سوليوود «متابعات»
تحتاج أفلام الخيال العلمي إلى مؤهلات مختلفة على مستوى كتابة السيناريو تراعي الحقائق الثابتة، والخيال الخصب، بجانب جيش من المصوّرين ومصمّمي الغرافيك لتحويل تلك الأحلام إلى مرآة تأسر العقول، مع إلمام كاف بالفرق بين الخيال المقيّد بقواعد العلم وقوانينه، والفانتازيا التي تصنع قوانينها الخاصة من الألف إلى الياء.
ووفقاً لما نشرته صحيفة العرب اللندنية، يجري حاليا تصوير المقاطع النهائية لفيلم “آخر نيزك”، الذي يعدّ التجربة المصرية الأولى للإنتاج ثلاثي الأبعاد، ويتحدّث عن نهاية العالم وتحرّر التطوّر التكنولوجي من السيطرة، لتدخل الروبوتات في صراع مع البشرية، وهي قصة كلاسيكية من أدبيات السينما الأميركية، لكنّ منتجيه يراهنون على معالجة مختلفة.
يعتمد “آخر نيزك” على مجموعة من ممثلي الصفين الثاني والثالث مثل محمد عز وحمزة العيلي وأحمد عبدالله محمود ومنة فضالي، وكلهم لا يحملون تجارب ناجحة مع الجمهور في شباك التذاكر، ما يشي بحجم الصعوبات التي سوف يواجهها الفيلم عند توزيعه في دور السينما، التي تضع في حساباتها وجود أسماء شهيرة قادرة على دغدغة مشاعر الجماهير وجذبهم إلى رحابها.
صور مكرّرة
أفلام الخيال العلمي تحتاج إلى إنفاق سخي على المؤثرات الصوتية والبصرية، ومنطقية الحبكة كي تقنع المشاهد
لم تتعدّ الصور التي تم تسريبها من العمل عن إنسان آلي معدني قريب الشبه بسلسلة “المدمر” لأرنولد شوارزنيغر، وأخرى من الخلف لفتاة ترتدي ملابس حربية، ويحاول القائمون على العمل في جو من السرية التقليل من موجة المقارنة المتوقعة من الجمهور بالأعمال الأميركية، حتى لا يؤثّر على أداء الممثلين وإلى حين إنهاء التصوير الذي يتم بمدينة الإنتاج الإعلامي في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة المتاخمة للقاهرة.
ولا يخشى “آخر نيزك” الذي تنتجه شركة “لايت إينجنن”، من المقارنة مع الخارج فقط، لكن مع مسلسل “النهاية” للفنان يوسف الشريف الذي قدّمه في الموسم الرمضاني الماضي، وتناول صراعات الروبوت أيضا والبشر، مع لمحة سياسية تتعلّق بربط القصة بمدينة القدس في المستقبل، وهو ما يدخلهما في مقارنة صعبة على مستوى الصورة والتمثيل وطبيعة التناول والأداء، في ظل امتلاك العمل الدرامي أسماء لها جماهيرية كبيرة وشركات أكبر على مستوى الإنتاج، وحبكة فنية جيدة.
ويدخل الفيلم أيضا في منافسة مع فيلم “موسى” الذي تم الإعلان عن مقطع تشويقي له في سبتمبر الماضي، من تأليف وإخراج بيتر ميمي، وتم تأجيل عرضه بسبب تداعيات وباء كورونا، ويدور حول طالب في كلية هندسة يخترع إنسانا آليا يساعده في أمور شخصية، لكن الأمور تتعقّد وتخرج عن السيطرة، وتتحوّل المدينة بالكامل إلى أجواء ظلامية وحالة من الفوضى الكاملة.
وتحتاج أفلام الخيال العلمي إلى إنفاق سخي على المؤثرات الصوتية والبصرية، ومنطقية الحبكة والتبرير، كي تصل بالمشاهدين إلى الاقتناع بأحداث وشخصيات بعيدة عن واقعهم، وأحداث ربما لن تغادر العوالم الافتراضية التي نسجتها، وكلما كانت تلك التركيبة منطقية ومنسجمة مع بعضها، كلما سجّلت تقييما أعلى من قبل النقاد والجمهور.
