نواف الجناحي
كتبت هذا المقال بعد دعوتي للمشاركة في ندوة حوارية تحمل عنوان «الصناعة السينمائية الخليجية بين الممكن والصعب والمستحيل» في معرض الرياض الدولي للكتاب 2022، وارتأيت أن أبدأ هنا بالمستحيل، فالصعب، فالممكن.
المبدأ
تتكرر في منطقة الخليج العربي الأسئلة عن السينما، وعن أفلامها، وعن صانعيها. السعي نحو الإجابات مهم، ولكن الأهم تحليل مسارات من سبقونا وفهم معطيات الأرض التي نتعامل معها؛ كي نتمكن من تقديم حلول عملية والتقدم بخطوات فعّالة.
المستحيل أن نقفز
صنع فيلم يحتاج إلى وقت، وإلى عمل جماعي، لتحقيق رؤية واحدة. كذلك، تأسيس صناعة السينما يحتاج إلى وقت، وإلى عمل جماعي، لتحقيق رؤية واحدة. القفز على الزمن مستحيل لما يحتاج الزمن كي يبقى. الرهان فقط على المادة والشغف ليس خيارًا حكيمًا هنا، فالأمر ليس كن فيكون في مجال السينما، لأن طبيعته تستلزم الوقت لبناء هيكل قوي ومتماسك، وتستدعي التراكم لخلق تأثير متوازن ومتنوع.
في طريقنا معًا نحو الصعب والممكن، لا مفر من حتمية الإيمان بالتعاون، وبالتكامل، وبالديمومة. يجب أيضًا إدراك أن حركة صنع الأفلام مهما نشطت شيء، وانتقال هذه الحركة إلى مستوى صناعة السينما شيء آخر تمامًا.
الصعب أن نغير
الصعب يمكنه أن يقترب بنا نحو الممكن، ولكن إن لم يُخَطَّط له وتُحَلَّل نتائجه جيدًا، فلن نضمن سوى بقائنا في المستحيل. نهج التغيير يجب أن يكون مدروسًا بعناية، ويعتمد على الأشخاص المناسبين؛ فثقل الجهود غير الفعّالة قد يؤدي إلى فقدان الرغبة ذاتها. منظور الرؤية يجب أن يتجاوز نتيجة فيلم ما، أو مشروع ما، إلى نتيجة العمل على إعادة توازن الثقافة العامة والوعي الجمعي، لدينا ولدى الآخر.
إن أصعب تحدٍّ يواجه تأسيس صناعة السينما المحلية لدينا هو الصور الذهنية والأفكار النمطية السائدة، تلك التي كَوَّنها الآخر عنا، تلك التي كَوَّناها عن أنفسنا، وتلك التي تسللت إلينا عن السينما والفنون بشكل عام.
نحن نعيش حاليًا مرحلة بالغة الأهمية، بها قرار واضح وجهود مكثفة لتعديل الأفكار السلبية والمفاهيم المغلوطة التي جعلت مجتمعاتنا تخسر الكثير على كل الصُّعُد. هذا القرار يجب أن تعكسه أفكار وآليات العمل في قطاع السينما، وكل القطاعات الأخرى التي يمكن أن ترتبط به. بتعاوننا معًا الآن، سنتجاوز هذه المرحلة في زمن أقل، وسننمو بصلابة أكثر.
الممكن أن نبني
الممكن في أيدينا، مجانًا، لأن غيرنا سبقونا. بدأنا متأخرين جدًا، صحيح، ولكنه وضع يقدم لنا مزايا المعرفة وهدايا التاريخ التي تختصر علينا الكثير من الوقت. الأجدى أن نبني على ما سبق، بدلاً من تقديم حلول لاكتشاف المكتَشَف ولاختراع المختَرَع. إضافتنا التي نريدها هي رَوحَنة القائم بروحِنا وتوطين العالمي لدينا. تحقيق ذلك لا يأتي إلا بالنمو المتوازي لتنوع الإنتاج، ولفاعلية التعليم.
في دربنا نحو النتيجة المطلوبة، لا يجب الاكتفاء بوضع الإنتاج والتعليم ضمن خطط قصيرة المدى فقط، كما نرى دائمًا حتى اليوم في منطقتنا للأسف. التركيز على أهداف قصيرة المدى مهم بلا شك، ولكن الوصول إلى ما نريد في قطاع مثل السينما يحتاج إلى خطة طويلة المدى، ونَفَس طويل المدى، وبناء مستمر بلا مدى. الأمر يحتاج إلى صبر ودقة، وإدراك أن ما نبنيه الآن يجب أن يبقى لمن سيأتون بعدنا.
خطط الإنتاج يجب أن تكون دائمة لضمان مناخ عام صحي، غير متقطع، غير مؤقت، يجب أن يكون منها ما يستثمر في أفراد بعينهم لدعم مساراتهم المهنية، ويجب أن تتنوع أهدافها لتستوعب أنماط الأفلام باختلاف أنواعها. هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال الاتجاه نحو صرف المزيد من المال، بالعكس، الأفلام الأقل كلفة هي الأفضل في مرحلة البناء. الفكرة هي تأسيس وتيرة إنتاج معروفة، ومتنوعة، ومستمرة. أيضًا، هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال القبول بالضعيف، بالعكس، الإصرار على الجودة هو المطلوب دائمًا. الفكرة هي انتهاج أسلوب عملي قائم على التحليل، والتطوير، والمحاسبة.
خطط التعليم يجب أن تتضمن تهيئة الأجيال القادمة ابتداء من طفولتهم. أدعو في الإمارات منذ سنوات إلى إدراج حصص السينما في مناهج طلبة المدارس في كل المراحل السابقة للتعليم الجامعي. هذه الخطوة سترتقي بوعي وذائقة أطفالنا باستخدام مادة واحدة ذات ثراء فكري وتنوع معرفي بلا حدود. وإن كان منهم من سيقرر لاحقًا امتهان السينما، فسيكون قد قطع شوطًا تأسيسيًا مهمًا. أما غير ذلك، فهم أفراد أكثر معرفة وقربًا من الجمال، الأمر الذي سيساهم في نمو فئات جماهير الأفلام باختلاف أنواعها. إنها خطة بناء ذات نتائج مضمونة، وستجعل مجتمعاتنا في مكان أفضل.
الختام
في سعينا لفهم التباين بين المستحيل، والصعب، والممكن في تأسيس الصناعة السينمائية الخليجية، سنقلص الوقت، والجهد، والمال؛ وسنقدم الجودة، والقيمة، والتأثير، إن آمنَّا جميعًا بالإتقان، بالفكر، وبالحرفية. قطف ثمار السينما في صحراء الخليج العربي ليس مستحيلاً، الأمر يحتاج فقط إلى خطة ري متكاملة.
الرياض / 30 سبتمبر 2022