سوليوود «متابعات»
حين سُئل المفكر والناقد جوزيف كامبل عن أهم المقومات لصناعة فلمٍ مؤثرٍ يُخلَّد على مستوى الذاكرة البشريَّة، قال: «السيناريو… ثم السيناريو… ثم السيناريو ولا شيء آخر.»
وبحسب موقع ثمانية تكمن قوة الفلم السعودي «حد الطار» الذي عُرض مؤخرًا على نتفلكس من تأليف الأديب مفرج المجفل وإخراج عبد العزيز الشلاحي. إذ ركَّز الفلم على النص كأساس وليس على القُدرة الإخراجيَّة والتصويريَّة، فالأخيرتان توابعٌ تأتي لاحقًا.
مكامن نجاح «حد الطار»
تحمل قصة «حد الطار» إسقاطات اجتماعيَّة وتاريخيَّة جاءت بطريقة إبداعيَّة خلت من الأسلوب المباشر الفج. فاستعرضت أثر الصحوة لا على المجتمع السعودي بمكوناته المُعترف بها على المستوى القبلي أو المناطقي، بل على طبقة «العبيد» المهمشة عِرقيًّا.
كذلك، لم يُذكر في حكاية الحب بين البطلين شامة ودايل كلمةٌ غرامية واحدة. فخالف «حد الطار» بذلك الأفلام السعوديَّة الأخرى التي تمطر وابلًا مباشرًا من كلمات الغرام على المتلقي، ما يُفقد علاقة الحب قدرتها التأثيريَّة على مستوى القصة.
لهذا استحقَّ أن يحصد فلم «حد الطار» جوائزَ عربيَّة ويحدث تفاعلًا مُبشرًا للسينما السعوديَّة كعينة شبه مكتملة فنيًّا عن «القوة الناعمة المرئيَّة». ومن ضمن تلك التفاعلات الإيجابيَّة ما كتبته الناقدة المصريَّة د. علا الشافعي:
«لقد استطاع الفلم أنْ يُقدم عالمًا متناقضًا دون ثرثرة دراميّة طويلة. فالنص والمخرج يحملانِ رؤيتهما الخاصة ويركزان على التفاصيل الدقيقة. ويبدو أنَّ الفلم سيؤسس لبدايةٍ سينمائيَّة سعوديَّة واعدة ومفرحة.»
والحال نفسه مع الكاتب المصري أحمد شوقي الذي قدم قراءةً واسعةً في صحيفة القاهرة أشار فيها:
«لم يستخدم الفلم الجرأة النقديَّة المتكررة لمواجهة الأفكار الأيدولوجيَّة بل قدَّم نقدًا غير مباشر وبتعقيدات متشابكة أمتعتْ المشاهد ذهنيًّا. فجسدت له مأساة عاشتها طبقة مهمشة اجتماعيًّا في أوقاتٍ خلتْ.»
في المقابل تذكر الروائيَّة والكاتبة السعوديَّة هناء حجازي أنَّ وظيفة السينما فلسفيًّا لفتُ انتباهنا للمهمشين في الحياة وهو ما فعله الفلم. إذ ركز على طبقة لا نعرفها إلَّا على مستوى المهنة ولم نُفكرْ بهم يومًا ما كأشخاص!
قصصنا لا قصص الآخرين
من الضروري هنا طرح السؤال: لماذا نال الفلم كل هذه الثناءات من الساحة الفنيَّة العربية لا السعوديَّة فحسب؟
تكمن الإجابة في أنَّ هذا النجاح ما كان ليتحقق دون سيناريو صلب ومتين صادر من أديب سعودي يفهم أهميَّة التفاصيل الصغيرة في صناعة الرؤية الكُليَّة والتركيبة الاجتماعيَّة. وتكمن أيضًا في حضور الخصوصيَّة الثقافيَّة للمتلقي السعودي على مستوى الأغنية والتصوير والإخراج والكلمات والجمل.
فمع مراعاة كل هذه الأشياء يكتمل النموذج الفنيّ المحليّ ويصبح مؤثرًا على الآخر كقوة ناعمة مهما كانتْ البقعة الجغرافيَّة التي ينتمي لها المتلقي. نموذجٌ يَنطلقُ من حكاياتنا وأغنياتنا وأوجاعنا وكلماتنا ورؤيتنا، لا من رؤية الآخرين وكلماتهم وأوجاعهم.
فمشكلة الأفلام السعوديَّة السابقة والمسلسلات الحاليَّة تتمثّل في كون الكُتَّاب غير عارفين للداخل السعودي. أقصد من ناحية الذهنية الجمعيَّة على مستوى الرؤية، وعلاقة التفاصيل الصغيرة جدًا بالعمل ككل.
وهذا ما تعنيه إجابة جوزيف كامبل حينما سُئل عن أهم المقومات لصناعة فلم ناجح بقوله: «السيناريو… السيناريو… ثم السيناريو ولا شيء آخر».
نموذج الفن السعودي الخالص
الحال نفسه مع فلم «مسامير» (وأيضًا المسلسل) الذي يُعرض حاليًّا على نتفلكس. فقد أثار اهتمام مراكز دراسات أجنبيَّة وصحف غربيَّة لأنهُ حقَّق شروط العمل الفني الناجح. إذ انطلق من «المعهود الثقافي المحلي» لا الخارجي المتأثر بمقولات الآخرين حتى وإنْ كانوا عَربًا.
فالعمل المنطلق من نموذج غير محلي يفشل في جذب اهتمام الداخل لأنه لا يشبهه. ويفشل في تحقيق التأثير الخارجي لعجزه عن نقل الحكايات المختلفة القائمة على مبدأ الخصوصيَّة والتجارب الإنسانيَّة المتنوعة في بيئةٍ كانتْ تُعتبرُ غامضةً لسنوات ولأسبابٍ وسياقات تاريخيَّة وأيدولوجيَّة.
