سوليوود «متابعات»
على تطبيق «شاهد» زاوية للوثائقيات؛ بديعة ومفيدة. دائماً هناك ما تتعلمه من رحلة الكبار نحو المجد. وإن ظننتها من دون أوجاع، فقد أخطأتَ الظن.
ردد محمد علي كلاي؛ صوتُ المنبوذين: «سأكون الأعظم»، وغيّر قواعد اللعبة. «Facing Ali (مواجهة علي)» فيلم وثائقي بلسان ملاكمين سابقين، عرفوا هذا البطل من قرب، يروون للمرة الأولى لذة انتصاراته. رحلة للتاريخ على مدى ساعة ونصف الساعة، بطلها من السُمر؛ عظماء الإرادة، حسب صحيفة الشرق الأوسط.
مشاهدته درس في التحمُّل الإنساني؛ إذ لا يسرد ألمعية علي فحسب؛ بل شقاء كلّ ملاكم وجد في الحلبة جدوى لحياته. «Facing Ali» هو أولاً عن الإصرار… كيف يضع المرء هدفاً ويبلغه؟ وثانياً عن الرحلة بحلوها ومُرّها؛ بالدروب السالكة والشائكة. محمد علي كلاي لاكمَ من أجل العدالة، ولتكون للسود قمم عالية.
يأتي الوثائقي بملاكمين قدامى، وقفوا في وجه كلاي على الحلبة، فيضعون المُشاهد أمام تلك اللحظات الكبرى. لم يكونوا آنذاك أصدقاء، لكنّهم اليوم يحملون الوفاء له. تسيل الذكريات. لكل ملاكم حكايته؛ يرويها بمرارة تصنع الإنجازات، فيشكّلون معاً دلالة على عظمة محمد علي وموهبته.
هنا أميركا منذ عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته، حيث توافُد الأمم المهاجرة وتعدُّد الأعراق. ملاكمون يهود… آيرلنديون… إيطاليون، وكل عرق ولون وصل إلى تلك البلاد سالت دماؤه على الحلبة. الحقيقة أن أشخاصاً مختلفين يلعبون الدور، لكن قلة يرفعون المستوى. كانت الملاكمة لكسب الرزق «Fight to make a living»، وأمكن المرء أن يموت وهو يعطي الناس ما يريدون رؤيته، فأتى ذلك الأسمر ونقل المنافسة إلى العُلا.
اسمه كاسيوس كلاي، ومع بزوغ حركة مناهضة للعبودية، أصبح محمد علي. آنذاك اتحد السود: «كفى. طفح الكيل! نعلن حقّنا بأن نكون رجالاً وبشراً». كانت الإنسانية في حاجة إلى مُلهم يضخّ الأمل في النفوس المُتعَبة. طوله 6 أقدام؛ 3 بوصات ونصف بوصة، بوجهٍ وسيم وموهبة مذهلة. «يأتي أمثاله مرّة في العُمر». العظمة ليست، فحسب، ميداليات وأموالاً خيالية كسبها، كما كسب جولات وحسم مبارزات… هي أن يشعر الآخرون بوجودهم من عمق ضوءٍ يخرق الظلمة. وأن يثقوا بالإبرة، وسط كومة القشّ، فيكون «القائد» أملاً يغلب العدميات. «أختارُ الجولة»؛ كان يقول. ويُكمل أنّه لا يزيح الخصم بالضربة القاضية، إنّما يختار فنّ الجولات. الاستراتيجية هي القوّة. الذكاء سيّد العضلات.
يعني الكثير للسود ومجتمعهم، ولا يزال أيقونة في القتال من أجل الحياة. «سأكون أنا الفائز». الآن فلنستعد المبارزات وفق ما ورد في الشريط. نحن في عام 1963 وهنري كوبر يتذكّر ملاكمة البطل محمد علي «من الداخل» على مدرّج «ويمبلي». كان كلاي لا يزال مبتدئاً، فشعر خصمه أنه «آذى ذلك الأميركي». إلى أن اعترف بعد عُمر: «لم يهزّني فقط؛ بل هزَّ أقاربي في أفريقيا». رجل آخر لاكم كلاي بشراسة «كغسالة»: جورج شوفالو. اختار له هذا الوصف، واستعدّ للقتال. رائع في محمد علي الاستعداد الدائم للتسديد. مُسدّد من طراز أول؛ على الحلبة والمنابر.
