سوليوود «متابعات»
يوما بعد يوم، يلقى العلاج النفسي قبولا في الوطن العربي، ونقصد هنا العلاج غير الدوائي، بعد عقود سيطرت خلالها الأدوية فقط على نطاق التعامل مع المصابين بأمراض نفسية، الآن أصبحت هناك شراكة بين العلاج الدوائي والنفسي، ويُبشِّر ذلك بنتائج أفضل، لكن ما نفتقده في هذا السياق هو الفهم الصحيح لما تعنيه جلسات العلاج النفسي، خاصة مع تصدُّر صور خاطئة عن تلك الجلسات بسبب الأفلام والروايات، حيث قدَّمت العلاقة بين المُعالِج والمريض فرصة ثرية للمخرجين والمؤلفين. في هذا التقرير، يُصحِّح أستاذ علم النفس «براين روبنسون» بعض الأخطاء الشائعة في الفهم حول العلاج النفسي.
نص الترجمة
كتب الكثيرون عن الصحة النفسية في أماكن العمل والمخاطر التي تواجههم عند الإفصاح عن إصابتهم بمرض نفسي للزملاء أو أرباب العمل، لذا أظن أنه حان الوقت للاهتمام بالتوعية عن الصحة النفسية ومحاربة الوصمة المُتعلِّقة بالعلاج النفسي التي لا تزال منتشرة في جميع أنحاء العالم. فأمامنا الكثير من الجهد الذي علينا بذله في سبيل توعية الناس وتثقيفهم تجاه الصحة النفسية ومحاولة منع الانتحار.
غالبا ما يكون أصل المفاهيم المُضلِّلة حول ما يحدث فعليا في مكتب المُعالِج النفسي هي الروايات أو التلفاز، حيث يَظهَر المُعالِجون النفسيون على أنهم أشخاص فضوليون غير أكفاء أحيانا، وربما أكثر اضطرابا من زوَّارهم (مرضاهم). ستجد أن بعض المَشاهِد المرسومة لهم جيدة، وبعضها الآخر سيئ، وربما ترى جزءا منها كوميديا، لكن تظل العديد من الأساطير حول العلاج النفسي تنتشر حولنا في كل مكان، وفيما يلي سنتناول أشهر هذه الخرافات:
كل مَن يطلب العلاج النفسي هو مريض عقلي
بالطبع هذا الاعتقاد خاطئ ولا أساس له من الصحة، لأنه ببساطة هناك مَن يطلب العلاج النفسي بسبب معاناته من المشكلات نفسها التي نواجهها يوميا مع العلاقات، أو يواجه انعدام الثقة بالنفس، ومشكلات احترام الذات، وضغوطات العمل والحياة، والمراحل الانتقالية، والاكتئاب الذي يسيطر علينا، والقلق الذي ينهشنا. وبسبب كل ذلك، نجد أن معظم مَن يتلقَّى العلاج النفسي يُفضِّل وصفه بالعميل بدلا من المريض.
وفقا لهذه الظاهرة، صرَّح الدكتور بريان إي روبنسون، أستاذ علم النفس بجامعة نورث كارولينا في أميركا، أنه على مدار 25 عاما من خبرته، رأى أن الأشخاص الذين يعالجهم يتمتعون بصحة عقلية أفضل من بعض الأشخاص الذين يسيرون في الشارع ويخشون وصمة العار التي قد تلحق بهم إزاء استشارات الصحة النفسية.إعلان
ماذا عن الشيزلونج؟
حسنا، دعنا نخبرك أن المشهد الشهير للطبيب الجالس على مكتبه يُدوِّن ملاحظاته بينما يتمدَّد العميل على الأريكة (الشيزلونج) نادرا ما يحدث، لأن المُعالِجين يعرفون جيدا أن تنظيم الجلسة ووضع مسافة مناسبة بينهم وبين العملاء أمران حاسمان لتحقيق علاج آمن وفعال، يمكن للبُعد الجسدي أو النفسي عن العميل أن يخلق شعورا بالخوف والرهبة وفقد القدرة على التواصل مع الطبيب تواصلا كاملا، وفشل الإدلاء بالمعلومات المهمة التي قد تساعد في العلاج.
تشبه الجلسات العلاجية النموذجية إلى حدٍّ كبير غرفة معيشتك، حيث يتخذ الطرفان مجالس مريحة دون حواجز تحول بينهما، وغالبا ما يسأل المُعالِجون الجيدون إن كانت المسافة بينهم وبين مرضاهم مريحة، كما أنهم يمتنعون عن تدوين الملاحظات حتى انتهاء الجلسة، ليتمكَّنوا من منح تركيزهم كاملا إلى العملاء.
