رجا ساير المطيري
في عام 1990 قدَّم المخرج مارتن سكورسيزي فيلم الجريمة الشهير Goodfellas بأسلوب سردي مميز، اعتمد فيه على صوت الراوي/ البطل/ المجرم الذي يُطارد اللقطات السريعة، ويصف الحدث والدوافع والمبررات والعواقب من منظوره الخاص، وسط مزيج بصري صوتي بديع، وبسيناريو دائري بدأ بمشهد من منتصف القصة، ثم عاد له تاليًا بعد أن أوضحَ قيمة هذا المشهد، ولِمَ كان محوريًا في حياة البطل.
وأنا أصف لك بعض العناصر الفنية المميزة لهذا الفيلم، سيبدو لك الأمر هيّنًا، وأن بإمكان أي مخرج أن يُحاكي ما صنعه سكورسيزي بسهولة. أليست وصفة النجاح واضحة؟ والمُكونات واضحة؟ ألم يُكررها سكورسيزي نفسه في فيلمه الآخر Casino؟ لقد حاول بعض المخرجين عمل ذلك، خاصة في أفلام الجريمة، لكن النتيجة لم تكن بذات الجودة، ومن أشهر هذه المحاولات فيلم A Bronx Tale لمخرجه روبرت دي نيرو. أمَّا أفضل المحاولات وأقربها لأسلوب سكورسيزي، فكان فيلم Flipped للمخرج روب راينر، رغم أن موضوعه رومانسي.
هذا الأسلوب ليس سهلاً كما يبدو في ظاهره، وذلك لأنه مكوَّن من عناصر متداخلة بشكل معقَّد، فإلى جانب صوت الراوي المتدفق من البداية إلى النهاية، هناك اللقطات القصيرة اللاهثة، وهناك الصوت والموسيقى، والصورة وحركة الكاميرا، والألوان، وقبل كل شيء الحدث نفسه الذي ينبغي أن يكون كاملاً ببدايته وذروته وخاتمته، وموزونًا بمقياس دقيق مع كل العناصر السابقة. إن ضبط هذه العناصر ومزجها في سياق واحد متناغم، يتطلَّب شخصية مخرج أولاً، ثم إلى جهد كبير في غرفة المونتاج. ومن هنا جاء تقدير المغامرة الفنية التي خاضها المخرج السعودي عبدالإله القرشي في فيلمه «الهامور ح.ع»، الذي ذهب فيه إلى قصة حقيقية حدثت في مدينة جدة مطلع الألفية الجديدة، وأعاد تقديمها بقالب قريب من قالب Goodfellas، في خيار فني جريء، خاصةً لمخرج سعودي ما زال يخطو خطواته الأولى في صناعة سينما تجارية ما زالت في طور الولادة.
يتابع فيلم «الهامور» قصة شاب طموح، يسعى للقفز من مركب الفقر إلى عالم الثراء بأي طريقة، فيذهب إلى مدينة جدة بحثًا عن فرصة عمل، ويبدأ رحلته بوظيفة «حارس أمن» يكتشف من خلالها مهاراته في البيع والتسويق، والتي تطورت إلى أن أصبح واحدًا من أكبر بائعي «بطاقات» شحن المكالمات الهاتفية المعروفة بـ«البطاقات مسبقة الدفع»، بثروة تجاوزت مئات الملايين، جمعها من المساهمين الراغبين في مشاركته نجاحه وثراءه. وهذه الطريقة في بناء الثروة كانت شائعة في المجتمع السعودي قبل نحو عشرين عامًا، و«الهامور» المقصود في الفيلم، له امتداد حقيقي في الواقع، وكان حديث الإعلام والناس وقتها، بصعوده وانهياره، ومحاكماته المثيرة.
لكن القصة الحقيقية لا تكفي لبناء فيلم جيد، وهذا ما اشتغل عليه المخرج عبدالإله القرشي بوضوح وتميز. فالفيلم تجاوز القصة نفسها إلى أبعاد فنية جميلة، تكشف عن قوة شخصية المخرج، ورؤيته، وأسلوبه، وقدرته على تطويع كافة العناصر الفنية لخدمة القالب السردي الذي اختاره لحكايته، والفضاء الروائي الذي تسبح فيه شخصياته.
