سوليوود «متابعات»
من الأحداث الثقافية اللافتة في فرنسا هذه الأيام معرض فني فريد عنوانه «السينما أخيرا!» ينظمه متحف أورساي الباريسي احتفاء بالسينما منذ بداياتها عبر الأفلام الصامتة، إلى جانب لوحات فنية ورسوم وصور فوتوغرافية.
وبحب صحيفة العرب يتواصل المعرض الفني متحف أورساي الذي يقام بباريس منذ نهاية سبتمبر الماضي احتفاء بالسينما حتى أواخر شهر مارس المقبل، ويتركز على الفنون والصور والمشاهد الفرجوية في الفترة الممتدة ما بين 1833 و1907.
والسينما شرفة يمكن أن نفهم انطلاقا منها قوانين التكيف البصري والسيكولوجي والاجتماعي التي شهدت مولد مُشاهد الصور وهي تتحرّك، فهي تدعونا إلى مقاربة الصلة بين أسطورة بغماليون والسينماتوغرافيا، والكيفية التي ولّدت فيها المدينة العصرية تمثلات جديدة وسلوكيات جمهور جديدة، وتدعونا أيضا إلى فهم أثر التصوير الفوتوغرافي ثم السينماتوغرافيا في تمثل الأجساد، وخاصة فهم الكيفية التي رأى بها المشاهد الحركة قبل أن يرى المناظر وهي تتحرّك.
وفي فجر القرن العشرين مثلت السينما طريقة لامتلاك العالم والأجساد والتمثلات، ليس بوصفها آلة أو ميديا، بل بوصفها رؤية اجتماعية وشعبية، فهي نتاج ثقافة مدينيّة مفتونة بحركة الكائنات والأشياء، ترغب في أن تجعل من الحداثة فرجة.
ولكن ذلك لم يأت نتيجة قطيعة مباغتة أو ثورة عنيفة، لأن الأذهان كانت مهيَّأة لمثل ذلك الابتكار منذ مدّة، بفضل عمليات البث الأولى للصور المتحركة التي أنشأها الأخوان أوغست ولويس لوميير في باريس عام 1895، وكانت آخرَ ما ظهر بعد متتالية طويلة لإعدادات بصرية وفرجوية، من بانوراما في متاحف الشمع إلى مَرابي السمك مرورا بمدن الملاهي، وقد بلغت ذروتها خلال المعرض العالمي الذي أقيم بباريس عام 1900.
تلك الأفلام التي نجمت عن تقاليد انتقال الصور لم تكن خالية من النقائص، ولكنها كانت وريثة عدة ممارسات عملية، فنية أو علمية، عالمة أو عادية، إذ سبقتها اقتراحات وتساؤلات صاغها بعض الفنانين خلال القرن التاسع عشر، في مقدّمتها “الواقعية التامة” التي مدّدتها السينما وأعادت صياغتها ووضعتها موضع مساءلة، قبل أن تتجاوزها. وكانت بدَهيةُ تحرّك العالم وانسياب الزمن قد وقع تحليلهما من زاوية بعض الموتيفات الثقافية مثل نشاط المدينة وحركيتها أو حركة المدّ والجزر الدائبة.
جاء المعرض في شكل ثيمي، وإن لم يخل من خطية زمنية. وقد أعِدّ على نحو يخلق حوارا بين الإنتاج السينماتوغرافي الفرنسي ما بين 1895 و1907، وبين تاريخ الفنون، أي منذ ابتكار التصوير الفوتوغرافي إلى حدود الأعوام الأولى من القرن العشرين، من خلال بعض المواضيع الكبرى مثل الافتتان بمشهدية المدينة، وإرادة تسجيل أنساق الطبيعة، والرغبة في امتحان الأجساد واستعراضها، والحلم بواقع مضاف عبر استعادة اللون والصوت والتضاريس وسبر المواضيع من الداخل، علاوة على رغبة الحكي. وتنتهي عام 1907 حين بدأت الأفلام تطول، وعمليات البث تترسّخ في القاعات، والخطابات تتكرّس، حيث تحوّلت السينماتوغرافيا إلى سينما، وصارت تعني المكان والتسلية الجماهيرية في الوقت نفسه.
يحتوي المعرض على نحو أربع مئة عمل فني، ما بين موجودات وأفلام منها ما هو مجهول المصدر ومنها ما يحمل توقيع أسماء يعرفها الجمهور العريض، من الرسامين بيير بونار وغوستاف كيابوت وكلود موني وبيرت ماريزو والنحات أوغست رودان والراقصة لُويْ فولر، إلى السينمائيين ليون غومون وجورج ملياس وشارل باتي وهنري ريفيير وجان ليون جيروم وأليس غي والأخوين لوميير وجول إتيان ماري، وكان هاجسهم جميعا الإمساك بالحركة. ذلك أن السينما تغذّت من مؤثرات عديدة، بعضها عفوي، وبعضها الآخر متعمّد أو ناجم عن الصدفة والمعاصرة.
والمعرض فرصة نادرة لاكتشاف أفلام رائعة مثل «كامبو سانتو بيزا» للويس داغر وشارل ماري بوتون، و«ساحة الكوردوليي بليون» للويس لوميير، و«جسر أوروبا» لغوستاف كايبوت. وفرصة أيضا لاكتشاف رائدة من رائدات السينما ما عادت كتب التاريخ تذكرها، ونعني بها أليس غي بلاشي.
هذه المرأة التي أنجزت عام 1896 ثاني عمل تخييلي في تاريخ السينما هو «جنية الكرنب»، وأعقبته بنحو مئة فيلم آخر، وأثنى عليها أيزنشتاين وهيتشكوك. وكانت قد أسّست شركتها الخاصة في الولايات المتحدة، فلما عادت إلى فرنسا في عشرينات القرن الماضي انتزع منها ليون غومون أفلامها، فكانت بداية نكران فني وتاريخي، حيث غمط حقها وغاب اسمها.
جاء في اللافتة التي تفتتح المعرض «في القرن التاسع عشر، واصل رجال ونساء ما يمكن تسميته بحلم سينمائي»، ذلك أن المعرض لم يقدّم السينما في بداياتها فقط، بل ركّز أيضا على الكيفية التي سمّى بها ذلك القرنُ مولد السينما، ذلك الفن الذي لم يكن مجرد اكتشاف عقب العديد من المحاولات، بل جاء كمواصلة منطقية لتغيّر النظرة في مجتمع يعيش ثورة في نمط حياته، وما صار يتّسم به من سرعة وفورية. وكان لا بدّ لمجتمع الجماهير التي كانت بصدد التشكّل من ميديا جماهيرية، فكانت السينما.
يقول السينمائي جان لوك غودار، وكان من رؤوس الموجة الجديدة في فرنسا «إن ولادة السينما في القرن التاسع عشر هي التي اخترعت في فجر القرن العشرين جميع تقنيات إعادة إنتاج الحياة».