نور هشام السيف
بين المسمى والتكوين
(قتيبة) هذا هو اسمه ووسمه، وللاسم إشارات وتحولات قد تكون عابرة، وقد تبقى علامة فوق العينين. اسم حمله معه وهو يشرع في بناء حياته خارج حدود البلاد، الاسم الذي اختارته له والدته معلمة التاريخ، كما سمت بقية أبنائها بأسماء الفتوحات الإسلامية: ضمياء، دريد، خالد، عقبة، سعد، قتيبة.
ولد قتيبة الجنابي عام 1960م في منطقة بغداد الجديدة لعائلة يسارية ميسورة الحال، وهو ما جعل الالتباس حاضرًا بين أسماء أفراد العائلة وهوياتهم الأيديولوجية.
يقول في هذا الشأن: «لا أحب اسمي وأنفر منه، كما أنه يفتقد المرونة عندما يتم ترجمته أو نطقه إلى الإنجليزية. المفارقة لم يرد إلى سمعي اسم قتيبة في العراق حتى لحظة مغادرتي منه! الآن أرى اسمي ولقبي من خلال صفحات الجيل الجديد في مواقع التواصل الاجتماعي منتشرين انتشارًا هائلاً».
والد قتيبة هو عميد الكلية العسكرية الجنرال (داود الجنابي)، مؤسس الجيش الليبي في عهد الملك السنوسي، تمت تصفيته 1962م بشكل تراجيدي أثناء الانقلاب العسكري الموافق 8 فبراير، أو ما يُعرف بـ(شباط الأسود).
يستعيد الحادثة: «كانت أمي في المدرسة وتلقت الخبر عبر الإذاعة، نجحت نسبيًا في إخماد نوبة الفاجعة والكآبة، أمي متنورة جدًا وقوية جدًا، قوتها تعادل عشرة رجال، ما لم تفلح في ترويضه هو الخوف! لقد كان خوفها وقلقها علينا يسير بمحاذاة قوتها، جاهدت في حمايتنا طوال الوقت من التناحر السياسي الذي ساد خلال عقد الستينيات، وكان ذلك سببًا في انتقالنا بعد فترة إلى منطقة أخرى لا تشبهنا، وهي منطقة (زيونة دور الضباط)».
غياب الأب ولَّد الكثير من الحساسية لدى قتيبة الطفل، ذاك الغياب الموجع هو الحضور الطاغي في سرد أفلامه لاحقًا، سرد ينمُّ عن رغبة جامحة في مداهنة الموت.
انتقل قتيبة من مدرسة إلى أخرى بسبب تشتته الدراسي وعدم الانتظام، وبعد التخرج قدم إلى معهد الفنون، وتم رفضه بسبب عدم حصوله على تزكية من حزب البعث.
طريق السينما.. طريق الشعب
فيما مضى تعتبر بغداد أفضل مدينة لعرض الأفلام الأوروبية التي كانت تعرض باستمرار في سينما غرناطة، وسميراميس، والخيام، بالإضافة إلى المركز الثقافي الروسي.
وبينما ازدهرت وتكاثرت الحركات الطلابية في السبعينيات، كان لا بدَّ لقتيبة المراهق أن تتفتح عيناه على السياسة وأثرها على التجارب السينمائية. أعجب حينها بأفلام يوسف شاهين كونها تخاطب آمال الشباب، وبالواقعية الجديدة في السينما الإيطالية.
في ذات الوقت وضع قتيبة مسافة بينه وبين أي انتماء حزبي. حتى جاءت اللحظة الانتقالية، وهي عمله كمصور متدرب في جريدة (طريق الشعب) التي أشرف عليها العديد من الأسماء البارزة أمثال: فالح عبدالجبار، وفاطمة المحسن، وزهير الجزائري، وسعدي يوسف، وغيرهم من أعلام الثقافة العراقية.
في تلك الفترة المكثفة كان من السابق لأوانه الوصول إلى ما كانت تخبئه له الحياة!
القيادة تعمل بشكل تصاعدي على تصفية الأحزاب، وشن الحروب على المنظمات الثقافية وإفراغها من مؤسسيها؛ حرب على أي مفهوم للاستقلالية والانعتاق من هيمنة صدام وحزب البعث.
خشي قتيبة على حال أهله والضرر بهم، فقد تعرض للتوقيف أكثر من مرة لمجرد حمله الكاميرا. ورغم أنه مطلوب أمنيًا، فإنه نجا من شبح الاعتقال.
