رجا ساير المطيري
هل تعلم أن هناك نسخة خاصة جدًا من الفيلم الأميركي الشهير Pulp Fiction، لم يشاهدها إلا السعوديون فقط، خاصة أولئك الذين عاشوا في الفترة الذهبية لمحلات الفيديو من منتصف التسعينيات إلى العام 2000م؟ نسخةٌ لا يعلم عنها مخرج الفيلم نفسه، كوينتن تارنتينو العظيم، ولا منتجوه ولا موزعوه حتى.
قد يبدو ذلك غريبًا الآن في عصر السيولة الرقمية، وتنامي الوعي، والالتزام بحقوق الملكية الفكرية على مستوى العالم. لكن في منتصف التسعينيات كانت الأمور أبسط بكثير، خاصة في سوق الفيديو السعودية التي لم تكن قد انتظمت بشكل مهني واحترافي، فمن جهة كان يمكن لصاحب محل الفيديو – أي محل – أن ينال حق توزيع الفيلم الذي يريده بصفة منفردة، وبالطريقة التي تناسبه، حتى لو غيَّر في جودة صورة الفيلم وصوته، وحتى لو حذف مشاهد لاعتبارات غير رقابية، كأن تكون مدة الفيلم أطول من شريط الفيديو الذي طُبع عليه الفيلم، فلا مانع حينها من اقتطاع مشاهد من منتصف الفيلم لكي يستوعب الشريط بداية ونهاية الفيلم، أو يمكن ببساطة حذف النهاية مثلما حدث مع فيلم The Shawshank Redemption الذي ظهر ناقصًا لدى بعض محلات الفيديو، بدون نهايته العظيمة.
ومن جهة ثانية، كانت الرقابة عالية على محتوى الأفلام، فيتم ببساطة حذف المشهد “الرومانسي” دون اعتبار لقيمة هذا المشهد في المعنى العام للفيلم، إلى درجة أن بعض الأفلام بلغ نسبة ما هو محذوف منها قرابة الثلث تقريبًا، وظهرت بشكل غير مفهوم، ورغم ذلك تمت طباعتها ونشرها في محلات الفيديو، دون اعتبار لرأي المُستهلك الذي قد يرى أن منع هذه الأفلام بشكل كُلي أفضل من طرحها في السوق بهذه الصورة المُشوّهة.
هكذا كان الوضع في سوق الفيديو في التسعينيات، وكل هذه الإشكالات واجهتها الأفلام الأميركية والمصرية والهندية تقريبًا، باستثناء فيلمين؛ الفيلم الأول هو الفيلم الرسومي الياباني الشهير Grave of the Fireflies الذي تم تحوير قصته ليحكي مآسي المسلمين! – وتلك حكاية أخرى!- والفيلم الثاني هو مدار حديثنا هنا؛ فيلم Pulp Fiction، ففي هذين الفيلمين كان التدخل فنيًا بشكل سافرٍ، أدّى إلى تغيير الرؤية الفنية الأصلية للفيلم.
على مدى تاريخ السينما ظهرت حالاتٍ لأفلام تغيرت عند صدورها في دول أخرى، ولعل من أشهرها فيلم “عربة اسمها الرغبة A Streetcar Named Desire” لإيليا كازان، وفيفيان لي ومارلون براندو، الذي صدر في إيرلندا بنسخة مختلفة خَلَت تمامًا من لحظات التوتر بين “بلانش” و”ستانلي”، إلى الحد الذي لم يكن مفهومًا للمتفرجين ما هو سبب معاناة السيدة بلانش. ويمكن إضافة فيلم “لينكون Lincoln” لستيفن سبيلبرغ إلى قائمة الأمثلة، بسبب اختلاف نسخته الدولية واحتوائها على مشاهد إضافية. لكن هذه الحالات في غالبها تمت على نطاق العروض السينمائية التي تخضع لاتفاقيات عرض وتوزيع بين المالك الأصلي للفيلم وبين الموزع المحلي في الدولة الأجنبية.
النسخة السعودية من فيلم Pulp Fiction لم تخضع لمثل هذه الترتيبات، ولم يكن التدخّل فيها لأسباب رقابية، بل كان السبب فنيًا محضًا، باجتهاد من الموزع المحلي الذي يبدو أنه اعتبر أن الفيلم بشكله الأصلي لن يكون مقبولاً لدى الجمهور المحلي، فقام بإعادة مونتاج الفيلم وترتيب مشاهده بطريقة تخالف جذريًا ما صنعه كوينتن تارنتينو.
