سوليوود «متابعات»
بدءا من فيلم آلان رينيه “ليل وضباب” (Night and Fog 1955) والأعمال الوثائقية لكلود لانزمان، وصولا إلى فيلم لاسلو نيميش الروائي الحديث”ابن سول” (Son of Saul 2015) تعتبر “الهولوكوست” من المواضيع الأكثر طرحا في السينما الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي انقسمت لتكون إما تصويرا لسقوط الإنسان ومبادئه في معسكراتها، وإما تأريخا مستمرا يرسّخ في الأذهان مقدار فظاعتها، أو استذكارا يرثي فيه مخرجوها أرواح الضحايا، وفقًا لموقع المجلة.
لكن فيلم “منطقة الاهتمام” The Zone of Interest للمخرج البريطاني جوناثان غلايزر (وهو كاتب الفيلم أيضا) مختلف عن كل ذلك، إذ أنه فيلم “هولوكوست” خالٍ تماما من مشاهد “الهولوكوست”، دون أي ظهور لضحاياها أو معسكراتها، والموت فيه ما هو إلا رائحة تزداد كثافتها مشهدا تلو الآخر دون يقينٍ عما إذا كان السراب سيأخذ شكله الدموي بدلا من هيئته الشبحية، أم أن القتل لدى مرتكبيه ليس إلا وظيفة طبيعية تُمارس بكل برود وانفصال عن السياقات الحياتية كباقي الوظائف اليومية الأخرى.
نعيم ريفيّ
يستفتح غلايزر فيلمه الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي 2023 (وحاز “الجائزة الكبرى” وجائزة فبريتشي) بلقطة فارغة، بيضاء بالكامل، تستمر لأكثر من 20 ثانية، وببطءٍ شديد تتلاشى لتصوّر لنا الحياة العائلية التي يعيشها المسؤول عن معسكر “أوشفيتز” في مدينة “أشفنشم” البولندية عام 1943 – معسكر الإبادة الذي مات فيه أكثر من مليون شخص في أقل من 5 سنوات- القائد النازي (رودولف هوس)، وزوجته (هيدويغ) أو كما يطلق عليها ضيوفها “ملكة أشفنشم” وأطفالهما الخمسة في منزلهم الكبير والواسع، وبأسقفه المرتفعة، وأروقته الأنيقة، وحدائقه الخلفية، بالإضافة إلى اجتماعات الأصدقاء فيه، والنزهات الريفية المتكرّرة للعائلة إلى البحيرة المجاورة للمنزل، وعمل مركز الحكاية رودولف على تكوين حياة مميزة مع زوجته، وتعزيز علاقة مثالية مع أطفاله.
لا يسعى غلايزر إلى تقديم مغاير لأفلام “الهولوكوست” المعتادة فحسب، بل إلى أن يكون نهجه قائما على الإدراك بأن عموم مآسي الإنسان المجرّدة من كل الأخلاقيات هي تاريخ تفوق ظلمته الوسيط، ولا يمكن اختزاله في أوجه بشر محدّدين، ولا تمتلك الدراما القدرة على تجسيده بأي شكل من الأشكال، ومن خلال معالجته الشر وحده في مساحته الآمنة، ويوميات حياته العادية، يحجب غلايزر الأدلة المرئية، ويكتفي بومضات من الأحاديث اليومية، وتصاعد الأدخنة السوداء لتلك الإبادات القريبة، وبصورة تربك متلقيها؛ تصبح المسافة الفاصلة للإنسان عن قيامه بأفعال الشر أقصر مما يمكن تخيله.