بودابست
يستحضر قتيبة بحزن شفيف: «الحرب الإيرانية العراقية على الأبواب قالتها لي والدتي بحزم: اخرج من هذه البلاد في أسرع وقت! وكانت تلك اللحظة.. لحظة الفطام المفاجئ، يعرف مرارتها جيدًا كل عراقي في المنفى».
اتجه قتيبة إلى المطار، وهو يُمنِّي النفس بالترحال إلى مصر لولا معاهدة السلام التي وضعت الحواجز بين أم الدنيا وعدد من بلدان الممانعة. في المطار تبيَّن له أن آخر طائرة خارجة من بغداد سوف تتجه إلى بودابست. وصل قتيبة إلى العاصمة، واعتقد في البداية أن الرحلة لن تزيد على شهر!
لكن الشهر امتد إلى أيام وأسابيع وأشهر وسنوات، أكمل فيها طريق التعليم الأكاديمي كاملاً، تخصص في التصوير الفوتوغرافي، وكان العراقي الوحيد في الدفعة، وقد صار يتعين عليه أن يفتح عينيه شيئًا فشيئًا على البداهة المحيطة به.
تجربته مع فواتير الغربة لم تكن بتلك القسوة المعهودة، فهو لم يعانِ من انتكاسة مادية، ولم يضطر إلى العمل في مهن أخرى؛ تمويل العائلة لم ينقطع يومًا، وبودابست مدينة رخيصة، وكانت من المدن التي تستطيع سماع مرافعة الغريب فيها.
قدم قتيبة أطروحة التخرج عام 1982م عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. وثق تفاصيل الحياة داخل المخيم قبل الاجتياح الإسرائيلي بأسبوعين وحين حدثت المجزرة.. تمت الهجرة الثانية للمثقفين.
يذكر قتيبة في هذا الشأن: «كنت أقوم بتحميض صور المخيم في منزل المفكر وعالم الاجتماع الدكتور فالح عبدالجبار. علاقتي بفالح وطيدة منذ أيام جريدة (طريق الشعب) لطالما شعرت معه بالرواح والسعة. في منزل فالح أستطيع فتح باب الثلاجة، لكني لا أستطيع أن أفعل ذلك في بيت أخي!».
عاد قتيبة إلى بودابست وقام بطباعة الصور الهائلة بعد أن لجأ إلى وزارة الثقافة الهنغارية لرعاية معرضه، وقد عزم على ذلك لثقته بأن الحكومة مناصرة للقضية الفلسطينية، فكان المعرض هو بوابته العريضة نحو السينما.
رحلة التيه والعتمة في شريط سينما
بعد حصوله على الدكتوراه من أكاديمية السينما انتابته رغبة عارمة للعودة إلى بغداد. انتهت الحرب، لكن الأمور تتجه أكثر نحو الضبابية، لقد هبط منسوب حماسه ولم يعد يشعر إلا بالخوف إزاء ذلك المجهول الذي تقدمه له الأيام. انتقل قتيبة في مطلع التسعينيات إلى العاصمة البريطانية لندن، وهناك كان يفيء بمظلة البيت العراقي الكبير للجالية من نوابغ وأدباء وأطباء وشعراء ومخرجين وفنانين،
وضع السينما في خريطته وأنشأ شركة reel art pictures.
أنجز من خلالها أفلامًا روائية ووثائقية، استقى مادته من التأمل والرغبة والحنين الجارف، حصد جوائز عدة في العديد من المحافل والمهرجانات. ومن أبرز الأعمال الفائزة على سبيل المثال ثلاثيته السينمائية: «الرحيل من بغداد»، و«قصص العابرين»، و«الرجل الخشب».
أفلام قتيبة تتطرق للهجرة كفكرة فلسفية. مع كل رصد لحالة هجرة فردانية سنرى أشياء تداخلت إلى درجة لا يمكن فرزها، يسرد من خلالها رحلة التيه ويحسن ترتيبها من جديد.
ولأن الذاكرة تملي عليه الملاحم المشهدية فتجعلنا نلتقط من خلال أعماله كيف يوغل في الماضي اكتشافًا وتساؤلات.
