عهود منصور حجازي
«سطّار» فيلم كوميدي، تجري أحداثه في مدينة الرياض، اسمه باللهجة السعودية يعني: مَن يُسدي الضربات، أي ضَرّاب، وهي صيغة مبالغة من الضرب. من إخراج عبدالله العراك، وسيناريو أيمن وتار، وبطولة إبراهيم الحجاج، وعبدالعزيز الشهري، وإبراهيم الخير الله.
يعرض الفيلم قصة شاب اسمه سعد «إبراهيم الحجاج» يحاول توفير ماديات الزواج عن طريق المشاركة في مسابقة للمصارعة، تمنح الفائز الأول مبلغًا ماليًا كبيرًا، لكنه يجد نفسه أمام أهداف أخرى يحاول تحقيقها بهذا المشاركة.
تقدّم شخصية سعد شابًا في حدود الثلاثين من العمر، من الطبقة المتوسطة، مرتبط بفتاة من عائلة متطلِّبة، تكلّفه الكثير من المال من أجل إتمام الزواج، ومن أجلها خطرت في ذهنه فكرة المشاركة في هذه المسابقة، فيتقدم لتجارب الأداء.
في مشاركته الأولى لتجارب الأداء، يُمنى سعد بهزيمة ساحقة، تجعله عرضة للتنمّر، وتُنشَر لقطات هزيمته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيصبح وجهه مشاعًا للسخرية، فيُلاحقه الناس بالشماتة في كل مكان؛ مما يتسبب في عزلته وابتعاده عن الحياة الاجتماعية، ليتلقَّى عرضًا مشبوهًا للمشاركة في بطولة للمصارعة الحُرّة، يقع مقرها تحت الأرض، يقوده إليها رجل مستغِلٌّ، ينوي تسديد ديونه من خلال فوز سعد، ويدّعي أنه مدير أعمال المصارعين واسمه علي هوجن «عبدالعزيز الشهري» فيدفعه إلى التدريب مع مصارع من الجالية الهندية يُدعى عبدالخالق «إبراهيم الخير الله». يقارع سعد عدّة مصارعين بعد اختيار هوية جديدة، هي هويّة «سطّار»، التي تبدو مضحكة بألوانها وتصميمها، ومظهرها غير الجاد، والتي استطاع بها إخفاء هويته السابقة، وتغطية وجهه الذي اعتبره الناس أيقونة للهزيمة.
ولكن بعد أن يبني «سطَّار» سمعته، ويجذب الأنظار نحوه لفوزه المتكرر، تطلب منه خطيبته فلوة «شهد القفاري» الانفصال، فيشعر باللاجدوى، ويقرر التوقف عن مطاردة حلم الفوز. لكن علي هوجن وجَدَّه المصارع القديم «عبدالعزيز المبدل» يحثَّانه على المواصلة حتى النهاية بمعيّة الجماهير الغفيرة التي أصبحت تعرفه.
يأخذنا هذا الفيلم في مواجهة مع أنفسنا أمام الآخر «الذي هو هنا الشاب المستضعَف» الذي حين يسقط؛ فإن الجماهير تهتف لسقوطه، وتبتهج بشعور الشماتة والانتصار الخفيّ الداخلي على هذا الجزء الذي تحاربه داخل نفسها، ويقصد به: الجزء الذي لا يتشابه مع الآخرين، ويختلف اختلافًا مثيرًا للشفقة أحيانًا. لكن هذه الجماهير نفسها تذهب في صفّ هذا المختلف وتهتف له ما إن يظهر تميّزه في مجالٍ ما، بل وتدعم وتساند، ويخطف اهتمامها التطلّع للأهداف القادمة التي ترجوها من بطلها الذي كان مستضعَفها بالأمس؛ الأمر الذي يجعلنا حائرين أمام هذا التناقض في الموقف العاطفيّ للجمهور، الذي سار في تيار التنمّر والسخرية في بدايات البطل، دون اعتبار لما يترتب عليهما من تدمير له على الصعيد النفسي والاجتماعي، من ثم انتقلت الجماهير للتعبير عن تضامنها بالتعاطف المناقض لموقفها الأول، وأبدت رغبتها في رؤية البطل متوّجًا بالفوز، داعمة له بالحضور والتشجيع.
نجدنا هنا أمام عدة جماهير:
الجمهور الأول هو المجتمع المحيط بالبطل سواء كانت دائرته القريبة «عائلته وزملاءه»، أو دائرته البعيدة «الناس الذين يعرفونه في الشارع».
الجمهور الثاني هو جمهور المشجعين في حلبة المصارعة.
الجمهور الثالث هو جمهور المشاهدين في قاعة السينما.
نلمس في الأحداث التحوّل التدريجي لمشاعر الجمهور الأول المحيط بالبطل، الذي تطارده نظرات الاستخفاف وعبارات الهمز واللمز في بداية القصة. ويمكننا ملاحظة تأثير هذه الأفعال على علاقاته في البيت والعمل، وعلى قراراته وإنتاجيّته. فالمجتمع الشبابي المتمرد والمتمركز في برامج التواصل الآنية يرفع بسرعة هائلة من شأن الأشخاص وينال بنفس السرعة من سمعة آخرين، وذلك بناء على موقف واحد أو كلمة عفوية، أو سياق يتسم بالخصوصيّة ولا يباح نشره. ومن الأضرار التي لحقت به جرّاء التنمر رغبته في الانعزال واجتنابه للحياة الاجتماعية، وكذلك طلب خطيبته قطع العلاقة معه؛ مما أدى به إلى الإحباط ومحاولة الانسحاب من المباراة الأخيرة.
