ناهد صلاح
بينما أشاهد فيلم “الفتوة” الذي أخرجه صلاح أبو سيف في العام 1957، ضمن مشاهداتي التي أعدها من أجل دراسة عن فريد شوقي كنموذج لفتوات السينما المصرية.
لا أعرف لماذا تذكرت ما كتبه مخرج آخر هو كمال سليم يحكي عن مواقف صعبة، واجهته أثناء تصويره لفيلم “العزيمة” الذي عُرض عام 1939، إذ قال: إن المنظر الذى أتعبنى أكثر من غيره هو منظر المعركة التى حدثت فى نهاية فيلم “العزيمة” ذلك لأن المنظر المذكور لم يكن بالإمكان إخراجه بصورة تمثيلية، إذ أن الحمية أخذت “الكومبارس” وكلهم من أولاد البلد وليسوا من الممثلين, فانقلبت المعركة من تمثيل إلى حقيقة.
إن كل ما ينشده المخرج هو الطبيعة، إلا أن الطبيعة كثيرًا ما تفسد على المخرج الترتيب الذى رسمه, ذلك لصعوبة التوفيق بين طبيعة الضرب، وبين تكوين المنظر، واضطررت من أجل ذلك إلى إعادة المنظر مرات عدة، وكنت أتحايل على ذلك بأن أصورهم أثناء البروفات ودون علمهم, حتى أستطيع أن أخرج المنظر وفق رغبتى، ومن الطريف أن “الفتوات” الذين ظهروا فى منظر “المولد” كانوا يتباهون بقوتهم عضلاتهم المفتولة، وكان من الصعب أن أقنع بعضهم بوجوب الانهزام كما يتطلب المنظر، واستغرق منظر الضرب ثلاثة أيام متتالية من الساعة السادسة مساءً إلى الساعة السابعة صباحًا، وكان الوقت شتاء والبرد قاسيًا، والمنظر خارجيًا، ومما آلمنى حدوث الحريق فى معامل استوديو مصر، وكأن النار لم تشأ إلا أن تلتهم هذا الجزء بالذات من الفيلم, فاضطررت إلى إعادة منظر المعركة من جديد.
ربما أرادت ذاكرتي أن تنبهني إلى أمرين مهمين، أولهما: أن رائد الواقعية في السينما المصرية، كما يتضح من كلامه، إستعان بـ”فتوات” حقيقيين في فيلمه (العزيمة)، بل واستطاع أن يستغلهم جيدًا في مشاهد المعارك و”الخناقات” التي قدمها في فيلمه، وبالرغم من ذلك لم يخرج علينا أحد من النقاد أو حتى من المتابعين للحركة السينمائية ليمنحه ريادة أفلام الفتوات أو على الأقل يدرجه في قائمتها، تلك الأفلام التي تفردت به السينما المصرية دون سواها، وقدمتها في مرحلة الثمانينيات تحديدًا، منقولة غالبًا عن أعمال أديبنا الكبير نجيب محفوظ وخاصة “الحرافيش”، بحيث يمكن أن نقول بإطمئنان تام أن هذا النوع لم تقدمه سينما أخرى في أي مكان بالعالم.
الأمر الثاني والذي تزيد معه الحيرة والتساؤل، هو إصرار غالبية النقاد على اعتبار فيلم “الفتوة” فيلمًا عن الفتوات، بل ويحسبونه على أنه أصل هذه النوعية من الأفلام، مع أنه لم يشارك فيه فتوات حقيقيين، ولم تدور أحداثه حول عالم الفتوات، ولم يكن بطله فتوة بالمفهوم الذي تعارفنا عليه للفتوة، سواء حسب الدراسات التاريخية والشعبية أو حسب المفهوم الذي ورد في كتابات نجيب محفوظ، فمن أين إذن جاءت جرأة ضمه للفتوات؟، هل عنوان الفيلم وحده يكفي لإعتباره كذلك؟!
المسألة إذن تبدو شكلية، أي أن دخول فيلم الفتوة بالرغم من وضوح قضيته وموضوعه وهدفه إلي هذا العالم الغامض للفتوات، هو دخول شكلي إعتمد فيه بعض النقاد علي المواصفات الشكلية للبطل، هذا القوي الذي يأخذ حقه بذراعه وعضلاته، مما يثير اعجاب جمهور المظلومين الباحثين عن نصر أو بطل يسترد لهم حقوقهم الضائعة، ولو من خلال أوهام الحكايات الخيالية على الشاشة، وهو أمر يحرك العواطف الشعبية المكبوتة التي تتسرب بقوة مع بطل من هذا النوع، معبرة عن أشد حالات الحماس لبطل يستطيع أن يقهر الشر بقوته الفردية، كما إعتمد أيضًا علي الضرب والعنف الذي ملأ الشاشة علي خلفية أحداث الفيلم، مع أنها مواصفات كانت لازمة للموضوع الأساسي للفيلم، بما يحتويه من صراعات تخص السوق وأحواله.
