سوليوود «متابعات»
يُحيلنا الفيلم التشيكي السلوفاكي «الطائر المدهون» (The Painted Bird) لمخرجه فاسلاف مارهول، إلى مطلع الأربعينات ليحكي قصة صبي اسمه يوسكا (بيتر كوتلار) فقد والديه طفلاً، فطاف في البراري البعيدة بحثاً عن الطعام والمأوى وما يتيسر من أمان.
«الطائر المدهون» (2019) هو فيلم عن الهجرة من دون وجهة محددة. خلالها سيلتقي يوسكا بالعديد من الشخصيات (رجالاً ونساءً) وسيتعرض في كل مرة إلى سوء المعاملة والعنف والابتزاز.
تطغى حقيقة أن الفيلم يفقد طريقه باكراً ويقدم كل الشخصيات الأخرى (باستثناء اثنين من أصل عشرات) على أساس عنفها وشرورها التي تنعكس على يوسكا سلباً، تطغى على أن الفيلم، في جانب كبير منه، هو فيلم عن الهجرة.
20 مليون أوروبي
وبحسب ما نشرت صحيفة الشرق الوسط فقد تناولت السينما موضوع الهجرة منذ بداياتها. هناك غجر مهاجرون في فيلم ديفيد وورك غريفيث «مغامرات دولي» (1908)، يحيكون شراً بابن البلد الطبيب لكي يخطفوا ابنه. خلال تلك الفترة هناك أفلام قصيرة (بطبيعة الحال تبعاً لمعظم إنتاجات السينما آنذاك) صورت «الأغراب» مثل ذلك الفيلم الذي صوره سنة 1896 (وكان المصور هو المخرج حينها)، مجهول بعنوان «حاشية عربية في جنيف». لاحقاً تعاطى تشارلي تشابلن مع موضوع المهاجرين في فيلم نقل فيه بعض تجاربه حين حط في الولايات المتحدة ونسجها داخل حكاية تتضمن شخصيته المعروفة فوق سفينة تحمل مهاجرين من أوروبا إلى الولايات المتحدة، وتعرف تشارلي على فتاة بريئة وقع في حبها واستدان دولارين لكي يتزوجها.
النهاية سعيدة.. لكن ليس كل نهايات الهجرة كذلك
في «هستر ستريت» (1975)، لجوان ميكلن سيلفر تعريف بهجرة اليهود إلى أميركا في عهد مضى وما لاقوه من متاعب ليست بالضرورة عنصرية بقدر ما هي ثقافية واجتماعية عامة. الفيلم جيد في تناوله هذه الشؤون، ومرة أخرى قالت المخرجة بعد بضع سنوات من إنجاز فيلمها إنها استوحته من تجربة والديها.
تذكر الإحصاءات أن ما لا يقل عن 20 مليون أوروبي نزحوا من بلدانهم إلى الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بعض هؤلاء كانوا موضوع أفلام عدة في السنوات الخمسين الماضية وأحد هذه الأفلام كان بوحي من وقائع حقيقية.
أهم هذه الأفلام، على نحو أو آخر، فيلم مايكل شيمينو «بوابة الجنة» (Heaven’s Gate) الذي أنجزه، بعد سنوات من العمل على السيناريو ومصاعب كثيرة حين التصوير، سنة 1980.
في عام 1892، وقعت معارك وجود في ولاية وايومنغ بين لاجئين بولنديين وتشيكيين، وبين مرتزقة استأجرهم أصحاب مزارع لتربية البقر بغية طردهم من الأراضي المحاذية لمزارعهم. سُميت تلك المعارك بحرب «جونسون كاونتي» نسبة لموقعها. وأحسن شيمينو توفير الحديث للجبهات المتعددة للموضوع، فالحكايات متعددة وأبطالها (من الفريقين الأميركي المولد والمهاجرين) مختلفون في الثقافات والمفاهيم والغايات.
قبل ذلك انشغل المخرج فرنسيس فورد كوبولا، بنقل تجربة الحياة بالنسبة للمهاجرين الإيطاليين في فيلميه «العراب» (1972) و«العراب 2» (1974). هذان الفيلمان تحفتان بصرف النظر عما حوياه من مواضيع. في الأول ننتقل إلى حياة عائلة دون كارليوني (مارلون براندو) ومواجهتها لعصابات مافياوية أخرى. في فصل من فصول الفيلم يسرد الفيلم كيف قتل صقلي والد دون كارليوني وقسم الثأر الذي قطعته العائلة على نفسها.
في فصل آخر نجد أصغر أبناء الدون، وقد عاد إلى صقلية، ونفذ ذلك الثأر بعدما حاولت المافيا الوصول إليه واغتياله.
في الجزء الثاني من الثلاثية (ورد الجزء الثالث في 1990)، يعود بنا كوبولا إلى نشأة دون كاروليوني (مثله في هذا الجزء روبرت دي نيرو)، في مدينة نيويورك، وكيف انتقل في مطلع شبابه من حياة الزمرة المشاغبة إلى السيادة بعدما تخلص – بعد سنوات – من إيطالي آخر هيمن على الحي، وأجبر من فيه على الطاعة.
كوبولا، في هذين الفيلمين، ومارتن سكورسيزي في كل أفلام العصابات الإيطالية والشوارع السفلى من نيويورك، أفضل من جسد العامل المتعلق بالمهاجرين الإيطاليين وانتماءاتهم العرقية وصراعاتهم فيما بينهم، كما ضد القانون.
لكن سكورسيزي تعرض كذلك، في «عصابات نيويورك» (2002)، إلى الهجرة الآيرلندية وصدامها، كذلك، مع من سبقهم من مهاجرين وذلك، أيضاً وأيضاً، تبعاً لوقائع تاريخية.
