سعود خالد الداود
ماهي علاقة السينما بالفنون الأخرى كالموسيقى والرسم والرواية؟ أيهم يعتمد على الآخر أكثر؟ بعد مشاهدة عمل «ذا اوفر» راودني هذا السؤال كيف استطعنا أن نصنع من رواية «كلمات مكتوبة على ورق» فيلمًا سينمائيًا مبهرًا بمشاهد تصويرية بديعة بموسيقى تغذي عمق الاحداث؟ وبممثلين تشعر أن الكاتب استحضرهم في عقله أثناء كتابته للراوية، أشير هنا الى «العراب».
أريد أن أتحدث هنا عن دور السينما العظيم في الجمع بين العديد من الفنون المبهرة وليس السينما فقط، ففي الفترة الماضية رأينا أيضًا تركيزًا من الأعمال التلفزيونية، على دمج عدد من الفنون المختلفة في الشاشة الصغيرة.
الرسم والسينما
تخذلني هنا خبرتي المتواضعة بعالم فنون الرسم، ولكن مما لا يخفى على أحد أن للرسم مكانة مهمة في عالم السينما والأعمال التلفازية، وألاحظ تطورًا مبهرًأ من هذه الناحية، فمثلًأ نجد في العمل التلفازي «Breaking Bad» لوحة للفنان الأميركي «وينسلو هومر» لصيّاد يبحر تحت نظرات زوجته وأبنائه، والتي ينظر إليها «والتر» بعد استيقاظه في المشفى، ليترك المخرج «بيتر قولد» عددًا من المشاهدين في حيرة من أمرهم، هل تمثل هذه اللوحة عودة «والتر» إلى عائلته وسط ترحبيهم، أم أنها رمزية لابتعاده عنهم أكثر؟ لنرى بعدها انغماس «والتر» في عالم الجريمة أكثر ونرى اللوحة في عدد من الحلقات لاحقًأ، لكن بثقة تامة بأنها كانت تلويحات وداع من عائلته، استعمال اللوحات الفنيّة كرمزيات تخدم القصة وتُضفي عمقًا على العمل الفني لا يعد أمرًا جديدًأ على السينما وعالم التلفاز، يختار عدد من المخرجين أن يضيفوا هذا الفن ليخدم قصتهم وسردها ولا يسعني الآن جمعها.
الرواية والسينما
نعود لعلاقة الرواية بالسينما والأعمال التلفازية، وهي علاقة واضحة تمامًا قائمة منذ بداية السينما، ولم نكن لنرى هذا الصناعات العظيمة لولا وجود الروايات والقصص التي سخرتها السينما لخدمتها، والأمثلة على ذلك كثيرة ومختلفة، ونرى أمثلة عديدة لروايات عظيمة تحولت إلى أعمال مصورّة لا تقل عنها جمالًا، ونجد أيضًا للأسف أفلامًا قد فشلت فشلًا ذريعًأ في إحياء الرواية وتصويرها لأسباب لا يسعني حصرها.
وأوجدت هذه العلاقة سؤالًا يدور في أذهان الكثيرين، أتقرأ الرواية وتتصور عالمها وشخصياتها وتخلق لكل شخصية شكلًا في خيالك بناء على اسمها وتصرفاتها، وتسكن أبطال روايتك المفضلة في مدينتك وتختار مدينة لكل رواية منكرًا اختيار الروائي؟
أو تختار أن تشاهد تحولها إلى عمل مصوّر، يجعلك هذه المرة تبحر في عقل مخرج استطاع تصوير هذه الرواية بعمل تلفازي أو سينمائي بكامل أركانه وعناصره؟ مما لا يترك مجالًا للخيال ليضعك المخرج حيث يريد بالضبط! هذا هو الفرق فعندما تقرأ رواية فغالبًا ما تكون أنت الطرف المسيطر، أما في عالم السينما فإن للمخرج اليد العليا، فهو يضعك حيث يريد فبمجرد جلوسك في قاعات السينما الآسرة فأنت تحت تحكم المخرج تمامًا، يزيد من حدة المشهد فتتزايد مشاعر الرعب أو البهجة في روحك، يبكيك تعاطفًا مع بطلهِ تارة ويبكيك ضحكًا تارة أخرى، فهو من يختار الأسئلة التي تتطلب الإجابة والمعضلات التي يجب أن تحلّها، وله الخيار أيضًا إما أن يجعلك تصارع أخلاقياتك حتى تعرف رأيك تجاه ما يدور في الفيلم، أو يسلمك الإجابة لتركز على جماليات إبداعه.
