نور هشام السيف
بدأ مهرجان الأفلام السعودية منذ سنوات مضت بطاولة مستديرة لم تكن مهيأة إلا لأقلية. كانت فكرة إنشاء مهرجان يحتفي بالسينما المحلية تشبه فكرة إشعال عود ثقاب تحت سماء ماطرة. في دورته الأولى عام 2008 لم تكن ثمة فعاليات فنية نشطة، ولا مهرجانات متاحة، ولا توجد جهة مؤسساتية كبيرة ترعى الأفلام أو تهتم بالسينما.
الحلم الصغير بدأ يتسع ليس لعرض أفلام سعودية طازجة فقط، بل لتبادل الخبرات والمزيد من الإنتاجات المشتركة.
ولأنه نما في ظل التغيرات المتسارعة على المستوى الاجتماعي للبلاد، كان ضروريًا اليوم تطوير الحلم الصغير على ساحة ميدان كبيرة من حيث الشكل والمضمون.
أحد أهم أبطال هذا الميدان هو الشاعر ونائب رئيس جمعية السينما، أحمد الملا.
مسيرة “الملا” كشاعر سعودي يمتلك مخزونًا من الإنتاج الأدبي والمعرفي، بالإضافة إلى شعبيته في الأوساط الثقافية، لم تساهم على المستوى اللوجستي فقط، بل في تحقيق هوية تحمل الطابع الإبداعي للمهرجان.
فالشعر والسينما ينصهران في إعادة الانسجام التام بين البشر؛ لذلك يؤمن “الملا” بماهيته الشعرية، إذ إننا كي نفهم السينما علينا الدخول إلى نواة هذه المؤسسة ونسجها معرفيًا ببقية الفنون الإبداعية الأخرى.
وعلى عكس التصورات الخيالية المزيفة، فإن الوجود يتأسس على ما هو حقيقي، وكل محاولة يستهدفها “الملا” في توسيع الميدان هي محاولة إغناء المحيط الإبداعي.
تبقى المحاولات استدعاء للاستفهام أكثر: ماذا بعد؟ ومتى نقطة الوصول؟ هذه هي تساؤلات اللحظة الراهنة التي تشغله.
السينما السعودية والخارطة العالمية
خريطة السينما بين يدي أحمد الملا وبقية أعضاء جمعية السينما هي معلومة المسار، فهو يشكلها مع الفريق كي تمتد إلى جميع الاتجاهات وليس بشكل أفقي فقط. يؤمن بأن هناك فراغًا يجب أن يُملأ حتى يتم البناء عليه، كالفراغ القانوني، والفراغ التشريعي، والفراغ التدريبي، والمهني والعملي؛ إضافة إلى ما هو محفز للحالة الإبداعية للوصول وتطويرها والاشتغال عليها. وفي هذه المرحلة إذن لا يجب أن تنظر للماضي أو تعتمد عليه كليًا.
الآن ونحن نرى تحقق الأمر في سوق الإنتاج والعروض والبرامج، نشاهد “الملا” وهو ينثر يقينه بين الأروقة؛ هذا اليقين الذي بُني على معرفته الأساسية بأصالة الفكرة. وتعتمد معرفته على قدرته من التخلص من أناه، حيث إن المهرجان هو تجمع صناع الأفلام في مكان واحد، فليس هناك منصة واحدة تستطيع فيها الحصول على مصادر معلومات مكثفة كمنصة المهرجان السينمائي. لذلك، فإن الجانب الاجتماعي يجب أن يبنى بشكل حميم وقريب لهؤلاء الصناع، وأن يكون مرآة لما يحدث في الساحتين المحلية والعربية.
ولأنه من جيل اختبر الوقوف والثبات على أرض رخوة، يؤمن “الملا” بالفنان الفرد المستقل، وضرورة وجود حاضنة قادرة على العطاء تجاه تصورات بنائه الفكري. فهذه الصناعة بحاجة إلى مؤسسات كثيرة ولا يمكن أن تقارن بدول العالم على الأقل.
على رأس هذه المؤسسات مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، الذي كان شريكًا للمهرجان في دوراته الماضية، وبدعم من هيئة الأفلام في دوراته الأخيرة، التي وضعت استراتيجية واضحة ومعلنة لخارطة طريق هدفها الوصول لإنتاجات محددة وأرقام معلنة فيما يتعلق بتطوير وتمكين الصناعة.
المسافة بين جمهور الصالات التجارية وصناع الأفلام المستقلة لا يمكن أن تقترب من الصفر في ظل محاولات سينمائية وليدة. إن محاولة استقطاب الشرائح العريضة إلى هذه الدائرة هي لربما إشكالية عالمية لا تقتصر على مهرجان عربي أو محلي؛ لذلك يأتي دور المهرجان ليبحث عن المعايير التي يحكم بها على الإمكانيات الحقيقية للإنقاذ. في نفس المحور يشيد أحمد الملا بكل أنواع السينما، فلا يغلب التجاري على الفني، ولا تغلب الرواية على أفلام الحركة، ولا تغلب الكوميديا على الدراما، وهكذا.. التنوع في التصنيف بمحاذاة الجودة في تكامل العناصر تحت مظلة هذه الصناعة هو إضافة تراكمية لا تشكل في نهاية المطاف أي ضرر.
يرفض “الملا” فرضية العودة للوراء لتغيير مسار الشعر والاتجاه نحو منعطف السينما بشكل كلي. فهو يستذكر الصعوبات الشديدة التي واجهته مع الرفاق أثناء اختمار الفكرة حتى ولادتها، بيد أن الإبداع في القصيدة كان راسخًا ومبنيًّا في كينونته على أساسات ثقيلة. وهذا لا ينفي أن الكلمة ستبقى حاضرة بطريقة ما وإن كانت خارج بوابة القصيدة، وذلك بتعيينه كأحد الأعضاء الاستشاريين في مجلة “كراسات سينمائية”، وهي أول مجلة سعودية متخصصة في السينما والتناول النقدي، بالتعاون مع جمعية السينما وبدعم من هيئة الأفلام.
وتحت إشراف جمعية السينما التي ينتمي إليها – كما ذكرنا سلفًا – يطلق المهرجان الجانب المعرفي في هذه الدورة بإصدار 14 كتابًا سينمائيًا بين ترجمات ولغات متعددة، مثل: الفرنسية والإيطالية والإنجليزية؛ إصدارات التأليف من كتَّاب عرب، وتشجيع شباب سعودي في إصدار كتب معرفية تنظيرية.
هكذا إذن يعيش “الملا” النشاط الخارجي والداخلي بمعنى الاستثمار للطاقة الإنسانية والتعبير من خلالها عن الملكات والقدرات والمواهب الذاتية، والأهم هو تجاوز حدود الذات المعزولة بالشغف نحو ما يعمل لأجله. لذلك، وإن كان من الصعب تأطير حالة “الملا” بمسمى محدد، إلا أنه من المستحب تنميط حالته المشتعلة، ولا يمكن وصف هذا النمط إلا بنمط وجودي يتميز بالحيوية والإنتاجية تحت مظلة الشعر والكتابة ومظلة السينما.