سوليوود «متابعات»
أيقظت السينما في الذاكرة أحداث معركة ذي قار، التي انتصر فيها العرب على الفرس قبل 1400 عام، في معركة مصيرية، ظهروا فيها بكل شجاعة وعز، ولم يرضخوا فيها لعدو خارجي، إنما توحدوا وكسروا شوكة كسرى وجيوشه.
يميل أكثر المؤرخين إلى أن تاريخ معركة ذي قار كان قبل هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بثمانية أعوام، خاصة أن الرسول بلغه خبر الانتصار يومها، وقال حينها «هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا».
ومثلما لهذه المعركة أهمية لدى العرب، فهي مهمة أيضا لدى الفرس، في أحداث تاريخية مليئة بالتفاصيل وقعت بين محافظتي طريف والقريات على أرض المملكة، ويجري حاليا تحويلها إلى فيلم سينمائي، تشهده مدينة المستقبل نيوم وتبوك، وفقا لصحيفة الاقتصادية.
كسرى والنعمان
في دراسة تاريخية تحليلية لعبدالمنان محمد السلفي، الباحث في جامعة أم القرى، يوثق أن معركة ذي قار تعرف أيضا بـ”يوم القراقر، ويوم الحنو، ويوم حنو القراقر، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن كسرى أبرويز طلب – على يد رسوله زيد بن عدي بن زيد – من ملك الحيرة النعمان بن المنذر إرسال بعض حرائر فتياته، فامتنع النعمان عن تلبية رغباته، ولما انصرف زيد إلى كسرى قص عليه امتناع النعمان، وبالغ في ذلك، ويعزو مؤرخون سبب مبالغة زيد في التوصيف إلى أن الملك النعمان كان قد قتل والده بسبب مكيدة، فأراد الانتقام.
وبحسب الروايات، طلب كسرى النعمان بن المنذر عنده، فأيقن الهلاك، وحمل سلاحه وما قوي عليه، وأخذ يطوف في قبائل العرب يطلب المنعة، إلى أن نزل بـ«ذي قار» في بني شيبان سرا، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني، وكان سيدا منيعا فاستجار به فأجاره، واستودعه أهله وأولاده وأمواله وسلاحه، وقيل نحو 800 درع، ثم مضى إلى كسرى، فلما بلغه أنه بالباب أدخله السجن، وبقي فيه حتى وقع الطاعون، فمات فيه.
وبعد موت النعمان، طالب كسرى بتركة النعمان، فأخبره إياس بن قبيصة الطائي «أحد أشراف أسر الحيرة وتولى حكمها بعد النعمان» بأنها وديعة عند قبائل بكر بن وائل، فأمره كسرى بضمها إليه، فأرسل إياس إلى هانئ بن مسعود الشيباني يأمره برد ودائع النعمان، فامتنع هانئ وأبى أن يسلم ما استودعه النعمان، فغضب كسرى وعزم على الإغارة على بني بكر بن وائل، ولذا حدثت المعركة.
ولعل هذا السبب الحقيقي والمباشر للمعركة، بخلاف ما ذكره كارل بروكلمان المستشرق الألماني في كتابه المشهور «تاريخ الشعوب الإسلامية»، أن النعمان الثالث لم يكن سهل القياد، فضاق الفرس به ذرعا، واستدرجه كسرى الثاني إلى عاصمته المدائن، وخلعه عن العرش، وما هي إلا أعوام حتى ظهر نتاج هذا الصنيع، فهاجم ثلاثة آلاف عربي المنطقة الفراتية 610 هجرية، وهزموا الفرس هزيمة حاسمة في ذي قار».
ففي رأي بروكلمان أن خلع النعمان هو السبب المباشر للمعركة، ويرى أن العرب هم من بدأوا القتال، وهذا خلاف الواقع، بل الملك الفارسي هو الذي عزم على الإغارة وتصفية قبائل بكر بن وائل، ويذهب معظم المؤرخين إلى الرواية الأولى لسبب المعركة.
فيلم عالمي
«محارب الصحراء» هو اسم الفيلم العالمي الذي يعيدنا إلى القرن السابع الميلادي، ويصور أحداث معركة «ذي قار» كما حدثت ووفقا للروايات التاريخية، حيث يجري تصويره حاليا في مدينتي نيوم وتبوك، من إنتاج مجموعة MBC بالتعاون مع شركتين عالميتين، بتكلفة تتجاوز 140 مليون ريال.
إحدى أبرز المحطات في تاريخ العرب يصورها الفيلم المرتقب، وينقل إلى المشاهد كيف توحدت القبائل المتناحرة لمواجهة كسرى، من إخراج البريطاني روبرت ويات، الذي أخرج مجموعة من الأفلام الهوليودية الناجحة.
ويشارك في بطولته نخبة من الممثلين العرب والعالميين، مثل أنتوني ماكي بطل فيلم «كابتن أميركا»، وغسان مسعود الذي يجسد دور الملك النعمان بن المنذر، وابنته هند التي سيتم تجسيدها من قبل عائشة هارت الممثلة البريطانية – السعودية، وبن كينجسلي الممثل البريطاني، في دور الشاه الساساني كسرى.