ولا ننسى أن المخرج إيليا كازان كان عرض تجربته المرة من طفولته وحتى صباه، إذ وُلد في القسطنطينية في سنة 1906. وواجه وأهله تعسف الأتراك وعنصريتهم حيال غير المسلمين، وصعوبة الحياة تحت عبء هذا التعسف، مما حدا به للهجرة إلى الولايات المتحدة. هذا كان عصارة تجربته التي وضعها في «أميركا أميركا» (1963).
أخيار وأشرار
أفلام المهاجرين شملت كل المشارب البشرية. هناك أفلام عن مهاجرين يابانيين وصينيين وأتراك ولاتينيين ومن شرق أوروبا وغربها، كما أفلام عن مهاجرين أميركيين وأوروبيين إلى تلك البلاد. والحال أنه في كل بلد يحوي أقليات هناك نزعات عنصرية من أصحاب البلاد الأصليين، ولو أن هذا الموضوع يطول التعرض إليه.
بطبيعة الحال هناك العديد من الأفلام العربية التي أُنتجت عن الهجرة العربية إلى القارة الأقرب، أوروبا. في هذا العام واجهنا فيلم كوثر بن هنية «الرجل الذي باع ظهره» عن السوري سامي اللاجئ إلى لبنان في مطلع الحرب الأهلية في بلده.
يلتقي في بيروت بفنان بلجيكي، وهذا يدعوه لمساعدته في الهجرة إلى بلجيكا، بشرط أن يبيعه ظهره. يريد الرسام من سامي حرية التصرف بظهره ليوشمه ويرسم عليه ويعرضه ويجني منه المال الطائل.
يوافق سامي بعدما وضعت المخرجة سببين لذلك: تحقيق حلم الهجرة إلى بلد أوروبي واللحاق بحبيبته التي لم يكن يعلم أنها تزوجت من سواه.
في العام السابق، 2019، شاهدنا فيلماً مختلفاً عن المهاجرين العرب (العراقيين تحديداً)، عنوانه «بغداد في خيالي» لـ(المهاجر منذ حين طويل) سمير جمال الدين.
يتوسم «بغداد في خيالي» رسم مجموعتين من الشخصيات العراقية والعربية عموماً، قسم منفتح وآخر منغلق. ليس هناك مجال لخيار ثالث، لكن المشكلة هي أن الانفتاح على العلاقات الجنسية (طبيعية ومثلية) ليس كافياً لنقض التطرف كما يقترح الفيلم.
يتناول المخرج شخصيات عديدة تعيش في لندن اليوم، محملة بذكريات حياتها السابقة في العراق. في الفيلم بيئتان متناقضتان، عراقية خيرة وشريرة، وبريطانية منفتحة لا تستطيع فهم عدم رغبة بعض المهاجرين التأقلم مع المجتمع البريطاني.
وهناك بالطبع قضية المهاجرين غير الأوروبيين في أوروبا في عدد كبير من الأفلام القديمة والجديدة، ورد الفعل الجاهز حيالهم.
في الفيلم البغاري «خوف» لإيفاليو كريستوف، نجد أرملة تعيش وحيدة في منزلها الريفي في قرية بعيدة، كانت في رحلة صيد منفردة عندما تجد أفريقياَ أسود يجوب الغابات القريبة متجهاً صوب الحدود الألمانية بغاية الهجرة. تقوده، بفرض من بندقيتها، إلى القرية، وبعد رفض السلطات إيواءه بحجة أنها مشغولة بجمع مجموعة كبيرة من المهاجرين الآسيويين، تضطر لقبوله في منزلها. تعامله لحين بعنصرية جاهزة، لكنها عندما تتعرف عليه، تقرر أن يبقى معها ما يجلب غضب أهل القرية وتعرض بعضهم لها.
من نلوم؟
يذكر هذا الفيلم الذي هو من إنتاج العام الماضي، بفيلم الألماني رينر فرنر فاسبيندر، «علي: الخوف يأكل الروح» الذي ما زال، ومنذ إنجازه سنة 1973، مثالاً مهماً للعلاقة بين المهاجرين إلى أوروبا والأوروبيين.
هنا حكاية عامل مغربي (الهادي بن سالم)، يتعرف على المرأة التي تجاوزت سن الشباب وجاذبيته (بردجيت ميرا) ويقعان في الحب. هذا يضعهما في فوهة الموقف العنصري معاً في فيلم أدان مخرجه فيه هذا الموقف الاجتماعي القاصر.
لكن من المُلام إذا ما خاف الأوروبيون من المهاجرين، خصوصاً إذا ما كانوا على شاكلة بطل فيلم «برلين ألكسندربلاتز» (للأفغاني المهاجر برهان قرباني) القادم من أفريقيا (غير العربية) لاجئاً بصورة غير شرعية.
بعد أن يرفض، في البداية، ولوج السبيل غير القانوني لتحقيق الذات، يستجيب ويبني ثروته من خلال توزيع (ثم الإشراف على توزيع) المخدرات.
مشكلته هي حب الانتماء في مواجهة بلد يبقى غريباً عليه. مشكلة الأوروبيين (غير المُعالجة بوضوح هنا) هي النظر إلى هذا التمادي في الهجرة واعتبار الفيلم تأييداً لدعواهم بوقف استقبالهم وإعادتهم من حيث جاءوا.
إنه موضوع شائك في الحياة، ومتعدد الحكايات والأفلام في السينما، لكن النماذج التي سقناها هنا تعكس بعض تلك المواقف على شاشتي الحياة والأفلام معاً.