الأطباء النفسيون والعملاء أصدقاء مقربون
الخرافة التي غالبا ما تظهر في الأدب وتُصوِّر المريض على أنه شخص يدفع للمُعالِج النفسي ليكون لطيفا معه ويتلقَّى منه اهتماما أكبر ليس لها أي أساس من الصحة، فالعلاقة العلاجية هنا هي علاقة حميمية نفسيا، لكنها في الوقت ذاته قائمة على أساس مهني فقط، لأن معايير الأخلاق والقانون تُلزِم المُعالِج بأن تقتصر علاقته بالعميل على جلسات الاستشارة، ورسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل الهاتفية والنصية الضرورية.
تجاوز الحدود بين العلاقة المهنية والصداقة يمكن أن يُفقِد المُعالِجين تراخيصهم جرّاء هذه المخالفات أو الانتهاكات. على الرغم من أن اسم العميل وحكايته الشخصية هي معلومات سرية تماما، فإن إحدى حلقات المسلسل التلفزيوني «ذا سوبرانو» (The Sopranos) لم تلتزم بذلك، وحدث تجاوز أخلاقي خطير حينما كشف أحد المُعالِجين عن اسم عميل لمُعالِج آخر في حفل عشاء على طاولة مزدحمة مليئة بالأطباء. في اليوم التالي، أثارت الحلقة غضب العملاء والمُعالِجين النفسيين في جميع أنحاء البلاد بسبب هذا الانتهاك الأخلاقي الجسيم. ونتيجة لذلك، فقد العمل مصداقيته أمام بعض المتابعين، وفقد المعجبون الثقة به.
العلاج النفسي مجرد حديث بين الطبيب والمريض
المَشاهِد الموجودة في الروايات والبرامج التلفزيونية التي تُصوِّر المُعالِجين يجلسون فقط للاستماع إلى العملاء وإتاحة فرصة للتنفيس عما بداخلهم، والإيماء برؤوسهم تعبيرا عن تأييد كلامهم، وإعادة الكلمات نفسها مرة أخرى، هي مجرد صور نمطية لخرافات. يتمحور دور المُعالِجين أيضا في الروايات حول تفسير التجارب التي مرَّ بها العملاء، بدلا من محاولة الحصول على تفسيرات العميل نفسه.
مع تطوُّر الطرق العلاجية اليوم، يتدرَّب المُعالِجون على الأساليب التجريبية التي تعتمد على اشتراك كلا الطرفين (المُعالِج والمريض) في عملية تعاونية بها الكثير من التفاعلات، قائمة على الحوار ومشاركة العميل في حل المشكلات التي يواجهها. في البداية، يتعاون كلاهما في تحديد المشكلات والأهداف، ثم يراقبان بعد ذلك التقدُّم المحرز من خلال الواجبات المنزلية التي يفرضها الطبيب في بعض الأحيان، التي تُعَدُّ جزءا من عملية العلاج.
لدى الأطباء النفسيين حلول جاهزة لجميع مشكلات الحياة
قد تصدمك حقيقة أن ما يهم في تأسيس علاقة قوية بين المُعالِج والعميل هو التركيز على ما يراه العميل مهما لإحداث تغيير، وليس ما يراه المُعالِج. يُخصِّص المُعالِج الجيد جلسات العلاج للاستماع لاحتياجات العملاء بدلا من تقديم حلول جاهزة. لذا، لا يستمع الأطباء إلى محتوى القصة فحسب، بل يذهب الأمر معهم إلى أبعد من ذلك، فينتبَّهون إلى أجزاء ومواضيع أعمق تدعم القصص التي يحكيها المرضى. هذه الطريقة تُمكِّن المُعالِج المحترف من أن يضع ملاحظات ويوجِّه نصائح فعالة بناء على ما استنتجه لتسهيل عملية التغيير بدلا من الكلمات والعبارات المتكررة.
يُلقي الأطباء النفسيون مشكلات المرضى على كاهل العائلة والنشأة
بعيدا عن السلوكيات الغريبة للبرنامج الأميركي «دكتور فيل» (Dr. Phil) الذي يُقدِّمه الطبيب النفسي فيل ماكجرو (حدث في هذا البرنامج بعض الحوادث منها إلقاء اللوم على بعض الضيوف)، فإن المُعالِج المُدرَّب جيدا لا يلوم العملاء أو يُخجِلهم، أو يُلقي اللوم على عاتق آبائهم، لكنه بدلا من ذلك يساعدهم على رؤية مشكلاتهم بنظرة موضوعية وتحمُّل المسؤولية. لذا لا يتبع أبدا المُعالِج الذي يعمل باحترافية النهج الذي يستند إلى لوم الضحية أو العميل بهدف تغييره.
