرن الماضي عندما كان يشعر بالوحدة والاضطراب. تلك التي يظهر فيها روبرت، نراه ينظر نحو الأسفل كما في مقطع ويحدق في قطرات المطر المتموجة في البرك، وهي صورة مهدئة تذكره بنيران الجحيم المنبعثة من الجسيمات الذرية. حتى صفاء الطبيعة لا يمكنه تهدئة عقله المضطرب.
تتكرر هذه الأفكار طوال الفيلم، خاصة في اللحظات التي يضطر فيها إلى مواجهة القوة الهائلة لما قام باختراعه. كثيرًا ما تتم مقاطعة قصة نولان عن الغرور والندم والقوة التي أُطلق العنان لها من خلال صور يتم تجسيدها على نطاق ذري، منكسرة ومفجرة كما لو كان يريد الفيلم وضع سياق مرعب لكمية الدمار الهائل الذي يمكن إحداثه من شيء صغير للغاية.
سردية متداخلة
تأخذنا جلستا استماع حكوميتان إلى ماضي روبرت، كلتاهما بعد عدة سنوات من تفجيري هيروشيما وناغازاكي. يتم تقديم الأولى باللون الباهت، وفيها يتم تحدي ولاء روبرت للولايات المتحدة في عام 1954. بينما يتم تقديم الثانية باللونين الأبيض والأسود، وفيها يوضع رئيس لجنة الطاقة الذرية السابق، لويس شتراوس «روبرت داوني جونيور»، وهو حليف سابق، ثم خصم لاحقًا لروبرت، تحت وابل الأسئلة عام 1959.
غالبًا ما يعود المشهد الأخير إلى السابق، والذي بحد ذاته يتتبع مسيرة روبرت العلمية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حتى تم تجنيده في نهاية المطاف في مشروع مانهاتن في عام 1942.
تصوير آخر لأحداث في العالم الواقعي ينسج قصة واحدة من جلستي تحقيقات. لكن جلسات الاستماع الثنائية تخلق وجهات نظر متضاربة، تؤدي أحيانًا إلى مشاهد متداخلة ومتكررة، كل منها من وجهة نظر روبرت وشتراوس على التوالي؛ حيث يتم الكشف عن أحدهما بلون «أكثر حيوية بقليل»، والأخرى بلون أحادي.
لكن علاقة الثنائي ليست القوة المحركة المركزية للقصة، بل هي السباق لبناء واختبار القنبلة الذرية، والتي تستغرق جزءًا كبيرًا من وقت الفيلم، ولكنها تخدم هدفًا هامًا من حيث الموضوع.
نولان المختلف
يتعمق الفيلم في غرور كلا الرجلين بطريقة تؤدي في النهاية إلى خاتمة درامية مذهلة، تكشف عن التيار الخفي المستمر للندم الذي يحركه نولان، ويستخرج أداء متفجرًا ومتعدد الطبقات، لم نشهده في أيٍّ من أفلامه في العشرين عامًا الماضية.
وهكذا تتكشف القصة وصولاً إلى تلك الخاتمة كما لو كانت في سقوط حر، وتندفع بشكل هادف بين العديد من المشاهد التي تحدث فيها اكتشافات علمية هامة؛ مما يجعل روبرت وفريقه من العلماء المختارين بعناية، أقرب خطوة إلى أشخاص بقوى من خارج عالمنا. يتم إبطاؤهم كثيرًا خلال الفيلم بفضل أسئلة التحقيق التي تطرحها حكومتهم المشبوهة نفسها الخائفة من تمدد الشيوعية، والتي يقودها بعض مسؤولي الأمن المتميزين «الذين يمثلهم داين داين ديهان، وكاسي آفليك، وديفيد داستمالشيان» الذين يلعبون دور الأوغاد الإداريين في أعلى رتبة، مما يعزز من الشدة الموجودة.
أداء كيليان ميرفي
يقوم كيليان ميرفي بأدائه لشخصية روبرت الغامض بإحساس برباطة الجأش والقيادة، والذي يتناقض مع مكانته الهزيلة. لكنه يحمل تعبيرًا دائمًا من الانزعاج يمكن رؤيته حتى خلف ابتساماته البالية. إنه لا يبدو «وكأنه رأى للتو شبحًا»، بقدر ما يبدو وكأنه كان يراها طوال حياته؛ مما يجبر المرء على التساؤل عما إذا كانت قدرته على تخيل اللبنات الأساسية للوجود هي التي دفعته إلى العظمة، أو لعنته كل الأبدية. بالنظر إلى بنية القصة، يظهر أوبنهايمر مثل ذكرى يشوبها الندم، ولكن: هل كان ذلك مقدرًا؟ يبدو أن وجه مورفي يطرح هذا السؤال باستمرار.
مكانته في التاريخ
إذًا يدور الفيلم في جوهره حول مسألة مكانة روبرت أوبنهايمر في التاريخ، كما يراها الآخرون، وكما يراها هو نفسه. والاستنتاجات التي يتوصل إليها الفيلم ليست بالسهلة أبدًا؛ حيث تعتمد على الأفكار التجريدية المتكررة والمذهلة أكثر من كلماته. إنها رؤية سينمائية تهز المشاهد لم نشهد مثلها في أي فيلم آخر من أفلام نولان، تخرج من السينما في تفكير صامت؛ إحساس لا يستطيع سوى قلة من مخرجي هوليوود الحديثين فعله.
بقي أن أشير إلى مشهد أعتبره «ماستر سين» من منظور أيديولوجي أميركي: يطلب رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان أن يزوره أوبنهايمر في مكتب الرئاسة الأميركية.. مقابلة متوترة، يقول أوبنهايمر لترومان: أشعر أن يديَّ ملطختان بالدماء.. يخرج ترومان منديلاً ويمده له.. ثم يقول لأوبنهايمر عندما يتذكر العالم القنبلة الذرية لن يذكروك إنما سيذكرون ترومان.
موسيقى وضوء وصوت
في كل ذلك لا يمكن إغفال الموسيقى التصويرية المحمومة والباعثة على التوتر.. تلك التي صاغها «لودفيغ غورانسون» بحساسية تؤجج مشاعر الترقب في كل لقطات ومشاهد الفيلم، إنها لا تترك المشاهد يهدأ أو يلتقط أنفاسه أو يفكر أن يلتهم كبشة من علبة الفشار القابعة في حجره.
بالطبع أسلوب كريستوفر نولان يختلف كليًا عن أسلوب مارتن سكورسيزي، من حيث سرد السيرة المرتبطة بالتاريخ.. سكورسيزي يأخذ المشاهد إلى درجات تهدئه وتباغته، ويتأرجح في الإيقاع بين السرعة والبطء والفلاشباك والتوتر. لكن نولان منذ الدقيقة الأولى يصعد بمشاهده بشكل مطرد في إيقاع لا يهدأ.
كما أن تلاعبه بالمؤثرات البصرية الضوئية لا يضاهيه فيلم آخر، إذ وظف الضوء والألوان بما يرسم الحالات الشعورية عند بطله. كان الضوء المنبعث في موقع «ترينتي» لا يقارن مع أي ضوء آخر أنتج فوق سطح الكرة الأرضية من عمل البشر، وربما كان من الممكن رؤيته من كوكب آخر خارج الكرة الأرضية.