نور هشام السيف
على مر تاريخ فن الكوميديا تُرسم الأدوار كخطوط مُتباينة ومُتنافرة بشكل صارخ لتشكل مسارًا في تكثيف صناعة الضحك، وهي مسألة حسَّاسة تتقيد برسم شخوص دون الوقوع في الكليشيهات المعتادة.
من أبرز ملامح الشخصيات الرئيسية في تاريخ الكوميديا هي شخصية البطل المستكين الذي يغفو بجانب أحلامه المُؤجلة، ويتجاوز كل فعل شيطاني مع اجتناب أيِّ ردة فعل مُؤذية، واحتفاظ وجهه بسيماء البلاهة أو القلق والإحباط الناجم عن تعاطيه مع أمنياته وواقعه الحالي المليء بالخيبات؛ حتى تأتي شخصية المنقذ في منتصف الأحداث على هيئة “صديق “، “رجل غامض”، “مجرم سابق”، أو “جني” فيدفعه نحو السعي المحموم والجرأة والجسارة الملائمة لسياق القصة.
وفق هذا السياق الذي نتحدث عنه، فعليه أن يكون “سطَّارًا”، وهو تعبير أدائي يعني صفع الآخرين حسب مسار القصة، هو لقب تحفيزي يرفع عن الشخصية انكسارها الداخلي وإحساسها بالفشل.
يحمل الفيلم العنوان نفسه “سطَّار” من إنتاج “استديو تلفاز” و”موفي استديو”، وإخراج عبدالله البراك، وقد تم عرضه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في الدورة المُنقضية كعرض عالمي أول ضمن 7 أفلام سعودية طويلة.
ينطلق “سطَّار” من مفهوم العنف لقوة التصرف بالتوازي في خط السرد على تكريس قوة الطيبة والإيثار، وهي صفات لم يخب حضورها مع محاذاة سطوة الفعل الجسدي.
الشخصية الرئيسية في الفيلم “سعد” قام بأداء الدور الممثل إبراهيم الحجاج، الذي تمكَّن من أن يطرز العلاقة بين ملامح وجه الشخصية الخارجية، وبين ما تفكر فيه من الداخل بشكل دقيق.
“سعد” موظف في شركة تأمين يمارس العمل الروتيني بتململ، مُنشغل مع خطيبته في تجهيزات شقة الزوجية وأقصى ما يحلم به في الأيام القريبة هو الحصول على علاوة حتى يُلبي متطلبات خطيبته وشروط والدتها المتعسفة. وفي لحظات الشرود يقفز في خياله حلمه الطفولي بأن يصبح مصارعًا وله معايير النجومية الاحترافية.
يتعثر “سعد” في أول محاولة ويُمارس عليه التنمر المجتمعي، يتحمَّل إلى أن يلتقي بوكيل المصارعين الذي يحيله بدوره إلى عالم انتقالي كثيف لا يخلو من الإثارة والغموض والضحك المتواصل.
لم تلبث تبعات أول لحظة يأس مع “سعد” أن تستحوذ عليه حتى ظهرت شخصية “أبو هوقن” التي يقوم بها عبدالعزيز الشهري، فمنذ بدء هذا المشهد والمشاهد التي تليه، ظهرت أولى نقاط ضعف الفيلم، وهي آلية التسارع بين المراحل الانتقالية والركض وراء تشكيل نقاط التحول.
“أبو هوقن” شخصية مُغلَّفة بالغموض والغرائبية تدفع المتلقي نحو الترقب والبحث عن حقيقة هويته، أن تضع في السيناريو شخصًا غريب الأطوار مثل هذه الشخصية مقابل شخصية مستكينة سيؤدي إلى أن تشعر الأخيرة بطبيعة الحال بإحساس الخوف والخنوع تجاه استقبال كل ما يصدر من أفعال وتعليمات من الشخصية الغرائبية، التي قدمها “الشهري” بمنهج تفصيلي مميز، غير أن الشخصية انتهت كما بدأت دون مفاجآت أو تباينات على صعيد الهوية.