لكن البطل وقد تورّط بكونه تحت دائرة الضوء بشكل سلبي؛ يكافح للخروج من تحت المجهر بمحاولة طمس هويّته القديمة عن طريق محاولة التنكّر في أزياء مختلفة، منها ما يغطّي وجهه بالكامل لكي يمحو قصته من أذهان المحيطين فلا تعود للطفو من جديد كلما التقى بالناس.
ويجابَه في بدايته الجديدة بنقاط ضعفه التي كانت سببًا أساسيًا في جعله مادة للتندّر، محاولاً التدرّب باستمرار للتغلّب عليها. هنا يُلاحَظ الاختلاف في ردود أفعال الجمهور الثاني وهو جمهور المشجعين، الذين كان دافعهم للمشاهدة في البداية التلذذ بسقوط المهزوم، ثم تحدث النقلة ببطء كلّ مرة، حين يقاوم البطل خصومه، ويدرس مفاتيح التفوق على كلٍّ منهم، فيقف الجمهور حائرًا بين الضحك عليه وبين ترقّب انتصاره، حتى يُبرز المشهد الأخير تشجيعًا خالصًا للبطل، مصحوبًا بهتافات وأغانٍ ولزمات كلامية تُنعش ذاكرته وتوقظ همّته.
كما لوحظت ردود أفعال الجمهور الثالث، وهم الحضور داخل قاعة السينما بتفاعلهم بالضحك وإطلاق الألقاب الساخرة على البطل وقت سقوطه وهزيمته، وكذلك السخرية منه أثناء محاولاته للفوز، ولكنهم صاروا جزءًا من مؤيديه بالتصفيق والتصفير حين تحسّن مستواه الأدائي ووصل إلى المباراة الختامية. ويمكن هنا عزو مشاركة جمهور الحضور الفاعلة إلى زوايا التصوير التي اعتمدت القرب من الشخصيات والتجوّل داخل الأماكن بمسافات قريبة، أتاحت للمشاهد التفاعل مع الحدث كأنه جزء منه ومشارك في صناعته، إضافة إلى الموسيقا التصويرية التي أسهمت بدورها في الحفاظ على يقظة المشاهدين، عن طريق التوليف بين المشهد والموسيقا، لا سيما الاختيارات الذكية للأغاني التي لا تخلو من حماس ومتعة، والتي صاحبت دخول المصارعين إلى الحلبة في كل منافسة.
يمكن هنا استخلاص محرّك تفاعل الجماهير الثلاثة بعزوها إلى العواطف اللاواعية، التي تُضعف الحكم الشخصيّ للفرد حين ينخرط في جماعة فيصبح جزءًا منها. فالنيل من الضعفاء أمر لا أخلاقي، لكنه عند التصعيد جماهيريًا يصبح معقولاً وغير مستهجن. وكذلك الالتفاف حول المنتصر والرغبة في الانقياد له، يمكن تفسيره بتصوّر الجماهير اكتساب قيمة أعلى لوجودها حين تجتمع عليه. وفي هذا السياق يقول «غوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجية الجماهير، 1991» إن «نفسية الناس المنخرطين في الجمهور تختلف أساسًا عن نفسيتهم الفردية، وإن الذكاء الفردي لا يلعب أيَّ دور في هذا المجال، فدوره يتعطّل عندما يصبح الإنسان منخرطًا في الجماعة».
بالحديث عن عواطف الجماهير، تلوح في الأذهان الأحداث الأخيرة لفيلم «العطر»Perfume «2006» من إخراج «توم تايكور»، عند اقتياد «جرونوي» بطل الفيلم إلى ساحة الإعدام، وسط جنون الجماهير للنيل منه والتشفّي بمشاهدة تعذيبه حتى الموت، ثم في لحظات ينقلب الموقف لصالحه بفعل قطرات العطر التي يفوح بها جسده في الأجواء، ويتحوّل الجمهور مِن راغبين في قتله، إلى متعاطفين معه، واعتباره مستحقًا لإطلاق سراحه.
تجدر الإشارة إلى إجادة اختيار الممثلين وجودة أدائهم في فلم «سطَّار» بحسب أدوارهم المسندة إليهم، فالمصارعون جسّدوا القوة والبأس بهيئة أجسادهم العضلية وشخصياتهم النافدة، والمحتال مدير الأعمال «علي هوجن» تزيّى بملابس بعيدة عن الذوق وطريقة في الكلام مثيرة للنفور، عكستِ الدور المتذبذب الذي يؤديه. وكذلك ضابط المباحث «عبدالخالق» الذي تمكن من خداع المشاهدين بشخصية الأجنبي الذي يعيش وسط جاليته ويتحدث بلكنتها العربية «المكسّرة» التي لا يخطئها السمع، ثم بشخصية رجل الأمن السعودي الذي يحاول الإيقاع بوكر المجرمين وتسليمهم للعدالة. كما أن البطل «سطَّار» بشعره الأشعث ومشيته العشوائية وتعليقاته العفوية، إضافة إلى بساطة المظهر وزيادة الوزن الملحوظة؛ دلّ على الشخصية الليّنة التي تمكنت التجربة من صقلها وتقديمها بصورة المستحِقّ لنيل احترام الناس بتطوّر مُقنع وتدريجي.
لقد نجح «سطَّار» – في رأيي – في تقديم مادة كوميدية واقعية، تشهد على أن السينما السعودية بما تلقّته من دعم واهتمام قادرة على طرح الرؤى المتنوعة بمستوى عالٍ وقادر على المنافسة، وبأنَّ شبابنا استطاعوا تقديم عصرهم بوضوح بما يحمله من إنجازات ومصاعب.
* باحثة دكتوراه