الفيلم مقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (صدرت في 2014) للروائي البريطاني مارتن أميس الذي غادر عالمنا الشهر الماضي، وهي رواية بثلاثة مسارات قصصية، لا يأخذ غلايزر منها سوى العنوان وعالم مدبّري الإبادات، مع تغيير جذري في كل شيء تقريبا، وبصورة أكثر تجريدا مما هي عليه. تتحول الهزلية المضحكة في الرواية إلى سخرية صادمة أو تعريض مدهش له خصوصيته السينمائية، والتي يمكن تناولها في الفيلم على شكلين: الأول قائم على المفارقة البصرية المتمثلة في حالة الانفصال التام الذي تعيشه شخصيات الفيلم، وزيف الأمان في صورة النعيم الريفي تحت دوي إطلاق النار المتصاعد والصرخات البعيدة، أو حتى في النباح المتبادل والأشبه بالحوار بين كلب المنزل وكلب المعسكر القريب، كأن الكلاب هنا أكثر وعيا ورهافة من أصحابها. أما الثاني فيتمثل بحوارات عفوية صاعقة، تصف الأهوال بطرق مبسطة منتزع العنف منها، كمشهد تناولت فيه القيادة مشكلة عدم استيعاب غرف الغاز للأفواج المتزايدة التي يحملها قطار الموت إلى “أوشفيتز”، وبحثهم عن طرق إبادة أكثر فاعلية لهذا الكم الهائل من المحكوم عليهم بالإبادة مثل فكرة المحرقة الدائرية، أو حتى في جعل المنعطف الأكثر دراماتيكية في حياة العائلة موجودا في قرار برلين بنقل رودولف إلى المجر للاستفادة من براعته في هندسة الموت.
عنف مونتاجي
وما يجعل هذا الرعب صاعقا يكمن في الحالة البصرية الساكنة لكاميرا مدير التصوير البولندي لوكاس زال -والذي اكتسب سمعته من خلال عمله على “آيدا” (Ida 2013) و”حرب باردة” (Cold War 2018)- لالتقاطاتها العريضة والواسعة، وزواياها الحادة والمنضبطة بثباتها، بالإضافة إلى تصويرها لمركز الكادر من مسافات ليست بالقريبة، والتي تخلق لنا عبر ذلك وببراعة وهما بالحركة المريحة للشخصيات في مساحة كبيرة من الكادر وسط رقعة صغيرة تتمثل بالمنزل وذلك مقارنة بمدينة “أشفنشم” الضخمة والمكتظة بآلاف المحشورين داخل غرف الغاز الضيقة.
كما يقابل هذا الارتياح المرئي عنف مونتاجي عند الانتقال بين المشهد والمشهد -لا بين الكادر والكادر- فعلى الرغم من سكينة الأفعال الموجودة في المشاهد، إلا أن غلايزر يقضي من خلال ذلك على شعور الاطمئنان في تراكم مجموعها، فإذا كان من المتعارف عليه أن المونتاج يخلق الانسياب، فإنه يأتي هنا أداة لتطبيق اليقظة أو الاستفاقة من حالات الهيام، والتي تحيد بالمشاهد عن تلقي الفيلم باعتباره محاكاة موضوعية، وتساعد المخرج على أن يضع علامات زمنٍ قد تلا ذلك بكثير وأنه قد جاء لتناول الشر في حالته البشرية بانفصال عن شروره، ويؤكد الفيلم ذلك عندما ينتقل زمنيا بلحظة من اللحظات إلى “أوشفيتز” اليوم، والتي أصبحت متحفا لآثار من كانوا هناك، معززا بهذا المشهد أيضا الحالة الشبحية في الفيلم لمن كانوا ضحية لذلك.
إلا أن الكلمة المفتاحية في هذه التحفة السينمائية نجدها خلف تلك الصور، فمع استمرار “منطقة الاهتمام” بحجب تلك الأهوال بصريا، يتصاعد زخم الأصوات البعيدة ويقترب مع اقتراب الليل، متحركا الفيلم بأسره سمعيا وسط صم آذان من هم في ذلك المنزل، وعند مشاهد غير متصلة سرديا والتي تشبه الحلم إذا ما وضعناها بين هذه اليوميات، يصور لنا غلايزر من خلال كاميرا حرارية على طريقة الفيديو آرت طفلة تخبئ التفاح تحت هذا الدمار، معززا بذلك شعورا مفاجئا بالارتياب الذي يحدث في الخفاء، ومن خلال موسيقى ميكا ليفي التي تشبه دوي الإنذار، يصنع غلايزر غيمة من الذعر السينمائي اللذيذ فوق هذا الانسلاخ الحسّي لدى الشخصيات، وكما يستفتح فيلم “منطقة الاهتمام” بالشاشة الفارغة، يستمر الفراغ ويستمر حتى الانفجار.