ولا تزال أعمال الخيال العلمي مثار جدل كبير بين المنتجين وكاتبي السيناريو في مصر، الذين يتهمون الإنتاج بالسعي وراء الربح السريع فقط من القصص ذات المضامين الخفيفة من دون محاولة تسجيل قيمة مضافة للسينما، بينما يؤكّد المنتجون أن الأوراق التي ترد إليهم ضعيفة ولا ترقى إلى مستوى إنفاق أموال عليها ومآلها الفشل.
ويعزو المخرج أحمد عوض، أسباب إحجام الإنتاج المصري عن مجال الخيال العلمي إلى اختلال منظومة الإنتاج تحديدا، فثمانون في المئة من الميزانية يتم توجيهها لصالح أجر البطل الأول، والباقي للعمل ذاته، وهي معادلة لا تسمح بإخراج فيلم خيال علمي قوي يحتاج إلى إنفاق كبير على التصوير والمؤثرات.
وطرح عوض، الذي درس الإخراج والتأليف في الولايات المتحدة، قبل عامين عملا بعنوان “الفيلم”، جذب المقطع الدعائي له الأنظار، بكم الأطباق الفضائية والطائرات الحربية التي يضمّها، معتمدا على المؤثرات لتعويض الإنتاج الضعيف الذي دفعه إلى الاستعانة بفريق كامل من العمل لم يسبق لأي من عناصره التمثيل، لكنه لم يجد فرصة في دور العرض بخلوّه من النجوم الكبار.
وأوضح عوض لـ”العرب”، أنه عندما قرّر الاستعانة بنجم من الصف الأول في العمل، فوجئ برغبته في التدخل بجميع التفاصيل التي تخدم دوره، بصرف النظر عن تأثيرها السلبي على القصة الأصلية، وسعيه لاقتناص الجمل الحوارية التي يفترض أن تترك بصمة مع الجمهور على حساب باقي الممثلين، واشترط ترشيح بطلة مشهورة تلعب الدور أمامه.
وعقد المخرج مقارنة توضّح مساحة الفوارق الشاسعة بين إنتاج أفلام الخيال العلمي الحقيقية والأخرى المزيفة، فعلى مستوى الغرافيك يصقل العاملون المحترفون خبراتهم بصورة شهرية ويضيفون الجديد باستمرار، حتى وصل الأمر إلى استحداث مُنتج غرافيك متخصّص يحضر جلسات التصوير باستمرار، ويضع رؤيته لكيفية التقاط المشاهد والزاوية والشكل، وتصوير المشهد الواحد بست كاميرات دفعة واحدة، فضلا عن تخصيص فريق كامل لإنتاج المقطع الدعائي فقط بعيدا عن الفريق الأصلي، لاختيار أفضل مقاطعه القادرة على ترويجه وجذب الجمهور.
ويشكو منتجو أفلام الخيال العلمي من ترصد الجمهور لأعمالهم والتي تجعل من يقبل عليها يتلمّس خطواته، فالمشاهدون يتبارون في إظهار الأخطاء والسلبيات وإغفال المزايا، مع خلط الجمهور بين الخيال العلمي و”الساركيزم” الذي يهدف إلى السخرية اللاذعة مثل فيلم “سينما علي بابا” للفنان أحمد مكي، والذي كان هدفه التهكّم فقط وتعرض لانتقادات حادة لعدم التقاط الجمهور لفكرته.
وربما لا يوجد تقبل للخيال المصري من الجمهور الذي تربى لعقود على النموذج الأميركي، وهو ما يحتاج إلى تدريج الفكرة أولا بإضافته كجزء من الأعمال الأصلية وتوسيع مساحة وجوده باستمرار، وصولا إلى العمل الكامل، مع مراعاة المؤلفين الراغبين في خوض المجال قواعد صناعته جيدا والاستعانة بخبراء في الفيزياء والفضاء والأحياء لاستشارتهم في القصة حتى لا تخرج متضاربة مع أساسيات العلم.
ولا يمثل فيلم “الغسالة” الذي عرض مؤخرا، ويعتبره طاقمه أنه ينتمي إلى أعمال الخيال العلمي، تجربة يمكن البناء عليها من قبل المنتجين المصريين، رغم النجاح الكبير الذي قدّمه على مستوى الإيرادات، فقصة العمل التي تدور حول السفر بالزمن تم تقديمها بقدر كبير من الاستسهال والعشوائية، لكنها نجحت فقط لارتباطات تتعلق بوقت العرض في خضم وباء كورونا وإحجام الأعمال الكبيرة عن العرض، فكان الخيار الوحيد أمام جمهور اختنق من حظر التجوال دخول السينما.