صلاح أبوسيف في محاوراته مع هاشم النحاس قال: في مكتب فريد شوقي مر علينا أحد الأصدقاء وقال: تصوروا الطماطم النهاردة بعشرين قرشا وكانت أمس أو أول أمس بنصف قرش.
ودار الحوار حول التلاعب بأسعار الخضار وتطور الحديث عن العصابات التي تتلاعب بالأسعار في السوق لتحقيق مكاسب خاصة يدفع ثمنها الشعب.
وكنا نسمع عن الملك أنه قتل زيدان ملك السوق بسبب التنافس بينهما. أثار الموضوع إنتباهي.
وكان معنا في الجلسة المرحوم محمود صبحي. كان شابًا ذكيًا وواعدًا كتب عدة سيناريوهات. إشترك في كتابة السيناريو إلى جانب نجيب محفوظ.
الواقع حينذاك قاد صلاح أبوسيف إلى السوق، ليكون مسرح الأحداث في فيلمه، وليكشف رأسمالية قبيحة غرست أنيابها في لحم البشر الضعفاء، واضعًا القضية أمام ضمير المجتمع، وإذا كان أي فيلم يكتسب قيمته أساسًا من موضوعه أو من القضية التي يطرحها ومدى أهميتها بالنسبة لمجتمعه في لحظة تاريخية معينة، فإن فيلم الفتوة نجح في تقديم قضيته بشكل فني متقن وبصياغة سينمائية موفقة، ليكون واحدا من كلاسيكيات السينما المصرية.
إن الموضوع الأساسي للفيلم هو سوق الخضار، العلاقة الشائكة داخل السوق بين التجار والمستهلكين، وما تضمنته من صور متعددة لبشر تلخصت همومهم وعواطفهم حول فكرة الربح والخسارة، الكل مهموم بالمال والمزايدات والمؤمرات والخيانات، وعجلة السوق لا تكفيها ضحايا، كهذا المجنون الذي خسر تجارته بعد أن تآمر عليه أبوزيد كبير معلمي السوق، وهو يعطي إحساسًا منذ طلته الأولى أنه ليس الوحيد وليس أيضًا الأول والأخير الذي تعرض لهذه المذلة.
في السوق يسيطر أبوزيد (زكي رستم) علي كافة الأمور بتحالفاته المشبوهة مع رجال الملك: “يعيش مولانا وبطيخ مولانا”، إمبراطورية الطاغية أبوزيد بدأت في الاهتزاز حين تحالف رجال السوق وتجاره مع هريدي الصعيدي (فريد شوقي) الذي جاء ساعيًا وراء رزقه فاصطدم بجشع أبو زيد، تسانده في صعوده الأرملة حسنة (تحية كاريوكا)، لكن هريدي ينزلق في نفس الهاوية التي سبقه إليها أبوزيد، لتدور الأحداث في نفس الدائرة المفرغة.
وينتهي الفيلم بمشهد يدخل فيه وافد جديد إلى السوق(محمود المليجي)، كضيف شرف عابر مع الفنانة هدى سلطان من دون أن يحدد الفيلم لهما اسمًا، كدليل على فكرة تكرار رحلة الصعود والهبوط من سفح السوق إلى قمة السلطة والانهيار المعاكس، تعبر النهاية عن لا نهائية الحدث، لأن الجوهر نفسه لم يتغير.
في رأيي من أهم إيجابيات هذا الفيلم، أنه قدم رؤيته الفكرية دون أن يكون مباشرًا، يطرح النظام الاشتراكي كبديل ضروري للرأسمالية بكل مساوئها وأمراضها، ربما لم يقصد صلاح أبوسيف هذه الرؤية الأيديولوجية بالضبط، لكنه كان واعيًا بما يتحدث عنه.. لم يكن متعسفًا حين ربط مجتمع السوق بالواقع الإجتماعي والسياسي في زمنه، وإشارته إلى استمراريته التي عبرت عنها النهاية المفتوحة.
هنا تجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن العنف الذي صاحب الأحداث، لا يعني أنه يعبر عن عالم الفتوات التقليدي، كما عرفناه وخبرنا عنه نجيب محفوظ، فالعنف ليس والمشاجرات وغيرها من سمات شبيهة لا تخص الفتوات وحدهم، وإلا كيف نصف أفعال جبابرة السوق، أليس ممارساتهم وبلطجتهم هي نفسها ممارسات أمريكا سياسيًا وإقتصاديًا معنا، أليست أمريكا هي النموذج الأقرب والأشبه بأبوزيد ورجاله الأشقياء وأمثاله من كل الأشرار الذين خلعوا قلوبهم على أبواب السوق والاحتكار والمصلحة والأوراق النقدية بكافة أنواعها وجنسياتها، أليست أمريكا هي بالفعل النموذج الأوضح لبلطجي العصر..؟!
مجرد سؤال يستحق التأمل وليسعى كل منا للإجابة عليه بطريقته الخاصة، فلسنا هنا بحاجة لتقديم إجابات مباشرة عن مثل هذه الأسئلة المتكررة.