بهذا الصدد، كتب الباحث شون فولي، أستاذ التاريخ المتخصص في تاريخ الشرق الأوسط فيجامعة ولاية تينيسي الوسطى ومؤلف كتاب «تغيير المملكة العربية السعودية: الفن والثقافة والمجتمع» عن «مسامير» ما خلاصته:
«عرَّفَنا “مسامير” على كينونة المجتمع السعودي المعاصر من الداخل، وما هي تغيراتهِ الحقيقيَّة والفجوات الفكريَّة التي باتتْ تظهر بين الأجيال.» ويُكمل «إنهُ مسلسلٌ يُجسد حُرية الفن والخيال السعودي الخاص والخالص.»
وهذا هو المنشود. أنْ تُجسد الأعمال السعوديَّة السينمائيَّة حُرية الخيال الفني الذي لا يتحقق دون نصٍ يَضرب بهويته في أعماق المجتمع.
تساؤلات السينما السعودية
من منطلق نجاح «حد الطار»، لا بد هنا من طرح عدة تساؤلات هامة تحافظ على استمرارية نجاح القوة الناعمة في السينما السعودية وتطويرها.
هل ستُكتب الأفلام المستقبليَّة على مستوى السيناريو برؤية محليَّة تصل من خلال محليتها إلى البعد الكوني لتضرب في تأثيرها على الساحة السينمائيَّة العالميَّة؟ وهل ستستعين السينما السعودية بلجان من الأدباء والمتخصصين السعوديين لتوظيف كل ما يُمكن توظيفه على مستوى التفاصيل الصغيرة جدًا؟
فتلك التفاصيل لا ينتبه إليها الكاتب أو المخرج إنْ كان عربيًّا أو غربيًّا، فقط الخارج من رَحمِ هذا الوطن تاريخًا وتكوينًا فكريًّا.
هل ستكرس الوزارات المعنية تفرّغ الأديب السعودي لإنتاج نصوص سينمائيَّة بشكلٍ دوريٍ أو سنويٍّ تنتمي لتاريخنا وهويتنا وتسوِّق للسعودية؟ أم أنَّ المسألة ما زالتْ تأخذ طابعَ المصادفات والعمل غير المنظم!
وماذا عن الأفلام التي تنتمي إلى «بيئاتٍ فكريَّة جديدة»؟ فـ:غالبيَّة الأعمال السينمائيَّة السعودية سابقًا وحاليًّا لا تتجاوز نقد الصحوة وظلم المرأة وقصص الغرام السريَّة برؤية غاضبة على واقع الحال لا برؤية فنيَّة تُجسد الخيال بوصفه خلاصنا الوحيد.
فهذه الرؤية الغاضبة أغرقت السؤال الفني السعودي في هذا الحيز الضيق. وجعلته يتجاهل مسارات أُخرى من الإبداع والأفكار التي يُمكن أنْ تُصبح خميرةً أوليَّة لسؤالٍ سينمائيٍّ ضخم يسافر عبر كافة أقطاب العالم.
ما بعد «حد الطار»
ما يدعو للاستغراب فعليًّا أنَّ كافة الأعمال الفنيَّة التي أحدثتْ أثرًا إيجابيًّا في العالم العربي والغربي كفلم «حد الطار» كانتْ أعمالًا قائمةً على مُبادراتٍ شخصيَّة. ويقودنا هذا إلى تساؤل استنكاري واستفهامي عن دور المؤسسات ذات العلاقة وعدم توليدها لخطاب فني هوياتي يسكن الذاكرة العالمية الآن ولاحقًا.
لهذا من الضروري دعم الكيانات المستقلة داخليًّا والكُتاب المثقفيين لإنتاج نصوصٍ أوليَّة. صحيح أنَّ ثمة مؤسسات كثيرة منخرطة في العمل السينمائي وهو أمرٌ لهُ ايجابياتهُ الكثيرة، لكن لربما أسهم دون قصد في جعل العمل في هذه المنطقة صعبًا للغاية.
إذ أصبحتْ السينما السعودية منطقةً يُتنازعُ عليها بين منظوماتٍ ومراكزَ ثقافيةٍ عِدة لا منظومةٍ واحدة، ودون أنْ يكونَ معروفًا حدود مساهمات ومسؤوليات كل من هذه المؤسسات. ومن شأن هذا التعدد خلق قدرٍ من التنافس المؤسسي في غير محطات الإبداع الفعلية.
كما يجعل بعض مشروعات المؤسسات الثقافية تنتهي عند حد الإعلان عن الرؤى والإستراتيجيات المغرية في أشكالها التوضيحية وتوقيتاتها الزمنية، دون أن تُحقق أهدافًا فعلية.
للأسف تكمن المأساة الحقيقية في افتقار السعودية منذ عقود، رغم ثِقلها السياسي والاقتصادي والروحي، لنموذج سينمائي إبداعي. فقد انصبَّ التركيز على الفعاليات الترفيهية أكثر من قضايا الفكر أو الثقافة العميقة وبلورتها في عملٍ فني. وأهملت المؤسسات الثقافية قدرة المجتمع السعودي المتنوع بأجياله المختلفة على إنتاج فكر وثقافة عبر السينما يُشكلان إضافةً للعالم.
بل ويمكنه النهوض بمشروع محليٍّ قادرٍ على إحداث صدىً إقليمي مؤثر في ظلِّ تراجع المشروعات المنافسة في المنطقة حاليًا.