منذ بداية الفيلم يُرافقنا صوت الشخصية الرئيسية «الهامور حامد» – أدى دوره فهد القحطاني – ليصف لنا مكان نشأته في حواري مكة وأزقتها، كاشفًا عن هواجسه، وطموحاته، ورغبته للانتقال إلى جدة حيث الفرص أكبر. ويروي ذلك بإيقاع سريع، ولقطات قصيرة، وموسيقى حاضرة مع كل انتقالة في الحدث أو المكان، وإحالات ذكية للماضي، وللذاكرة الشعبية، مع أداء داعم لهذا الأسلوب من قبل الممثلين، سواء من الراوي حامد، أو رفاقه في المغامرة؛ سليمان (الممثل خالد يسلم)، وأبو عزة (الممثل إسماعيل الحسن)، وجيهان (الممثلة فاطمة البنوي)، وفاطمة (الممثلة خيرية أبو لبن)، الذين قدموا في مجملهم أداء ممتازًا يتناسب مع حدود الحكاية وأسلوب الفيلم.
إن ضبط إيقاع الفيلم على هذا النحو منذ البداية إلى النهاية، وقدرة المخرج على أن يُوجِّه موضوع حكايته من الفقر إلى «حُلم» الثراء، إلى تحقيق الثراء، ثم السقوط والانهيار، وفق أسلوب سردي بصري مُحكم وصارم، امتد حتى مشهد النهاية الذي كان مفاجئًا على نحو لطيف. إن هذا الضبط، وهذه القدرة، يُشيران إلى القيمة الفنية للمخرج، وإلى دوره وتأثيره، وقوة توجيهه للحكاية، وتحكُّمه في العناصر الداخلية للصورة؛ وهذا أمر نادر الحدوث ليس في السينما السعودية فقط، بل حتى في الدراما السعودية عمومًا. فلو نظرنا إلى تاريخنا لوجدنا أن الأعمال السعودية التي مارس فيها المُخرج فنَّه، وذهب إلى مناطق جمالية محضة؛ أعمال محدودة، نذكر منها: «وجدة» هيفاء المنصور، و«مطر» عبدالله آل عياف، و«بركة يقابل بركة» محمود صباغ، و«آخر زيارة» عبدالمحسن الضبعان، و«أغنية الغراب» محمد السلمان.
والذي يجعل من المخرج عبدالإله القرشي استثناء عن كل الومضات الجمالية السعودية السابقة، أنه في فيلمه «الهامور ح.ع» ذهب إلى خيار سردي أصعب، وصنع لفيلمه شكلاً ومنطقًا وإيقاعًا تمكن من التحكم فيه من البداية إلى النهاية، وكل ذلك دون سابق إنذار! فمسيرة المخرج السابقة لم تكن توحي بهذه القدرة الفنية الفائقة، رغم أن فيلمه الطويل السابق، والوحيد، فيلم “رولم”، تناول هواجس الفن وهمومه، إلا أن أسلوبه كان بسيطًا إلى حد التقشف.
ويُضاف إلى ذلك أن فيلم «الهامور» استهدف صالات السينما التجارية، وقالبه شعبي تجاري، وموضوعه الجريمة، ومع ذلك لم يتنازل عن الشرط الجمالي، وظهر كما يجب أن يكون الفيلم التجاري الصحيح؛ أن يكون فيلمًا جيدًا قبل أي شيء آخر. وهذا ما منحه القدرة على مواصلة عروضه السينمائية لمدة قياسية.
لقد وصل «الهامور» إلى صالات السينما بهدوء، ودخلها بخجل، ثم احتلَّها لأكثر من شهرين دون أن تسبقه أي حملة ترويجية ذات قيمة، مكتفيًا بالانطباعات الجيدة والتوصيات التي يتناقلها الجمهور فيما بينهم، بطريقةٍ تعد أرفع درجات التسويق؛ إذ من هو أفضل من المُشاهد أو المستهلك النهائي ليُروِّج فيلمًا ما؟ إنها نتيجة رائعة يتمناها أي صانع فيلم في العالم، فكيف بمخرج سعودي يخوض في منطقة جديدة تمامًا؛ منطقة مارتن سكورسيزي، التي تبدو من الظاهر ذات دروب بسيطة وواضحة، لكنها في العمق معقَّدة بما يكفي لتقدير ما ظهر في «الهامور ح.ع».