سوليوود «متابعات»
قد تكون لا حاجة بي إلى ترديد مقولات بشأن السينما والتخييل السردي، أو الفنون بعامة، باتت معلومة لدى المهتمين، مثلما يحدس بها من يعيش الفن بحواسه بغير تفسير أو تفكر بلغة واصفة. كأن يجعلنا الفيلم نعيش الحياة مضاعفة، أو أن تأخذنا الدراما، تصورا وتصويرا، إلى عوالم من الخيال وبهجته، بل تضعنا في قلب التجربتين الإنسانية والفنية.
كل فيلم عالم قائم بذاته كما يعبر سعد القرش في كتابه «عشر سنوات من الخيال»، الصادر عن مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية تزامنا مع دورته العاشرة في 26 مارس من العام 2021.
التفاعل مع الآخر
لعل تناول كتاب«عشر سنوات من الخيال» يعنيني لسببين رئيسيين؛ أولهما يتعلق بتجربتي الخاصة من خلال مشاركتي في دورتين من دورات المهرجان. وكنت، قبل مشاهدة العروض السينمائية للأفلام الروائية والتسجيلية المشاركة، مخطئة في ظني بأن القارة الأفريقية بشعوبها وأقوامها، باستثناء الدول العربية، نموذج بشري واحد، وقضاياها واحدة ليس إلا.
وهذا ما وجدت تعبيرا صارخا عنه في صفحات الكتاب؛ إذ لم أكن الوحيدة من يرى، باستعلاء وجهل، أن دول جنوب الصحراء كتلة واحدة لا تنوع بشريا وثقافيا فيها، بل كان أن من ينتمي إلى القارة نفسها، شمالها الجغرافي العربي تحديدا، يمتلك التصور الخاطئ نفسه.
ويعلل صاحب الكتاب أسباب هذا الجهل بالآخر بالقطيعة التي رفعت شعارا منذ سنوات، ذلك بالإعلاء من شأن الدولة/ الوطن على حساب التواصل الثقافي الفعلي مع دول الجوار، في المستوى الفني السينمائي على وجه الخصوص؛ فكان مهرجان «الأقصر للسينما الأفريقية» صرخة ثقافية انفتاحية دائبة، ودائمة التطور من عام إلى آخر في وجه العزلة، ودائما وفق تعبير معد الكتاب ومقدمه.
أما السبب الثاني فيعود إلى مفهوم «المهرجان السينمائي» نفسه، وتمييزه عن عرض فيلم فحسب. وهو ما أوضحه الكاتب كذلك. المهرجان حالة إنسانية ثقافية، ومجموعة ندوات ولقاءات، وأنشطة تشكيلية، وورش عمل تنفتح على المجتمع المحلي، وعلى المجتمعات الخارجية معا، وهو كتب موضوعة ومترجمة تعنى بصناعة الفيلم، سيناريو، إخراجا، ممثلين، قضايا، ورؤية بانورامية ترصد تطور السينما في قارة. المهرجان إذن، علاقة متعددة الأطراف والأجيال والرؤى. لذا أن تكون في قلب الحدث يختلف عن مشاهدة فيلم والتأثر به وحيدا، سلبا أم إيجابا.
ولكي أبقى في أجواء السبب الأول، أتوقف أمام حادثة لي في الأقصر مع صحافي من إحدى الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية، وقد فرح بمصادفة اللغة المشتركة التي بإمكاننا التواصل بها. وبعد اللقاء تأملت في أحوال الشعوب الإنجلوفونية، الفرنكوفونية، أو اللاتينوفونية، وما تبقى لها من مخلفات الاستعمار بمسمياته كافة عدا اللغة البديلة أو الموازية.
وإن تأخر الوعي بالتحرر وإنشاء حركاته، أو تفاوت ميعاد الاستقلال بين شعب وآخر، فإننا جميعنا لسنا بمنأى عن المشترك الإنساني في الهموم، من علاقة المستعمر بالمستعمِر، وقضايا المرأة والأسرة، والهم المعيشي، وعنف الجماعات المسلحة، والانشقاقات الإثنية والدينية والقبلية ومفرزاتها لاسيما الهجرة والشتات، إلى غير ذلك مما نجد صدى له في الأفلام.
السببان اللذان تقدم ذكرهما بإيجاز يعودان إلى مفهوم علاقة الإنسان بالآخر، وإلى التمركز الذاتي أو نقضه بإيجاد سبل أكثر إنسانية للتواصل الإيجابي مع «جيراننا في العالم»، وإلى فلسفة السينما، وإن لم تجد عناية تذكر من قبل الفلاسفة.
