سوليوود «متابعات»
قبل عامين فقط، كانت المخرجة الأفغانية الثلاثينية صحرا كريمي تعيش نشاطاً فنياً كبيراً موزعاً بين إنجاز أعمالها ومخاطبة المهرجانات الدولية لعرضها، وبين محاولة نفض التراب عن آلية عمل مجلس الفيلم الأفغاني باعتبارها أول امرأة تتولّى رئاسته، إذ كانت تحاول إحياء المنظمة والتفتيش عما تبقّى في أرشيف سينما بلادها، فيما اليوم أقصى أمانيها أن تعيش آمنة مع عائلتها التي فرّت هاربة بعد عودة حكم «طالبان» وانسحاب القوات الأميركية، فظهرت في فيديو شاهده الملايين عبر العالم وهي توثّق رحلة فرارها خوفاً من الاغتيال والتعرض لأفراد أسرتها، وأصبحت هي بطلة الفيلم الذي يرصد لحظات الهلع، من دون سيناريو معدّ مسبقاً هذه المرة ومن دون أن تملك القدرة على التحكم في أحداثه.
مغامرة الحياة والسينما
وبحسب موقع اندبندت نجحت المخرجة التي لفتت الأنظار عام 2019 بفيلمها «حوا.. مريم وعائشة» الذي يحكي عن ثلاث أفغانيات حوامل يقررن التخلص من أجنّتهن لأسباب مختلفة، وعرضه مهرجان البندقية السينمائي، في الهروب من الجحيم وأن تنجو بعائلتها، وقالت بحسب تصريحاتها المتداولة إن حركة «طالبان» لا تدعم الفن ولا الثقافة وتحرم النساء من التعليم بالأساس، إذ أصبحت آمنة الآن في أوكرانيا، لافتة إلى أنها تركت كل ما تملك.
نجت المخرجة، ولكن هل ستنجو السينما؟ بالنظر إلى ما حدث سابقاً، تبدو المهمة ثقيلة وصعبة، بحيث إن الظهور الأفغاني في الأرشيف السينمائي العالمي يبدو في كثير من الأحيان مفعولاً به، من دون أن يكون لمفهوم السينما الأفغانية ظل واضح المعالم، بعكس السينما الإيرانية على سبيل المثال، إذ إن أفغانستان كبلد هي ساحة للحرب دوماً وموضع غزو واحتلال ويتناوب على حكمها هذا وذاك، بالتالي هي موضوع مفضل في السينما العالمية التي يروي صناعها من وجهة نظرهم ما يجري في تلك البقعة، حتى إن الفيلم الثالث من سلسلة «رامبو» لسيلفستر ستالون الذي عُرض عام 1988 كانت تدور أحداثه في تلك البقعة إبان الحرب السوفياتية، حيث يحاول البطل إنقاذ قائده من يد القوات الروسية، وهناك عشرات الأعمال التي تحدثت عن الصراع هناك من وجهة نظر أميركية في غالبية الأوقات، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ولكن يبقى فيلم «عدّاء الطائرة الورقية» عام 2007 للروائي الأفغاني الأميركي خالد حسيني الذي رسّخ لمأساة بلاده عن طريق قصة إنسانية تنتصر للودّ والصداقة، في عمل أخرجه الألماني السويسري مارك فورستر، انطلاقاً من انهيار الملكية ثم الغزو السوفياتي وحتى احتلال «طالبان» للسلطة، من أكثر الإنتاجات شهرة وانتشاراً وجماهيرية، وقرباً للواقع كذلك.
محاولات الإنقاذ
بينما يبدو الفن في الداخل الأفغاني أول الضحايا وأكثرها تأثراً على الدوام في بقعة يجد أناسها أنفسهم في صراع من أجل البقاء على قيد الحياة، ومع ذلك وُثّقت محاولات مضنية لكثير من الموظفين الذين حوّلوا آلاف الساعات من الإنتاج الفني الأفغاني حينما أحكمت حركة «طالبان» المتطرفة قبضتها على الأمور قبل أقل من 30 عاماً، فكان امتلاك جهاز التلفزيون نفسه مجرّماً.