ويحمل العمل الجديد مواصفات عالمية، من شأنها أن تضع المملكة في قائمة أهم صناع السينما والإنتاجات الرائدة، حيث يأتي ذلك في الوقت الذي شهدت فيه مدينة العلا شمال المملكة تصوير فيلم آخر بعنوان قندهار، من بطولة جيرارد بتلر، ويحكي قصة استخباراتية أمريكية في أفغانستان، حيث انتشرت صورة للنجم الهوليوودي مع الفنان ناصر القصبي في أجواء تصوير الفيلم، وصنف كأول فيلم عالمي يصور في أرض الحضارات العلا.
رقصة الدحة
يرى الباحث والدكتور عيد اليحيى – في رأيه الشخصي – أن العرب في يوم ذي قار استخدموا صوت الدحة لإخافة الفرس، يمثلهم جيش يقوده الهامرز قائد الفرس، وترتدي كتيبته الأقراط والأساور التي عثر على بعضها في أرض ذي قار.
عرف العرب أن أفيال الفرس مرعبة ولا بد أن يخيفوها، لذلك كانوا يقلدون صوت زئير الأسود وهدير الجمال، في أحد أهم أيام العرب، ومفاخر قبائل ربيعة، ممثلة في بطون من بكر بن وائل وعنزة بن أسد، وبعض القبائل التي شاركتهم النصر.
وقعت المعركة وصد العرب جيوش كسرى، رغم قلة العدد والعدة لدى العرب، وكثرة أعداد جيش الفرس الذين استعانوا بالنشاب، وهي ليست أقواسا عادية، إنما الأقواس التي تشد مثل البندقية، قوية التأثير بمدى قصير، السلاح الذي اخترعه الفرس وعرف عند الرومان والإغريق قديما.
وفي تفاصيل المعركة الشهيرة كما يرويها التاريخ، فإن كسرى سأل مستشاريه عن كيفية انتصاره على العرب، فقيل له أمهلهم حتى يقيظوا ويتساقطوا على ذي قار تساقط الفراش في النار، فتأخذهم كيف شئت، فوافق كسرى، وكان العرب عند آبار قراقر وعددها سبع آبار، وعمقها لا يتجاوز مترا، تعلوها طبقة صخرية وتحتها بحر هائل من المياه، من غرائب ما شاهده اليحيى، على حد تعبيره.
مطالب بمتحف
في حلقة تلفزيونية من برنامجه على خطى العرب، يؤكد الدكتور عيد اليحيى أن معركة ذي قار وقعت في منطقة بطحاء قراقر، وخلفها جبل الحنو، ما بين محافظتي طريف والقريات شمال السعودية، وفيها هزمت الفرس على يد القبائل العربية التي حمت النساء والأطفال.
وطالب اليحيى بتوثيق المعركة في متحف، على غرار ما حدث في أوروبا، حيث أعاد الإنجليز إلى الذاكرة معركة واترلو الشهيرة عبر متحف واحتفالات سنوية، مستذكرين آخر معارك الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في 1815، وفيها تصدت الجيوش للفرنسيين وأنهت عقدين من الحروب الدامية في أوروبا، وحتى اليوم لا يزال يحتفل عشاق التاريخ في موقع المعركة بهزيمة نابليون.
وفي برنامجه، يكشف عن مزاعم النظام العراقي السابق بأن مكان معركة ذي قار حيث تقع محافظة الناصرية جنوب العراق، وغير النظام اسمها إلى ذي قار في 1969، وبقي اسمها حتى اليوم.
فيما أثبت اليحيى موقع المعركة جيولوجيا وأنثربولوجيا وإيركيولوجيا على أرض المملكة، ولم تحدث في الحيرة أو المدائن كما يعتقد بعض المؤرخين، ووجد في أرض ذي قار أجزاء من أساور الفرس، وهي قطع زينة من الزجاج المزخرف لم يعرفها العرب لا قديما ولا حديثا، وأجزاء من الأقراط الملونة النطف كانوا يعلقونها في آذانهم.
أبيات خالدة
لقد وصف الشاعر العربي الأعشي (ميمون بن قيس) معركة ذي قار، وأرخ لها بقصيدة خالدة من أروع القصائد، بلفظ جزل، وتصوير فني دقيق، وأسلوب إعلامي رشيق، وكأنه يذيع أحداث المعركة في نشرة إخبارية.. نلتقط منها الأبيات التالية:
وَجُندُ كِسرى غَداةَ الحِنوِ صَبَّحَهُم
مِنّا كَتائِبُ تُزجي المَوتَ فَاِنصَرَفوا
لَمّا اِلتَقَينا كَشَفنا عَن جَماجِمِنا
لِيَعلَموا أَنَّنا بَكرٌ فَيَنصَرِفوا
قالوا البَقِيَّةَ وَالهِندِيُّ يَحصُدُهُم
وَلا بَقِيَّةَ إِلّا النارُ فَاِنكَشَفوا
جَحاجِحٌ وَبَنو مُلكٍ غَطارِفَةٌ
مِنَ الأَعاجِمِ في آذانِها النُطَفُ
إِذا أَمالوا إِلى النُشّابِ أَيدِيَهُم
مِلنا بِبيضٍ فَظَلَّ الهامُ يُختَطَفُ
وَخَيلُ بَكرٍ فَما تَنفَكُّ تَطحَنُهُم
حَتّى تَوَلّوا وَكادَ اليَومُ يَنتَصِفُ