رجا ساير المطيري
أين يمكن أن يجتمع شاعرٌ حداثي، وامرأة جميلة، وأغنية، وجريمة، وصحفيون، ومتطرفون، بشكل صاخب ومحموم، إلا في داخل عقلٍ مريضٍ يسير نحو موت محقَّق، ويحاول أن يتمسك – أو يحتفل – بما تبقى من ذكرياته، وأشواقه، وأحلامه؟ هذا هو عقل الشاب «ناصر» الشخصية الرئيسية في الفيلم السعودي الجديد «أغنية الغراب» الذي عُرض في صالات السينما الأسبوع الماضي، والذي يمتلك سُمعة جيدة اكتسبها من ترشيحه لتمثيل المملكة العربية السعودية في سباق الأوسكار.
فيلم «أغنية الغراب» المدعوم من هيئة الأفلام ضمن برنامج «ضوء لدعم الأفلام»، يعدُّ الفيلم الطويل الأول لمخرجه محمد السلمان، بعد سلسلة من التجارب الممتازة التي قدمها في عدة أفلام قصيرةٍ، جعلته واحدًا من أهم المخرجين السعوديين الواعدين، بأفلام مثل: «لسان»، و«27 شعبان»، و«ستارة»، عُرضت في مهرجانات سينمائية، وفي منصات عرض كبرى مثل نتفليكس. لذا، ليس غريبًا أن يقتحم تجربة الفيلم الطويل الأول بثقةٍ، وبأسلوبٍ تعبيري جريء لم تقترب منه الأفلام السعودية من قبل.
يروي فيلم «أغنية الغراب» حكاية الشاب «ناصر» الذي يعيش في مطلع الألفية في الرياض، وتُحاصره أسباب الفشل من كل جانب؛ فمن جهة يواجه فشلاً في دراسته الجامعية، ومن جهة أخرى يُعاني من قسوة والده، إلى جانب تدهوره الصحي بسبب إصابته بورمٍ خبيث في الدماغ، وبسبب نحوله وضعفه واهتزازه الشخصي. وهو يواجه كل ذلك منذ بداية الفيلم؛ إذ يلتقي بطبيبٍ يُبلغه بحقيقة مرضه، ويزيد من يأسه وإحباطه.
ومثل أي شخص في الوجود، فإن للشاب ناصر أشواقه وأحلامه الخاصة، ومنها –مثلما هو متوقع من شاب في عمره – أن يُحب فتاة جميلة، لكن ظروف الواقع القاسي لا تسمح له بهذا الترف، ولا يجد أمامه سوى الانكفاء على ذاته، والغرق داخل لا وعيه، على أمل أن يلتقي هناك بفتاة أحلامه، وأن يكون لها بمثابة الفارس الذي يُنقذها، والذي يكتب فيها أجمل الأغاني. فهل يستطيع تحقيق ذلك؟ وهل يتمكن من مُلامسة أشواقه في داخله، أم أن قسوة الواقع ستُلاحقه هناك أيضًا، وستُدمر هذا الوهم اللذيذ؟
إن الميزة الكبرى في الفيلم هي قدرته على الغوص في هذا الوهم، داخل عقل البطل، وداخل لا وعيه، وأن يُصوِّره كما لو كان واقعًا محمومًا مليئًا بالشخصيات والمواقف الغريبة، التي لا يمكن أن تلتقي جميعها في زمنٍ واحدٍ، وفي مكانٍ واحدٍ، في الظروف الطبيعية! إن ما يعيشه البطل ناصر، والتحديات التي يواجهها، وأحداث الفيلم كاملة، إنما تجري داخل عقله فقط، وهي خليط من رؤى وتصورات قديمة، وذكريات مؤلمة، وتطلعات عجز عن تحقيقها، احتشدت جميعها بطريقة عاصفة في عقله المريض الذي يعيش لحظاته الأخيرة.
ويقدِّم صانع الفيلم محمد السلمان هذا المعنى، مُستعينًا بإشارات أو مفاتيح تأخذنا نحو عالم اللاوعي منذ البداية، وذلك من خلال ترديد البطل لكلمة «أحس» بصورة مفرطة لا تتناسب مع هيئته الشخصية، وأيضًا من خلال مشهد “مطر الأدمغة” الذي جاء في مستهل الفيلم، والذي توحي غرابته بأننا على وشك تجاوز عتبة ما للدخول في عالم آخر، أو في بُعد آخر.
