حاوره رئيس التحرير
عملية التحوُّل الكبرى التي تشهدها السعودية مثيرة ومتسارعة. وفي قطاع صناعة الأفلام، يمكن ملاحظة سرعة وتيرة التغيير وانعكاساتها. فبعد الإعلان رسميًا عن التصريح لفتح دور للعرض السينمائي بالمملكة، التي أضحت إيراداتها من شباك التذاكر، الأسرع نموًا في الشرق الأوسط؛ نجحت البلاد في جذب نجوم هوليوود لتصوير أفلامهم على أرضها، كفيلم «Cherry» و«قندهار»، ومسلسل «إمبراطورية الورق» (Paper Empire)، و«محارب الصحراء».
وحضر العديد من الإنتاجات السعودية في منصات عالمية، وفاق بعضها التوقعات في شباك التذاكر المحلية وردود الأفعال الدولية. وأعطى تأسيس صندوق التنمية الثقافي لأول صندوق استثماري سعودي في قطاع الأفلام بقيمة 375 مليون ريال سعودي، في مهرجان كان السينمائي، أخيرًا؛ مؤشرًا أخضر إضافيًا لمستقبل القطاع. ويؤكد الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة الأفلام، في حوار مع «سوليوود»، على أهمية العائد الثقافي عبر إسهام الفن السابع في تمكين السعوديين من رواية قصصهم الثرية بأنفسهم لأنهم الأقدر على ذلك؛ مضيفًا: «نتطلع لوصول قصصنا السعودية إلى أكبر المحافل السينمائية العالمية لتنافس بقية الصناعات السينمائية في العالم».
وتبدو أن قصة التحوُّل المثيرة بدأت عندما أعلنت المملكة الترخيص لدور السينما في النصف الثاني من عام 2017، إلا أن وزير الثقافة يشير إلى أن الإعلان عن «رؤية السعودية 2030» في أبريل 2016 «جاءت كبارقة أمل كبيرة للإبداع في البلاد، وبثت الحياة في المشهد الثقافي، وانبثقت منها العديد من المبادرات والبرامج المحفِّزة والمنظِّمة للمشهد، حيث تنفست صناعة الأفلام الصعداء»؛ مستشهدًا بـ«ما كان عليه الوضع لصناعة الأفلام قبل إطلاق رؤية سمو سيدي ولي العهد – حفظه الله – حيث كانت المبادرة الفردية متسيدة المشهد. ورغم بروز مبدعين سعوديين في الصناعة استطاعوا أن يصدروا إبداعاتهم بأدواتهم الخاصة، إلا أن الغياب التام لدور العرض السينمائية، ومحدودية برامج التعليم المتخصصة، وغياب تنظيم القطاع، وتحفيز المبادرات؛ ألقى بظلاله على الصورة كاملة».
وبعد إعلان تأسيس وزارة الثقافة، وتعيين الأمير بدر أول وزير لها في تاريخ السعودية، توالت المبادرات المحفِّزة والداعمة لقطاع صناعة الأفلام؛ إذ وضعت الوزارة الناشئة حينها، القطاع ضمن القطاعات الفرعية التي ستركِّز عليها جهودها. ووافق مجلس الوزراء السعودي على تأسيس هيئة حكومية متخصصة للأفلام، بالإضافة إلى إطلاق حزم كبيرة من المبادرات المشجعة والممكنة لصنًّاع الأفلام، كتأسيس مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وتأسيس صندوق التنمية الثقافي، الذي أطلق «برنامج تمويل قطاع الأفلام»، بمخصصات تقدر بـ879 مليون ريال، وإطلاق الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، وإدارة «فيلم العُلا» لدعم الصناعة.
ويؤكد وزير الثقافة، الذي يشغل أيضًا محافظ الهيئة الملكية لمحافظة العلا، أن «ذلك الزخم، الذي تقف خلفه رؤية سمو سيدي ولي العهد، استمر وتصاعد بشكل ملحوظ خلال الأعوام الخمسة الماضية»؛ لافتًا إلى أن «هذه الخطوات الجادة المتوازية والتي تعمل في وقت واحد لتعزيز صناعة الأفلام في المملكة، ستصل بالمملكة إلى أن تكون مركزًا لصناعة الأفلام، سواءً على الصعيد الإقليمي، وحتى الدولي».