إذا ما نظرنا إلى الوجه الآخر شخصية عبدالخالق الباكستاني (إبراهيم خير الله)، نجد أنها تتقاطع مع شخصية (أحمد زكي – سفروت) في فيلم الباطنية 1980م، حيث تنكر في دوره في شخصية ضابط المباحث في صورة عامل من هامش المجتمع بلهجة مختلفة وملابس مهلهلة، كشخصية مناقضة تمامًا لهيبة الضابط ومكانته الوظيفية والتوغل (وإن كان عبدالخالق هنا يصنع لنفسه هيمنة في المحيط الهامشي) في هذه الصورة العكسية تتحقق عنصر المفاجأة أثناء السرد في لحظة الكشف عن الهوية الحقيقية.
غير أن “عبدالخالق” شخصية مُعلنة وممتدة الجسور مع شريحة الجمهور السعودي، إذ سبق أن قدمها “خير الله” في اسكتشات كوميدية سابقة عرضت في سلسلة “تلفاز” على اليوتيوب وقد عزز عنصر التكرار في اتساع شعبية “خير الله”، استنادًا إلى هذا القبول قام بطرحها هنا كفكرة ممتدة وكتابة بالشراكة مع الكاتب “أيمن وتار” لتطويرها بوجه تكثيفي يعبِّر عن قوة خالصة. وهذه أيضًا إحدى الطرق الأسلوبية في توجهات الفيلم الكوميدي العائلي.
على خلفية هذه الحكاية البسيطة نرى كوميديا مليئة بلحظات الترقب والقلق، الأمل واليأس، البلاهة والمكر، السذاجة والدهاء، الفشل والنهوض؛ كل شيء يستدعي النقيض بشكل واضح وإيقاع متصاعد.
الحبكة هنا متوسطة لأنها قُدِّمت ضمن قوالب كلاسيكيات الكوميديا، إذ تستلزم وضع ملامح قصوى لكل شخصية في الملامح التعبيرية المبالغ فيها، والإيحاء المُضخم، فاتسمت الشخصيات المساندة حول “سعد” بتركيز أحادي بارز بعيدًا عن التشعب السلوكي الإنساني. ويعود ذلك – كما ذكرنا سلفًا – للعُرف الكلاسيكي المنتشر في أفلام الكوميديا بمصنفاتها العائلية أو الرومانسية أو الحركة. إذًا: أي سرٍّ يا تُرى في هذه الأحداث البسيطة التي صُوِّرت معظمها داخل حفرة خافتة الأضواء وأغلب مشاهدها تدور في حلبة مصارعة؟.
إن جاذبية عالم المصارعة والمصارعين تستقطب شريحة الأطفال والمراهقين والجيل الشاب عمومًا، خاصة أن الفيلم مليء بفقرات أغاني الراب الجذَّابة وإيقاع الهيب هوب الموسيقي المميز. كذلك جودة التصوير وعنصر الكاريزما العالية والحس الفكاهي الذي أضاف مفعول الضحك المتواصل في الصالة، من المشهد الأول حتى الأخير. ليس من السهل توفر كل تلك العوالم مجتمعة وتحقق شروطها في صناعة حرفيَّة للفيلم الساخر؛ إن استطعنا اختزال تحقق الشروط كطاقة للفيلم فلا تحتمل بساطة الحكاية وطريقة سردها أكثر من هذه الطاقة.
يُذكر أن “سطَّار” حقق أكثر من 9 ملايين في شباك التذاكر، وما زال ضمن الأفلام الأكثر حضورًا في صالات السينما السعودية.
كان من الممكن أن يظهر الفيلم ويخفت سريعًا مثل تجارب سينمائية كوميدية سابقة تم إنتاجها في السنوات الأخيرة، رغم توفر آليات الإنتاج التي شملت العوامل الإيجابية المذكورة آنفًا. كان من الممكن أن يمر مرورًا هادئًا لولا وجود فرقة جيدة من الممثلين الموهوبين المتنوعين من فريق “تلفاز”، خاصة أنه بات من الضروري الآن إيجاد مقترب لكل منهم، ومفتاح خاص، وتوجيه خاص نحو الطريق الذي هم بحاجة إليه، كما هي السينما السعودية بحاجة إلى التفرُّد المتقن، بعيدًا عن “منطقة الراحة”.