في هذا العالم الموازي الذي يعيشه ناصر، سيكتب أغنية لحبيبته الجميلة، بمساعدة صديقه مُربِّي الحمام، وستكتب عنه الصحافة بدعمٍ من صحفيٍّ فنيٍّ تعرَّف عليه في مكان ناءٍ؟ كما سيُختطف من قبل حزبيين من تيارات فكرية مختلفة يجلسون في سيارة «فان» كما لو كانوا يعقدون مؤتمرًا صحفيًا. أمَّا حبيبته التي يطاردها في كل مكان، فستأتي إلى الفندق الذي يعمل فيه، لتزور شاعرًا حداثيًا. وغير ذلك من اللوحات الغريبة التي ينثرها عقل مضطرب.
أمَّا اختيار مطلع الألفية زمنًا لأحداث الفيلم، وتحديدًا في عام 2002م، فلم يأتِ عبثًا، بل يمكن أن نقول إن مخرج وكاتب الفيلم محمد السلمان أراد أن يحكي عن تلك الفترة ابتداءً، ولم يجد سوى قصة هذيان عقل البطل مدخلاً لوصف الصخب الذي عاشه السعوديون في ذلك الوقت. السعوديون عمومًا، وليس في مدينة الرياض فقط، إذ حاصرتهم الصراعات الفكرية، وعمَّت أفكار التطرف، وجنون ما يُعرف بالصحوة، والقيود، والضغوط الاجتماعية، وتداعيات ما بعد سبتمبر؛ حتى أصبحت الحياة – حينها – غير واقعية من شدة ما يعصف بها من تناقضاتٍ لا يمكن وصفها إلا عبر حكاية صاخبة مثل تلك التي تسبح في عقل شاب محبط يُقاتل من أجل إنقاذ حلمه، والخلاص مما هو فيه.
إن هذا المعنى الممتاز، وتصويره بهذا الأسلوب الفني المُركَّب، الذي يتأرجح بين الخاص والعام، يجعلنا أمام فيلم سعودي جميل، ذهب نحو منطقة سردية جديدة تمامًا، تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ ما فعله تشارلي كوفمان في فيلمه الأخير I’m Thinking of Ending Things، من حيث القدرة على تصوير اللاوعي، واللاواقع، بصورة واقعية، تقود المتفرج إلى ملامسة الوهم الداخلي للبطل كما لو كان حقيقة. وقد أنجز محمد السلمان ذلك بقدرة فائقة، وبتحكمٍ جيدٍ في أدواته التعبيرية، وفي شخصياته.
ورغم ما شاب الفيلم من فتور في بعض أجزائه، فإنه احتوى على صور بديعة، ولقطات جميلة، مثل لقطات عبور فتاة الأحلام، ومشهد إلقاء القصيدة في تأبين الشاعر الحداثي. كما تميز بجودة تصويره لتلك الفترة، بأدواتها وإكسسواراتها، هذا إلى جانب التمثيل الذي كان ذكيًا في البدء باختيار الممثلين المناسبين تمامًا، ثم في أداءات هؤلاء الممثلين، وفي مقدمتهم بالطبع البطل الذي يُمثل للمرة الأولى عاصم العواد، والمتألق إبراهيم الخير الله الذي كان لافتًا بحضوره الطاغي عبر شخصية الصديق الفاشل محدود التفكير، الذي يزيد من سوء الأمور دومًا.
بمقاييس السينما السعودية، وظروفها الإنتاجية الراهنة، يمكن القول إن فيلم «أغنية الغراب» فيلم متجاوز للمرحلة، وسابق لأوانه، سرديًا وجماليًا، وقد يكون لهذا تأثير كبير في ضعف أدائه في شباك التذاكر! إذ لم نعهد من قبل فيلمًا سعوديًا بمثل هذا التركيب متعدد الأبعاد، وهذا التداخل بين المعنى والأسلوب. كما أن لدى الجمهور توجسًا مُبررًا من أي عمل محلي ينحو تجاه الغرائبية والرمزية وعوالم اللاوعي؛ ربَّما لسوء التجارب السعودية السابقة التي ذهبت نحو هذه المناطق.