مقومات الصناعة واستدامتها
ويضيف الأمير بدر أن «المملكة العربية السعودية غنية بإرثها الثقافي الفريد وتنوعها الطبيعي وعمقها الحضاري، وقبل كل ذلك، بإنسانها المبدع، الذي أحال الأحلام إلى واقع، وخلَّد إبداعه عبر التاريخ، شعرًا ونقشًا وعمارة؛ ورفد الإنسانية بالعلوم والمعارف، ونجح في خلق اقتصاد متين وضعت بلاده اليوم ضمن أهم اقتصاديات العالم»؛ معتبرًا أن هذه العناصر (الثقافية، والاقتصادية، والطبيعية) تتلاقى مع «إيمان قيادتنا بأهمية تعزيز الثقافة ودعم المبدعين، ما يعطي بلادنا كافة المقومات لتطوير صناعة أفلام مستدامة تحولها إلى وجهة لصناعة الأفلام في قلب الشرق الأوسط».
ويشدِّد على أن الدعم غير المسبوق للقطاع، والمبادرات النوعية، والمقومات الثقافية والاقتصادية والطبيعية للمملكة، ستسهم في جذب العديد من المشاريع السينمائية؛ بالإضافة للبنية التحتية للصناعة، «والتي تطورت بشكل سريع، وكذلك وجود برنامج منافس لحوافز الاسترداد المالي».
ويبدو أن السعوديين مدركون جيدًا لمعاناة الكثير من المشاريع السينمائية الطموحة من عدم الاستدامة، إذ يراهن وزير الثقافة على «الاستثمار في رأس المال البشري، الذي يأتي كأهم ممكِّن لتحقيق الاستدامة في أي قطاع ثقافي»؛ موضحًا أن «استراتيجية هيئة الأفلام وضعت الشراكة مع القطاع الخاص على رأس ممكنات استدامة الصناعة، لضمان التكامل بين جميع الجهات الحكومية، وغير الربحية مع القطاع الخاص في تحقيق كافة المستهدفات».
وضمن التغييرات في المشهد السينمائي في السعودية، تسارعت وتيرة إعلان جامعات محلية فتح مسارات أكاديمية تدعم قطاع الأفلام، كجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، وجامعة الإمام محمد بن سعود، وجامعة عفت، وجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل. ويشير الأمير بدر إلى وجود أكثر من 1558 طالبًا وطالبة يدرسون تخصصات مهمة في صناعة الأفلام، بالإضافة إلى ابتعاث وزارة الثقافة 109 مبتعثين، ضمن الابتعاث الثقافي، لدراسة تخصصات صناعة الأفلام في أهم الجامعات العالمية في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، و53% منهم مبتعثات سعوديات.
وبدا واضحًا تركيز وزارة الثقافة، وهيئة الأفلام على التعليم والتدريب للمُضي قُدمًا في تحقيق مستهدفاتها من قطاع صناعة الأفلام، إذ استفاد 1400 شاب وشابة سعودية من برامج تدريبية، غطت مهارات التمثيل والكتابة والإنتاج والإخراج والموسيقى والمؤثّرات البصرية؛ نفذتها هيئة الأفلام العام الماضي في 8 مدن سعودية، بالتعاون مع جهات أكاديمية عالمية. ويكشف وزير الثقافة عن قرب إطلاق النسخة الرابعة من برنامج صنَّاع الأفلام، الذي يستهدف تقديم برامج تدريبية في كل المجالات السينمائية لـ4000 متدرب ومتدربة في جميع مناطق المملكة. وستشهد هذه النسخة إقامة برامج نوعية تستهدف الكتاب السينمائيين، ومهارات ما تحت خط الإنتاج.
ويشير الوزير إلى أهمية تمكين المواهب المحلية وتحفيزها، إذ قدَّم «ضوء لدعم الأفلام» تمويلاً لـ7 أفلام روائية طويلة، و11 فيلمًا قصيرًا. ودعم صندوق البحر الأحمر 18 مشروعًا لتطوير وتمويل أفلام سعودية؛ مشددًا على أن «رهاننا الأول والأخير هو على صنَّاع الأفلام السعوديين وإبداعاتهم، وسنستمر في تقديم كافة أشكال الدعم لهم».
ويؤكد وزير الثقافة أهمية تطوير البيئة التنظيمية لصناعة الأفلام، لأنها «تسهّل رحلة المستثمر، وصانع الفيلم هو عامل مهم في تحقيق الاستدامة»؛ مشيرًا إلى أنهم يستهدفون جميع مؤسسات القطاع «لتطوير كافة مراحل صناعة الفيلم من كتابة الفكرة حتى الوصول إلى شباك التذاكر».