وربَّما من قدر المبدع العراقي أن يقتفي آثار أجداده على ظهره من حروب ومذابح ومنافٍ، تلك الندبة الغائرة تمنحه الإحساس بقياس مختلف في التعامل مع الأشياء، فأخرج سلسلة من الأفلام التسجيلية لمبدعي المهجر، ومن تلك الأعمال: «أرض الخراب: ما بين لندن وبغداد» الذي يتناول رحلة معاناة الممثلة المسرحية القديرة «ناهدة الرماح» ورحيلها القسري من العراق إلى لندن، وفيلم «الرجل الذي لا يعرف السكون» عن الممثل الكبير والمبدع الراحل «خليل شوقي»، وفيلم «عكس الضوء» وهو بورتريه بصري عن التشكيلي وأحد رواد الفن العراقي الراحل محمود صبري، وكيف حول مسكنه الصغير ومكان عزلته إلى متحف مصغر، وقد تعاون معه في إنجاز العمل الفنان «فيصل لعيبي».
مجموعة من الرموز العراقية التي عبرت الحياة دون أن يحفل الكثيرون بعد غيابها. مجمل تلك الأفلام ترتبط برؤية بصرية لأشخاص (السيرة) يقدم فيها المخرج إضافة مركزية لا ينفصل عنها المونولوج الداخلي.
تلفزيون
تقاطعت مشاريع قتيبة الجنابي السينمائية مع عالم التلفزيون، سواء في العمل مع التلفزيون الهنغاري، أو مع محطة تلفزيون الشرق الأوسط (MBC)، حيث أشرف على تصوير وإخراج أهم إنتاجات برامجها الثقافية في حقبة التسعينيات والتي قام بتقديمها الإعلامي البارز «محمد رضا نصرالله».
يعتز الجنابي بهذه التجربة وبغناها، رغم اعتقاده أن مرحلة تصوير وإخراج البرامج لم تضف له شيئًا في المفكرة الذاتية كمخرج مستقل! لكنه استفاد منها على الصعيد الشخصي والإنساني.
العودة القاتمة
بعد سقوط بغداد عام 2003م، تلقى قتيبة دعوة من التلفزيون الياباني لعمل وثائقي خاص عن سيرته الذاتية.
كانت المرة الأولى التي زار فيها العراق منذ أن غادرها قبل عقدين من الزمن. العراق بعد السقوط لا تشبه حزنها المتواتر عبر التاريخ؛ اصطدم بالمجاعة والفقر والدموية، بحث عن الرفقاء من جيله وأدرك أنهم رحلوا في تصفية حسابات مختلفة، جيل رحل مع الحروب ولم يتبقَّ له أحد من أصدقاء الطفولة والصبا.
يقول: «كنت أسير في طرقات العراق حاملاً أكياس نايلون تحتوي على الطعام والورود، التقطت وجوه الناس والأطفال، وجوه بلا ملامح حتى أصبحت الوجوه كثيرة والملامح تتلاشى، شعرت بنهاية العالم، فكان الرحيل من بغداد هو مخزون الداء الموجع في ذاكرتي، ولم أشفَ منه حتى اليوم».
توق أبدي
ينظر قتيبة إلى راحتي يديه محاولاً القبض على حفنة من الزمن قبل ضياعه،
كما هو الحال مع مشروعه المعلق منذ خمس سنوات (شتاء داود) – وهو فيلم يطرح مفهوم الحروب العبثية في الصداقة والإخلاص بين جنديين – لا يزال في محاولة تفكيك أزمته الإنتاجية واللوجستية والبحث عن الكوادر المناسبة؛ بيد أن تجربته الأخيرة في تحكيم الأفلام الروائية من خلال مهرجان أفلام السعودية «الدورة الثامنة»، الذي أقيم في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) كونت لديه فكرة إجمالية لا تخلو من الإشادة والإعجاب بقدرات الجيل الشاب وتطلعاته نحو السينما؛ وهذا ما عزز لديه فكرة استقطاب الكوادر السعودية الموهوبة إلى مشروعه الحالي.
تبقى علاقة قتيبة بالصورة هي الرغبة الشديدة في عبور الحدود، لا يأسن عندها كما تأسن المياه الراكدة، أن يكون للصورة صوت وصدى لا يصدأ!
وهكذا يمضي المخرج والمصور بإصرار قاطع نحو المركز، لم يزل هناك قسط من نور العدسة، ووفرة من الذاكرة الفوتوغرافية، لرجل حمل الكاميرا طوال عقود من الزمن ولم تهزمه يومًا.
وعند السؤال عن التفضيل يردد بثقة: لا أضغط على زر الكاميرا ما لم تخرج من قلبي وبقناعتي المطلقة، لي عينان نافذتان تستطيع أن تنسل عبرها كل الرؤى:
عين سينما.. وعين فوتوغراف.