وملهم، صفق له كثيرون ورفعوه على أكتافهم. وكلما بارز، علت الصرخات: لقّنْه درساً. لا تتردد في تحطيم أنفه! كأنه بذلك يلاكم عن المنبوذين جميعاً. عمن لا يعرفون لماذا لا يركبون إلا حافلات خاصة ولا يرتاد أولادهم سوى مدارس مختلفة. ولِمَ يُعامَلون بإذلال ويُهانون بكراماتهم؟ وأي انتصار هو لهم وللأجيال التوّاقة للعدل. فصفقوا للآتي. للغد. للشعاع الأول بعد الليل الحالك. وللرجاء في السماء، وقد حدّق بها علي طويلاً، وكلمها كل يوم، و«إذا كانت السماء معي؛ فما من أحد ضدّي»… بالفم الملآن دائماً وأبداً. هذا ما أراد الوثائقي قوله: العظماء بإنسانيتهم.
بطلُ الشعب، قدرُه البقاء نموذجاً في الإلهام والشجاعة. تمرّ في الوثائقي صور بالأبيض والأسود، وهو على الحلبة يلاكم بصبر. وفي مرحلة أخرى، تتلوّن الصور، مع بدايات الألوان، فتُفسّر بعض الملامح وتُظهر تفاصيل مُخبأة. لكن أجمل ما فيه هي شهادات الملاكمين وذاكراتهم الموجوعة. لكل مرحلة رجالها، وكلاي رجل المراحل. موجِع العُمر، وهو يغيّر الإنسان ويهدّ عنجهيته. ملاكمون بين صور الماضي وصورة الحاضر، تساقَط شعر أو تجعَّد وجه، وترهلت أجساد، لكن الذاكرة مُتّقدة، تتدفق منها شلالات الأشخاص والوجوه. خلف الصلابة، حكايات نازفة ونشأة مُعذَّبة، وبعضهم خلّصته الملاكمة من التحوّل قاتلاً مأجوراً، وأنقذته من بشاعة المصير. جو فرايزر، جورج مورن، هنري كوبر… أعطتهم الملاكمة مع محمد علي فرصة للحياة، فتحمّلوا الألم وصمدوا حتى الجولة الأخيرة، واليوم يقولون كل شيء، كلمة ضمير وحق بعد خصومة شريفة. رنَّ الجرس، فخرجوا وسدّدوا على وَقْع الهتافات والحماسات. لكن الفائز واحد، وإن تعدّد الأبطال. محمد علي كان «Hero» العصور.
جسّد الحب، فوجد في المبارزة ما هو أكثر من مال وأحزمة ليُلاكم من أجله: وجد الإنسان. لم يكن دافئ اللسان. وصف خصومه بعبارات مؤذية، ونظر إليهم كأوغاد. قارعهم بنيّة العازم على النصر، ولم يخشَ ضربة غير متوقّعة لعلمه بفنّ المفاجآت. أبعدُ من محمد علي المُلاكم، هو محمد علي المناضل من أجل البؤساء. رافقه هذا الجانب في مسيرة مُضاءَة رغم الآلام. واختار رفض الهزيمة وكل أصناف اليأس. لم يتوقف الوثائقي طويلاً أمام نشأته وظروفه العائلية. أظهر مشهدية البطولة، مع خلفية التحولات الاجتماعية التي رافقت مزاجاً يدعو لحرية الزنوج وحقهم بالمساواة… «لم أرد أن أكون قائداً، بل أن أكون حرّاً فحسب». مستوى آخر في مراتب الإنسانية. وردٌ أقوى من تقلبات الفصول