سوليوود «متابعات»
تعود جذور الثقافة الهندية إلى ملاحم قديمة عمرها آلاف السنين مثل الرامايانا والموهابهاراتا، فهاتان الملحمتان القديمتان مليئتان بقصص ميلودرامية غنية بقيم الحب والتضحية والعشق والشجاعة والروابط الإنسانية، وقد ظلت أشكالٌ متنوعة من الفن والموسيقى تمثّل جزءاً لا يتجزأ من هذه الملاحم.
ومنذ قديم الزمان، بقي الحكي من خلال الرقص والدراما واحداً من أكثر أشكال الترفيه شعبية بين الجماهير، وخاصة أثناء المهرجانات الدينية.
وقبل اختراع الكاميرا، كانت قصص من هذه الملاحم تشخَّص مباشرة في أشكال مسرحية في القرى والبلدات والمدن الهندية وكانت المصدرَ الوحيد لترفيه الجماهير، ثم أتاح دخول الكاميرا للهنود فرصة تصوير القصص التي كانوا يشخّصونها سابقاً في المسارح، حتى تصل أعمالهم إلى حشود أكبر، وكان أول فيلم أُخرج في الهند هو «عالم آرا» في 1930، والذي لاقى نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وجنى من ورائه مخرجه ملايين الروبيات في تلك الأيام، النجاح الكبير الذي حققه هذا الفيلم شجّع آخرين كثيرين على الانضمام إلى سباق صناعة الأفلام.
وفي ظرف عقد من الزمن، أصبحت صناعةً ضخمةً يتنافس فيها منتجو الأفلام مع بعضهم بعضاً على إيجاد شبان وسيمين وشابات جميلات من أجل التمثيل في أفلامهم مقابل مبالغ مالية مجزية، آنذاك كانت الهند بلداً واحداً غير مقسّم تحت الاحتلال البريطاني، وكانت مدينتا لاهور وبيشاور جزءاً من هند واحدة موحدة حيث معايير الوسامة والجمال المطلوبة متوافرة.
وكان أحد أولئك الشبان الوسيمين الذين وجدوهم محمد يوسف خان، وهو ابن تاجر فواكه جافة ميسور، حاول منتجو الأفلام إقناعه بالعمل في السينما، ولكنه ظل يرفض لأنه كان ينتمي إلى عائلة خان المسلمة والمحافظة من بيشاور، والتي كانت ترفض العمل في الأفلام أو حتى مشاهدتها، ولم يوافق على العمل في الأفلام إلا بعد بضع سنوات، وشريطة أن يظل اسمه الحقيقي مخفياً.
فغيّر اسمه من محمد يوسف خان إلى «دليب كومار»، التي تعني باللغة الهندية «الأمير الملكي»، وذلك نظراً لأنه كان يشبه أميراً ملكياً أنيقاً، ثم بدأ العملَ في الأفلام باسمه الفني المستعار دليب كومار في 1944، كان شكل التمثيل الذي يعجب الجماهير كثيراً آنذاك استعراضياً إلى حد كبير، ولكن «كومار» كسر هذا القالب بمقاربة طبيعية أكثر للتمثيل.
ثم سرعان ما لمع نجمه واكتسب شعبية كبيرة في البلاد بفضل أسلوبه الخاص وطريقته المميزة في الإلقاء والحوار والتشخيص، والتي جعلت منه شخصية بارزة أخذت قطاع السينما الهندي، الذي يعرف اليوم ببوليود، إلى أعلى مستوياته عبر العالم كله كما هو اليوم، وعندما قُسّمت الهند في 1947 وأُسست باكستان، رفض الذهاب إلى باكستان، على الرغم من أن مدينة بيشاور التي ينحدر منها أصبحت جزءاً من باكستان، وقال قولته الشهيرة آنذاك أنه «ولد مسلماً هندياً ويريد أن يموت مسلماً هندياً»، ثم بلغت شهرته هوليود بعد صدور الفيلم الهندي التاريخي «مغل الأعظم» الذي لاقى نجاحاً جماهيرياً كبيراً ولعب فيه دور أمير ملكي حقيقي، وتوجه المخرج السينمائي الهوليودي ديفيد لين، الذي كان يستعد لبدء العمل على فيلم «لورانس العرب»، إلى بومباي على وجه السرعة من أجل إسناد دور «الشريف علي» في فيلمه لكومار، ولكنه رفض قائلاً: إنه «لا يريد أن يضع رجلين على مركبين»، ولاحقاً آل ذاك الدور إلى الممثل المصري عمر الشريف.
نجم بوليود الأسطوري هذا والشخصية الكاريزمية للسينما الهندية توفي الأسبوع الماضي عن سن الثامنة والتسعين ودفن إثر جنازة رسمية أقيمت له، أجيال من الممثلين الهنود كانت تقدّره وتجلّه، وكان كل ممثل يرغب في محاكاته، من شامي كابور إلى أميتاب باشان إلى شاروخ خان، وكانوا دائماً يتحدثون عن دليب كومار باعتباره أيقونتهم وقدوتهم، كومار، الذي كان متعلماً وعذب الحديث، سحر جماهير شبه القارة الهندية، أكانوا هنوداً أو باكستانيين أو بنغلاديشيين، بعمقه الأدبي وموهبته الفنية وإجادته للموسيقى، وكانت كل دولة في المنطقة تعتبره ابنها، فقد كوفئ بأسمى وسام مدني من قبل الهند، الـ«بادما بهوشان»، وأيضًا بأسمى وسام مدني من قبل باكستان، الـ«نشان امتياز»، ليكون بذلك الهندي الوحيد في التاريخ الذي حصل على هذين الوسامين المرموقين من بلدين يُعتبران خصمين لدودين، أن تكون نجماً كبيراً في الهند، البلد الذي يبلغ عدد سكانه 1.3 مليار نسمة، مهمة صعبة جداً.
فعدد الثقافات والمناطق واللغات التي تزخر بها الهند تجعل منها البلد الأكثر تنوعاً في العالم، وأن تروق لمقطع عرضي من هذا البلد المتنوع تنوعاً مذهلاً يُعد مهمة صعبة بالنسبة لأي شخص، ولكن دليب كومار كان فوق الانقسام السياسي أو الديني.
وفي الكلمة التي نعى فيها كومار، وصفه رئيس الوزراء الباكستاني بأعظم ممثل في شبه القارة الهندية وأعلن تحويل منزله في بيشاور إلى «بناية من التراث الوطني»، كما اتصل رئيسُ الوزراء الهندي ناريندرا مودي هاتفياً بزوجته «ساحره بانو»، وقال في رسالة إليها: «إن الناس سيتذكرون دليب كومار دائماً باعتباره أسطورة سينمائية هندية، لقد أنعم الله عليه بتميز لا نظير له، ووفاته تمثّل خسارة لعالمنا الثقافي».