يمكن للمُعالِجين النفسيين وصف الأدوية
تُعَدُّ هذه واحدة من أكثر الأساطير شيوعا، لأن مصطلح المُعالِج النفسي هو مفهوم واسع النطاق يمكن أن يشمل الأشخاص الحاصلين على ترخيص لمزاولة مهنتهم مثل الأخصائيين والاستشاريين للمشكلات الزوجية والأسرية وعلماء النفس. المشكلة هنا أن الأمر يختلط على معظم الناس، فيعتقدون أن دور المُعالِج النفسي هو دور الطبيب النفسي، وهذا خطأ شائع، فالمُعالِج النفسي يتدرَّب على مهارة مساعدة العملاء في حل مشكلاتهم، بينما يقتصر دور الأطباء النفسيين عادة على وصف الأدوية ومراقبة نتائجها مع المُعالِجين الذين يُلقى على عاتقهم الدور الأكبر في العلاج نفسه.
بإمكان المُعالِج النفسي حل جميع المشكلات خلال جلسة واحدة أو جلستين
مهما صوَّرت الروايات أو البرامج التلفزيونية قدرة المريض على إيجاد حلول لجميع مشكلاته خلال جلسة أو جلستين، فإن الأمور لا تسير على هذا النحو في الحياة الواقعية، لأن متوسط الجلسة نحو 50-60 دقيقة، والجلسة الأولى هي في الأساس جلسة تعارف وقبول وتُعَدُّ مدخلا للعلاج. أما الوصول إلى أصل المشكلة فيستغرق العديد من الجلسات والمزيد من الوقت.
على الجانب الآخر، نادرا ما يستغرق العلاج النفسي ست أو سبع سنوات كما حدث في مسلسل «ذا سوبرانو» (The Sopranos)، بمعنى أن الأمور لن تتحسَّن إذا استمر المريض مع المُعالِج نفسه لفترات طويلة جدا، لأن متوسط دورة العلاج من ثلاثة إلى أربعة أشهر.
يعتقد المُعالِجون أن الشخصية تكتمل في سن الخامسة
ربما يكون اعتقاد الناس بأنه لا يمكنك تعليم الكلاب الطاعنة في السن حيلا جديدة أكبر خرافة على الإطلاق. وبالمثل، فإن قراءة رواية يُقِرّ فيها المُعالِج بأن شخصية المرء تكتمل في سن الخامسة يُثير الضحك، ويُفقِد القصة مصداقيتها، فقد أظهر علماء الأعصاب أن الدماغ يتمتع بخاصية المرونة، وتُتيح لنا تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي رؤية هذا التغيير بمرور السنوات.
كما توصَّل باحثون من جامعة ويسكونسن بأميركا، مستخدمين أحدث تقنيات التصوير بالرنين المغناطيسي، إلى أن التأمل الطبيعي والمفيد يزيد من حجم الكتلة العصبية (أو المادة الرمادية، وهي أحد العناصر الأساسية المدفونة تحت القشرة الدماغية وتشارك في الإدراك الحسي وتنظيم الوظائف الحركية) من خلال تسخير قدرات «الخلايا العصبية» في الدماغ للقيام بذلك.
تستعين أحدث تقنيات العلاج النفسي بمبدأ التعاطف والرحمة مع النفس، معتمدة في ذلك على المرونة العصبية، وخلق مسارات عصبية جديدة في الدماغ. وبالتالي، تُساعد هذه العملية في تأسيس معتقدات وسلوكيات جديدة تستمر مع الشخص مدى الحياة، من المهد إلى اللحد.
يمنح المُعالِجون النفسيون عملاءهم شعورا فوريا بالتحسن بعد كل جلسة
ربما يكون هذا السيناريو ملائما لقصة رواية، لكنه أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالعملاء ليسوا سيارات، والمُعالِجون ليسوا ميكانيكيين يعملون على إصلاحها. لكن دور المُعالِجين يتمثَّل في مساعدة عملائهم على إدراك وكشف كل ما يزعجهم أو يضايقهم، وتستغرق هذه العملية بعض الوقت، وقد تكون مواجهة هذه الحقائق صعبة ومؤلمة في البداية، لكن إثارة المشاعر هو جزء من العملية العلاجية.
عندما يصف المُعالِجون النفسيون مسار الشفاء، غالبا ما نيأس معتقدين أن الأمور تزداد سوءا قبل أن نلمس التحسُّن الحقيقي. لكنَّ المُعالِجين المُدرَّبين باحترافية يمكنهم أن يقودوا العملاء خلال العاصفة والوصول بهم إلى بر الأمان.