عندما ظهر فيلم Pulp Fiction أولاً عام 1994م، كان حدثًا فنيًا بامتياز، واستحق الفوز بالسعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي – المهرجان الذي كان وما يزال الأكثر احتفاءً وتقديرًا للغة السينمائية وللأسلوب الفني – كما فاز بأوسكار أفضل سيناريو أصلي. ويعود تميّز الفيلم إلى الأسلوب البديع الذي صاغ به تارنتينو حكايته، حيث تتناثر المَشاهد على الشاشة دون الالتزام بمسار زمني محدد، ودون ترتيبها ترتيبًا منطقيًا ببداية ونهاية تقليديتين، بل تتداخل الأزمنة والمشاهد فيما بينها في مزيج سردي رائع، يحكي في نهايته قصة مجرم يرعى زوجة رئيس العصابة، وهذا بدوره يُلاحق ملاكمًا غدر به، ومسار ثالث لمجرم مع حبيبته يخططان لسرقة زبائن مطعم.
القصة في جوهرها قد تبدو بسيطة، وخاوية، كما يوحي اسم الفيلم أساسًا، لكن القيمة الكبرى تكمن في الأسلوب الحر الذي انتهجه تارنتينو لسرد حكايته، عبر تفجير السيناريو من داخله، والكشف عن أبعاد جمالية جديدة يمكن للسينمائي أن يصل إليها لو امتلك الجرأة، والحرية، في تغيير أحد العناصر الرئيسية في بنية الفيلم أو العبث به.
من سوء حظ الموزع المحلي السعودي – وسوء حظنا طبعًا – أن التغيير الذي أجراه على الفيلم طال السبب الوحيد لتميز الفيلم واستثنائيته. هذا الأسلوب السردي الحر والطليق، وتداخل الأزمنة، والمشاهد، وتقاطع الشخصيات، قضى على كل ذلك تمامًا عبر تعديله لترتيب المشاهد بالطريقة التقليدية التي يرى أنها مفهومة أكثر للمستهلكين السعوديين وقتها. ببداية ونهاية، وبمسار زمني موحّد، وبدون تداخل بين المشاهد واللقطات.
الذي عمله الموزع المحلي أنه قسّم الفيلم إلى قصتين فقط، تبدأ الأولى وتنتهي، ثم تبدأ الثانية، وكأن الفيلم مكوّن من فيلمين لا تقاطع يُذكر بينهما. القصة الأولى من بطولة جون ترافولتا، وسامويل جاكسون، وأوما ثورمان، تبدأ بمشهد الاقتحام الشهير لمقر عصابة الشباب، مرورًا بمشاهد تنظيف الجثة في منزل تارنتينو، والجولة المسائية لترافولتا مع ثورمان، وتنتهي بمشهد المطعم حيث يلتقي ترافولتا وجاكسون بتيم روث. بعدها تبدأ القصة الثانية مع بروس ويليس الملاكم الذي يحاول النجاة من زعيم العصابة الذي يُطارده بضراوة.
فيلمان في شريط واحد، هذا بالضبط مُلخّص النسخة السعودية لواحد من أشهر الأفلام الفنية في تاريخ السينما الأميركية. عندما صدرت هذه النسخة المحلية منتصف التسعينيات، وبعد أن شاهدها السعوديون، كانت الصحف العربية الدولية تنشر أخبارًا ومقالات عن الفيلم الأصلي وعن مدى التقدير الفني العالي له، وهو ما لم يكن مفهومًا للسعوديين المهتمين بالسينما وقتها. فالفيلم الذي شاهدوه لا يرقى لأن يكون فيلمًا جيدًا في أفضل الأحوال، فكيف يكون تحفة سينمائية كما تصوره المهرجانات ووسائل الإعلام؟
اتضحت حِدة هذا الاستفهام أكثر عند انتشار الإنترنت في السعودية، وظهور المنتديات في نهاية التسعينيات. ففي منتدى مثل “سينماك” كان أي ذكر لفيلم Pulp Fiction يُثير جدلاً غريبًا بين أعضاء شاهدوا النسخة السعودية ويرون الفيلم سيئًا، وبين آخرين شاهدوا النسخة الأصلية ويرونه تحفة، دون أن يدرك هؤلاء وأولئك أنهم شاهدوا نسختين مختلفتين تمامًا، أو بالأحرى فيلمين مختلفين تمامًا.
ولم يزل هذا اللبس إلا عند عرض الفيلم مطلع الألفية الجديدة على إحدى القنوات الفضائية العربية، ليكتشف أغلب الأعضاء السعوديين- حينها – أنهم ظلوا لسنوات يعتقدون أنهم شاهدوا فيلم Pulp Fiction، بينما في الحقيقة هم شاهدوا فيلمًا آخر من إبداع موزع محلي كان ينشد الخير لزبائنه، ولا يُريد إرهاقهم بهذه الصور المتداعية والعشوائية وغير المرتبة التي صنعها مخرج أميركي يدعى كوينتن تارنتينو.