سوليوود «متابعات»
لم يعش كثيرا، توفي في الثالثة والأربعين من عمره، لكنّه ترك بصمة كبيرة على السينما اللبنانية، وأرّخ بشكل فاضح للحرب العبثية التي نسفت بلبنان، وحوّلته إلى حلبة قتال مجنونة، غاب فيها العقل والمنطق.
واليوم إن أردنا أن نفهم ما يحدث في لبنان ولماذا، يكفينا إخراج أفلامه من المكتبة السينمائية ومتابعة ما جاء فيها وفق قراءته لما حدث.. إنه المخرج مارون بغدادي، الذي بلغ العالمية سريعا، وأصبح أشهر من نار على علم، ولكن الموت جاءه باكرا وهو في قمة تألقه وشهرته، إذ سقط عن السلّم في بيته ونزف حتى الموت وحيدا، حسب صحيفة الرياض.
في فيلمه «خارج الحياة» الذي يعرض على منصة نتفليكس مع عدد قليل من أفلامه، يروي لنا قصة اختطاف صحفي فرنسي، مقتبسة عن واقعة حقيقية، تنتهي بإطلاق سراح الرهينة، لكن خلال احتجازه وتعاطي المختطفين معه، تمرر الرسائل السّاخرة القوية لبغدادي عن واقع مر عاشه لبنان ولا يزال يعيشه بصيغة أخرى وإن اختلفت.
لن نفهم العلاقة الملتبسة بين المختطفين والرهينة الفرنسية، فهم يكرهونه ويحبونه في الوقت نفسه، يعتبرونه عدوّا وفي الوقت نفسه يحبون فرنسا، يعذبونه بشتى الوسائل الممكنة لديهم، من حرمانه من دخول الحمّام، وشرب الماء وتناول أكل مناسب، وحتى من إحضار طبيب له حين أصيب بمرض أفقده القدرة على الحركة، يعطونه أوامر مضحكة، على نسق «ممنوع تمرض» أو «ممنوع الدخول إلى الحمام حتى الغد صباحا»، يصغون إليه ويصغي إليهم، وفي لحظات يهيّأ إلينا أنّ أحدهم سيشفق عليه ويطلق سراحه، لكن ذلك لن يحدث، ومأساته تستمر طالما قائدهم لم يأمر بذلك، وأمّا هذا الأمر فتقريبا خاضع لمزاج شخصي.
هل هذا هو لبنان؟ أي نعم هذا هو لبنان، أما «سويسرا الشرق» فمجرّد حلم قصير، أو رسالة على أن كل شيء ممكن، لكن في حالة واحدة، إن ثبُتت النّوايا على ذلك.
لا يخلو الفيلم من مشاهد كوميدية، كما لا يخلو من سوداوية قاتلة، لكنّه حقيقي جدا، يمتد حتى أعمق نقطة في أعماقنا، ويجعلنا نقف على فظاعاتنا كبَشر، ثم يقودنا في مشهد أخير عبر طريق تتوسّط الخراب من الجهتين إلى أفق مبهم، لا يبشّر بأي خير، في قراءة بعيدة النظر للمستقبل الذي ينتظرنا والذي نعيشه اليوم بحذافيره، تم إنتاج الفيلم العام 1991، أي منذ ثلاثين سنة بالضبط، لكنّها ثلاثون سنة من الفوضى، يحدثها شبان قليلو النضج، ويا للصدف الجميلة!، فأغلب الممثلين في الفيلم نجوم كبار اليوم، لكنهم آنذاك كانوا في مقتبل العمر، وقد أدوا أدوارهم باحترافية عالية، تؤكّد قدرة بغدادي على إدارة ممثليه.
لا شك أن السينما نوع من الذاكرة، لكنّها أيضا «رأي» و«موقف» و«قراءة» و«خلاصات» و«استنتاجات» و«تنبيهات» ورؤية ما لا يمكن أن يرى بالعين المجردة في حينه.