سوليوود «متابعات»
هذا آخر فيلم للمخرج الراحل أندريه تاركوڤسكي. أنجزه وعرضه في مهرجان «كان» في ربيع سنة 1986 ثم رحل عن الدنيا في ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، بحسب موقع صحيفة الشرق الأوسط.
هو فيلم عن احتمالات حرب عالمية ثالثة ونتائجها الوخيمة وكل ما يستطيع المخرج والكاتب فعله حيالها هو التحذير منها بعرض أسبابها وطريقة تجنبها. حسب تاركوڤسكي، فإن أسباب تلك الحرب قد تكون سياسية في غلافها، لكن جذورها فقدان العامل الإنساني في البشر، الذي هو فعل إيمان بالله.
ألكسندر «أرلاند جوزفسن» صحافي سابق والآن متقاعد في منزل سويدي منعزل، يحتفل اليوم بعيد ميلاده الثمانين مع أفراد العائلة، هناك طائرات حربية نسمع أصواتها الهادرة، ثم خبر على شاشة التلفزيون يعلن أن الحرب النووية اشتعلت.
يبحث ألكسندر عن جواب لما يستطيع فعله في ظل موت مقبل ونهاية سوداء حالكة. ساعي البريد أوتو (ألان أدوول) يوحي لألكسندر بزيارة ماريا لعله يجد في حنانها بعض الدفء وفي الدفء بعض الجواب. في صبيحة اليوم التالي، وبعد عودته إلى بيته بتبين له أن النبأ ليس صحيحاً، لكن ألكسندر بات مقتنعاً أن عليه أن يقدِم على شيء جوهري للإسهام في سلام العالم. عليه أن يضحّي (والمفهوم أننا جميعاً علينا أن نضحّي) فيقوم بحرق بيته الكبير تنفيذاً لوعد قطعه في دعائه إلى الله بأنه مستعد للتخلي عن كل الماديات إذا ما منح الله الإنسانية فرصة أخرى.
يؤمن تاركوڤسكي بأن الفنان الحقيقي «يتّبع خطاً مستقيماً واحداً وإن يكن بتكاليف باهظة أو بمستوى غير سوي، إنما دوماً باسم فكرة واحدة ومفهوم واحد»، كما كتب في مؤلّفه «نحت في الزمن». وسينما تاركوڤسكي هي سينما البحث عن الروح والإصرار عليها لخلق توازن مثالي بينها وبين المادة التي تسطو علينا إذا ما افتقدنا هذا التوازن. هي سينما لتقديم الأعماق لأن لا شيء في الواقع هو فقط ما يبدو عليه في الظاهر ولأن السينما، كالحياة ذاتها، تخسر الكثير من قوامها عندما لا تحاول استيعاب اللامرئيات من زمن ونفس وروح.
في بداية «التضحية» يفتح المخرج الروسي على أرض سويدية مفتوحة وشاسعة. هناك بحيرة في يوم ضبابي ساكن أول ما نلحظه وجود رجل وابنه يزرعان شجرة ويدعمانها بالأحجار. في النهاية ها هي الشجرة كبرت وتحت ظلالها نما الأمل بعالم أفضل.
ذلك المشهد الأخير زبدة الفيلم وأحد أجمل مشاهده: الصبي (ابن ألكسندر وهو لا يتكلم في الفيلم كحال ابنة بطل فيلم «المقتفي» الذي لديه فتاة في العمر ذاته لا تتكلم أيضاً) تحت الشجرية وقد أصبحت الآن ممشوقة وعالية وجميلة. يستلقي الابن تحتها في راحة والكاميرا (للعبقري سڤن نيكڤست مصوّر أفلام إنغمار برغمن) ترتفع من عند ساق الشجرة إلى جذعها ثم فوقها كاشفة عن البحيرة الجميلة والساكنة، حيث ينتهي الفيلم.
جمالية المشهد توحي بأن الصبي حقق وصيّة أبيه. الشجرة رمز والماء حياة والعالم ربما سيصبح أفضل لو عاد إلى الله ووثق به.
أندريه تاركوڤسكي، المولود سنة 1932، هو ابن الشاعر أرسيني كارلوفيتش تاركوڤسكي وكان أوكرانياً. والدة المخرج كانت روسية. نشأ على ضفاف نهر الفولغا والماء في أفلامه عنصر جمالي وروحاني مؤكد. في العام 1954 درس السينما في معهد VGIK (المعهد الحكومي للسينما) وحقق عدداً من الأفلام القصيرة بينها «القتلة» (1956) عن رواية أرنست همنغواي. فيلمه الروائي الطويل الأول كان «طفولة إيڤان» (1962) وبعد خمس سنوات تلاه بـ«أندريه روبلوڤ» ثم «سولاريس» و«مرآة» و«المقتفي» ثم «نوستالجيا» و«التضحية». هذان الفيلمان الأخيران صورهما خارج وطنه الأم.