بحسب تصريحات موثقة بفيديوهات، كشف الموظفون عن معاناتهم لإخفاء شرائط بعض الأفلام ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بحيث أخفوا تلك الشرائط في براميل تحت الأرض. وبعد ذلك بأعوام، تم تداول أخبار عن نقل هذا الأرشيف إلى وسائط إلكترونية، تمهيداً لعرضه في مناسبات فنية عدة، كما وثّق فيلم «بكرة محرمة» 2019 محاولات الموظفين إنقاذ التراث السينمائي بعدسة المخرج الأفغاني أرييل نصر، إذ شهدت الأعوام الماضية أفلاماً كثيرة مميزة لمبدعين من أصول أفغانية، بينهم عتيق رحيمي الذي حصد اهتماماً كبيراً بفيلمه «حجر الصبر» عام 2012 الذي يتحدث عن قوة النساء في المجتمع الأفغاني وقدرتهن على تحمّل ما لا يطيقه الرجال، عن طريق امرأة تسرد حكايتها بعدما يعود زوجها مصاباً إصابة بالغة من ميدان القتال.
فهل تتكرر محاولات إنقاذ الأرشيف الفني التي تم الكشف عنه بعد أعوام طويلة من اختفائه، ويعود مرة أخرى بعد وصول «طالبان» إلى سدة الحكم أخيراً، وهل سيراها المهتمون موثقة في ما بعد؟!السينما الأفغانية… هل تنجو من إعدام «طالبان» مرتين؟
لعبة الـ«باتشا بوش»
تأسست منظمة الفيلم الأفغاني عام 1968، وثُمّنت إنتاجات المؤسسة في أغسطس (آب) عام 2019 عن طريق مهرجان سينمائي عرض حوالى 100 فيلم حول دور العمل السينمائي في البلاد، فيما العصر الذهبي للسينما الأفغانية كان في فترة السبعينيات، إذ ضجت دور العرض بأفلام عن الحب والصداقة والأزمات الاجتماعية، أشهرها «الرجال يوفون بوعودهم»، فكانت الأفلام تُعرض باللغتين الفارسية والبتشو، وهي وثيقة ثرية لماضٍ سحيق وصورة لا يعرف بها من يتابعون أخبار أفغانستان عبر نشرات الأخبار، فيما توصف فترة الغزو السوفياتي التي استمرت قرابة 10 أعوام منذ نهاية السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات بأنها كانت فترة الإنتاج السينمائي الدعائي البحت، والموالي للأفكار الروسية. وحينما وصلت حركة «طالبان» التي بدأت تثبيت أقدامها منذ أوائل التسعينيات، اختفى النشاط الفني، ثم أُعيد استنئافه مع الغزو الأميركي عام 2001، وحاول المهتمون بالسينما هناك نفض الغبار عن هذا القطاع خلال تلك الأعوام العشرين ولكن كانت محاولاتهم صعبة وحينما بدأوا جني ثمارها أخيراً، عادت «طالبان» مجدداً.
عودة «طالبان» صعّبت مهمة العاملين في السينما بشكل عام بعدما وضعت النجاة بحياتهم أولوية أمامهم، بحيث تخفت مغنية أفغانية تُدعى أريانا سعيد كي تتمكن من الفرار من البلاد وقالت في تصريحات لرويتزر إن «طالبان فرضت قيوداً وحشية على البلاد»، فالمغنية التي عُرفت بجرأتها وتحررها في مظهرها، أخفت معالمها تماماً لتتمكّن من الابتعاد، إذ تُعتبر ظاهرة التخفي راسخة في مجتمع تُحرّم فيه أشياء كثيرة.
ظاهرة التخفي هذه رصدها المخرج الأفغاني صديق برمك في فيلمه الشهير الحائز على جائزة «غولدن غلوب» كأفضل فيلم أجنبي «أسامة» 2004، وأول إنتاج سينمائي يصوّر بعد انتهاء حكم «طالبان»، ويدور حول ظاهرة «باتشا بوش»، إذ تُضطر الفتيات إلى التنكر في هيئة صبي لتتمكن من العمل وإعالة أسرهن في غياب أبناء ذكور، فهل التحايل سيكون وسيلة السينمائيين في أفغانستان لمواجهة ومقاومة ما تفعله حركة «طالبان» في المجتمع هناك، أم ستدخل السينما في سبات مجدداً؟!