نمو متسارع للبنية التحتية
ويُرجع وزير الثقافة النمو المتسارع وغير المسبوق في تطور البنية التحتية للأفلام في المملكة، إلى «رؤية السعودية 2030، وما انبثق منها من توجه استراتيجي لوزارة الثقافة والدعم الحكومي لصناعة الأفلام»؛ معتبرًا ما يميِّز القطاع «أنه مفتوح لكل المبادرين، سواءً من القطاع العام، أو الخاص، أو حتى غير الربحي».
وكانت الهيئة الملكية للعُلا قد بدأت تشييد استوديوهات للإنتاج السينمائي تبلغ مساحة مرحلته الأولى 30 ألف متر مربع، بالإضافة إلى الإعلان عن مشاريع استوديوهات إنتاج في منطقة الرياض. ويكشف وزير الثقافة عن مشروع «لتطوير استوديوهات متكاملة للإنتاج السينمائي في حي جاكس الثقافي بالدرعية مزودة بتقنية الإنتاج الافتراضي (virtual production) بالتعاون مع شريك عالمي ذي خبرة كبيرة»؛ موضحًا «نستهدف من خلال هذا المشروع مستوى تقديم نقلة نوعية في البنية التحتية في المملكة، ورفع القدرة التنافسية لجذب أبرز الإنتاجات السينمائية العالمية».
وتمكَّنت البنية التحتية في المملكة من استقطاب ودعم تنفيذ عدة مشاريع، بينها عشرات المشاريع السينمائية الدولية والسعودية، خلال العامين الماضيين؛ إذ نجح عدد من تلك الأفلام العالمية في منح أكثر من 1000 فرصة تمثيل موسمية للسعوديين، وعشرات الفرص للتمثيل بأدوار مساعدة، وانتعشت جراء هذه الخطوة 115 شركة محلية. كما شغل طواقم تلك الأعمال 50 فندقًا ووحدة سكنية في مدن كالرياض وجدة وتبوك والعُلا وغيرها، بواقع 81 ألف ليلة فندقية. وخلقت هذه الأعمال طلبًا عاليًا على خدمات الإعاشة، والطيران، وإيجار السيارات، وشاحنات النقل الثقيل، وخدمات متنوعة؛ وظهر أكثر من 50 موقعًا من تلك المناطق على الشاشة الكبيرة لأول مرة.
حوافز مالية ودعم لوجستي
وعن حزمة الحوافز التي أعلنتها هيئة الأفلام، كشف وزير الثقافة عن استفادة ما يزيد على 18 فيلمًا طويلاً وقصيرًا بشكل مباشر من دعم هيئة الأفلام، وبقيمة تقارب 40 مليون ريال سعودي.
ودعمت الهيئة إنتاج أعمال سينمائية دولية مثل: «محارب الصحراء»، و«قندهار»، و«دانكي»، و«أبطال»، ببرنامج حوافز الاسترداد المالي الجزئي بنسبة تصل إلى 40% من مصاريف مؤهلة للحوافز.
ويشير الأمير بدر إلى أن الدعم لا يقتصر على الحوافز المالية، بل يمتد إلى الدعم اللوجستي، إذ «قُدمت تسهيلات لوجستية لـ50 عملاً سعوديًا ودوليًا لتمكين مواهبنا وشركاتنا السعودية من العمل على مشاريعها السينمائية»، كما أن هناك اليوم فريق عمل مختصًا يعمل على مدار الساعة لتسهيل عمليات الإنتاج بدأ عمله خلال الثلاثة الأعوام الماضية.
حضور دولي مختلف
وبدأ حضور صناعة الأفلام السعودية في المحافل السينمائية، عبر المشاركات الرسمية، لتعويض الغياب الذي ظل لعقود. ويرى وزير الثقافة أن الهدف من هذا الحضور هو «تعظيم الأثر وتضافر الجهود، للتعرُّف على التجارب الناجحة، والترويج لبيئة الإنتاج في المملكة، ومشاركة الآخر تجارب مبدعينا».
وتبدو الأرقام القادمة من تلك المشاركات مشجعة، إذ جذبت جولة عروض سينمائية لمجموعة من الأفلام السعودية في 4 مدن فرنسية، أكثر من 500 من الشخصيات العامة، تعرَّفوا من خلالها على التجربة السعودية. ويؤكد وزير الثقافة على «أننا في بداية الطريق لتحقيق طموحنا بوصول صانع الفيلم السعودي إلى أكبر المحافل السينمائية، وتحقيق أهم جوائز الصناعة».