تعود بداية إنتاج أفلام الخيال العلمي في السينما المصرية إلى حقبة الخمسينات التي شهدت أعمالا مثل “رحلة إلى القمر” إنتاج عام 1959، بطولة إسماعيل ياسين ورشدي أباظة، وفيلم “السبع أفندي” بطولة سعيد أبوبكر وشادية، وتلتها سلسلة أعمال في الستينات، مثل “أخلاق للبيع” لمحمود ذوالفقار وفاتن حمامة، وغلب عليها الطابع الكوميدي الهزلي، رغم خصوبة فكرة “السبع أفندي” عن رجل يستطيع المرور من الحوائط، و”أخلاق للبيع” عن تحويل القيم الإيجابية لأدوية يمكن تناولها.
سذاجة سينمائية
عانت الأعمال المصرية من مشكلة تقديم الفضاء الخارجي من بوابة الجنس والغناء فقط، وليس كمادة علمية أو صورة براقة تستطيع جذب الأنظار، ففي “رحلة إلى القمر” الذي تخيّل طاقمه نزول أول مصريين على سطح القمر، تحوّل فجأة إلى رحلة لجلب فضائيات حسناوات يرتدين الملابس التي تكشف مفاتنهنّ فقط، وفي “المجانين الثلاثة” بطولة نجلاء فتحي، عن تجارب إطالة عمر الإنسان إلى الأبد، لم يتعد العمل تجميع اسكتشات غنائية لثلاثي أضواء المسرح (سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد) وتركيب قصة على مقاسها.
وكان فيلم “مملكة الحب” لحسين فهمي، هو المحاولة الأولى لإنتاج فيلم خيال علمي غير كوميدي، عن سعي مجموعة من المستكشفين للعثور على قارة أتلانتس المفقودة، لكنه أسرف في المضمون الجنسي عبر سلسة مشاهد فجة بين البطل والفنانة ناهد يسري التي لعبت دور ملكة أتلانتس، بما يتماشى مع سينما مرحلة الثمانينات التي غلب عليها المضمون شديد الجرأة.
الأعمال المصرية القديمة عانت من مشكلة تقديم الفضاء الخارجي من بوابة الجنس والغناء فقط، وليس كمادة علمية جذابة
ويمثل الخلط بين الفانتازيا والخيال العلمي مشكلة مزمنة في السينما المصرية، والتي تعرّضها عادة إلى قصف من الجمهور الشبابي المتفتح، فالفانتازيا تسمح لمؤلفها خلق عوالم جديدة وابتكار قواعد متكاملة حتى لو كانت تخالف الأعراف العلمية الراسخة، على عكس الخيال العلمي الذي يقيّد مساحة التحرّك داخله بالاتساق مع علوم الطبيعة والفضاء، ويحتاج إلى مراجعة دقيقة قبل كتابة كل تفصيلة أو تخيّل لأي مشهد.
ورغم قلة أعداد الأعمال المصرية التي دارت في فلك الخيال العلمي، لكن لم تكن كفيلة بالتحرّر من تكرار الأفكار، ففكرة تعبئة الأخلاق تم تكرارها في فيلمين، أحدهما لمحمود ذوالفقار والثاني لفؤاد المهندس، وفكرة السفر عبر الزمن تم تقديمها بصورة كوميدية هزلية في عملي “الغسالة”، و”سمير وشهير وبهير”، غير أن هذه المحاولات الساذجة لم تمنع وجود تجارب جيدة مثل فيلم “قاهر الزمن” للفنان نور الشريف، حول تجميد جثث المرضى، أملا في اكتشاف علاج لأوجاعهم مستقبلا.
وتظل مصادفة السينما المصرية للنجاح في تقديم أعمال عن الخيال العلمي مرهونة بالقصة التي تتم معالجتها، والتوقّف عن التعامل مع الجمهور على أنه قطعة إسفنج ستمتصّ المضمون الذي يقدّم، وهي مشكلة مزمنة لا ترتبط بالخيال العلمي فقط، لكن بغالبية الأعمال المقدّمة التي تخاطب الجمهور بطريقة “شاهد.. اقتنع.. ولا تعلّق”.