إنما السينما فن؛ وبعضهم يرى أن الفن وسيلة خلاصية أو دافع هروبي من وطأة الواقع وليس فقط انعكاسا لمآزقه.
أود هنا أن أتأمل قليلا في مقولة «تجربة العالم المعيش» الفينومينولوجية، وقد وجدت تمثلاتها مع منظمي «مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية» (برئاسة السيناريست سيد فؤاد، وإدارة المخرجة عزة الحسيني)، في الرجاء والأمل، في تجاوز الصعوبات والفرح بالنجاح، وأخذ الدروس من أي تجربة. والغاية القصوى من أي خبرة إنسانية مماثلة، كما شاهدتها وعاينتها عن قرب، تكمن في معنى التجربة، وهي، أي الغاية، تتقاطع مع دور الفيلم في أن يضعنا في قلب التجربة للشخصيات والممثلين، فنستخلص منها علامات على وجودنا.
السينما وحب البشر
يفصح سعد القرش في التقديم لكتابه، بافتتاحية كتبها حلمي شعراوي، أن كتابته هي في المهرجان وليس عنه، مبتعدا بالقول عن كلام المناسبات وعن الحيادية معا، ليشكل الكتاب حصيلة تأمل في حصاد ثقافي طيلة عقد من الوعي بدور توعوي بالفنون الجميلة، من جهد، وإرادة عائلة المهرجان المؤمنة بضرورة تفكيك المركزية الثقافية للعاصمة، وبأهمية التواصل مع بيئة الأطراف/ الأقصر الحاضنة.
وهو أيضا رصد لتطور السينما الأفريقية بتياراتها وروادها وأبرز رموزها، خاصة أن هذه السينما تدأب لتقديم أفلام فنية، إخلاصا منها لرسالة الفن السابع «في القضاء على الكولونيالية.. والحاجة إلى إعادة اختراع أفريقيا في ما وراء هذا الماضي الكولونيالي».
وجاء الكتاب سجلا معتبرا يؤرخ لكل دورة من دورات المهرجان (2012 – 2019) على حدة، بجوائزها وأنشطتها المتنوعة وإصداراتها، مع جداول موضحة لجوائز المهرجان، وأسماء لجان التحكيم للمسابقات (أفلام روائية وتسجيلية، طويلة وقصيرة، وأفلام حريات أو دياسبورا/الشتات) عن كل دورة.
وصاحب الكتاب، وهو روائي في رصيده ست روايات ومجموعتان قصصيتان، وله كتب رأي وفي أدب الرحلة، وكتاب «في مديح الأفلام»(2016)، يذيل كتابه «عشر سنوات من الخيال» بخمس مقالات، ثلاث منها قراءات في ثلاثة أفلام «ورد مسموم» للمصري أحمد فوزي صالح (2019)، و«ستموت في العشرين» من إخراج السوداني أمجد أبوالعلا السودان (2019)، و«اوالادي» إخراج بيرني جولدبلات من بوركينا فاسو (2018).
وينشر أيضا مقالين وردا في كتابين سابقين من إصدارات المهرجان، وهما «الهجرة.. الرق.. الحرية والبحث عن الهوية في أفلام دول غرب أفريقيا» لفاروق عبدالخالق، (2018)، وهو يقدم بانوراما للسينما الأفريقية، بعيون محلية واعية، كما يرى القرش؛ و«السينما الأفريقية المعاصرة وسينما الشتات «للناقدة الهندية أنجلي»، برابو، ترجمة سهام عبدالسلام ومحمد مراد (2019).
ويستثمر القرش مقولات لكل من أنطونيو غرامشي وفرانز فانون عن موقع المثقف الملتزم، العضوي، أو النموذجي الذي يتولى التفاوض بين الشعب وإجمالي الأمة، غالبا ضد البرجوازيين القوميين، ويرتبط أيضا بخشبة مسرح العالم. لتصبح الأفلام الأفريقية نوعا من التأمل الجمالي والنقدي للذات الأفريقية وللعالم. وهذا ما يعيه المخرجون.
وفي ختام كتابه، يراهن الكاتب على اختبار جدارة السينما برفع الوعي الجمالي والإنساني لجيل جديد من أبناء الأقصر، وتوريث إدمان الجمال والخيال، ذاكرا تجربة هندية قيمة عايشها في إتاحة الفرصة أمام تلاميذ المدارس لمشاهدة أفلام هندية وعالمية خلال أيام المهرجان السينمائي المقام في العاصمة الهندية. وذلك يسهم في تدريبهم على «حب البشر» كما يعبر الكاتب، متمنيا تثمين هذه التجربة محليا؛إذ أن «من لا يحبون الحياة ستظل عيونهم مغلقة باتساع الجحيم».