الموسيقى والسينما
وأخيرًا ماذا عن الموسيقى والأعمال المصوّرة؟ مما لا يدع مجالًا للشك أن الموسيقى والأعمال المصورّة يشكلان علاقة عظيمة، ولن أتحدث هنا عما تقدمه السينما للموسيقى، بل عما تقدمه الموسيقى بدورها للعالم المصوّر، بدأت هذه العلاقة مع بدايات السينما الصامتة، حيث كانت الموسيقى عاملًا رئيسيًا ولكن ليس بالشكل الجمالي الذي نراه اليوم، بل كانت ببساطة لحجب الإزعاج على حد علمي، أما الحديث عن الموسيقى والسينما مؤخرًا فمن الممكن أن تكون الموسيقى عاملًأ رئيسيًا في المشهد يؤثر على سير الاحداث، أو أن تكون عنصرًا ثانويًا يزيد من جماليات اللقطة، ويجعلك تعيش المشاعر التي أراد المخرج إيصالها لتعيش اللحظة بجُل جماليّتها، كما أن للموسيقى القدرة على التحكم في مشاعرك فهي تساهم في تصاعد وتيرة المشهد، فمثلًا المشهد الأيقوني في فيلم «the shining» عندما يحاصر «جاك تورانس» «ويندي» المرتعبة في إحدى حمامات الفندق سيء الذكر، فإن وتيرة الموسيقى تتصاعد لتضيف من الرعب والشحنة النفسية التي يشعر بها المتابع في تلك اللحظات.
ولا تتوقف العلاقة هنا فالموسيقى تستخدم في العديد من الحالات الأخرى، كأن ترتبط بالحالة النفسية للشخصية، أو لتعبر عن شتّى المشاعر في المشهد، وهناك أيضًا معضلة أخرى للمخرج وهي أن يستعين بموسيقى مشهورة يألفُها الجمهور أسير المقاعد، أو أن يستعين بصناعة مقطوعات موسيقية خاصة بالفيلم تكون مرتبطةً بأحداثه وتخدم وتزيد من جمالية العمل، في الخيار الأول لنا في أحد روائع المخرج «كوينتين تارنتينو- Reservoir Dogs» مثال، ففي إحدى المشاهد العظيمة بالفيلم خُيّر ممثليه بين اغنية «Stuck in the middle» أو أغنية أخرى لا تحضرني، وكان اتفاق الجميع على أن اختيار الأغنية المذكورة سلفًأ، من شأنه أن يجعل هذا المشهد أيقونيًأ لا يُمحى من ذاكرة مشاهديه ومرتبطًا بنفس الأغنية.
أما عن الخيار الثاني فمن منا لا يذكر المشهد التاريخي في «Game of Thrones»، عندما عُزفت الموسيقى لترسل رسالة لـ«روب ستارك» وحاشيته في الـ«Red Wedding» بأنها ساعة موتهم، وارتبطت هذه الموسيقى للمؤلف الموسيقي «هانز زيمر»، وهي الموسيقى الأهم في هذا العمل بمشاعر الرعب والحسرة لدى المشاهدين.
يطول الحديث عن علاقة السينما بالفنون الأخرى شتّى، ولا يسعني أن أحصرها جميعًا ولا أعتقد أني أمتلك الخبرة الكافية لأتعمق أكثر في هذا الموضوع، فلتجربتي مع هذا العالم السحري جزيل الشكر ان مكنتني من كتابة هذه المقالة، معبرًا فيها عن محبتي وانهباري الدائم بهذه الصناعة وكل ما تحمله من جمال وإبداع لا ينقطعان، كتبت هذه المقالة لنستذكر ونقدّر هذه العلاقة الجمالية العميقة، التي تزيد من جمال الفنون جمالًا وتزيد من ارتباطنا بها وتعمّقُها جذريًا فينا، ولا تكتمل هذه المقالة إلا بمساهماتكم بذِكر ماغفلت عنه.