عادل خميس الزهراني
لطالما كنت متعلقاً بالصحافة، ودورِ الصحافة في العالم الحر، وبأفلام الصحافة كذلك، أعني تلك الأفلام السينمائية التي تتناول قصص الصحافة وعوالمها. تثيرني هذه الأفلام بطريقة غريبة، أشعر أني أنتمي لهذا العالم؛ أفهمه.. ويفهمني. أفهم قيمه، وحجم انتصاراته المنسوبة للناس، لا للحكومات.. أو الأغنياء. كما أفهم خساراته جداً جداً… كلما قُتل صحفي يناضل من أجل الحقيقة، تنطفئ شمعة في الجنة، هكذا أتصور الأمر.. الخسارة الأكبرُ في رأيي هي موت ضمير الصحفي، الصحفي الذي يبيع قلمه وقيمَه يوقظُ في جهنم بركاناً أسودَ الطويّة.
أتذكر الآن كيف أبكاني، وأدهشني فيلم (فيرونيكا قِيرن)، الصحافيةِ الإيرلندية التي كانت تطارد قصة فسادٍ في إحدى مؤسسات السلطة. أبكاني، لأن فيرونيكا قُتلت بوحشية في نهايته. من حينها وقعت في شباك (كيت بلانشت)، وفي تقمّصها العجيب للشخصيات (أعتقد أن أداءها في «بلو جاسمين» محاضرةٌ علميةٌ في الأداء). قلت إن مقتل الصحفية أبكاني، لكن ما أدهشني هو المبلغ الذي كُشف عنه في قضية الفساد، كان تافهاً مقابل ما نسمع عنه في مناطق أخرى.
لا يمكن أبداً -في هذا السياق- تجاهل رائعة ستفين سبيلبيرق (ذا بوست The Post)، الذي يركز على دور كاثرين قراهام (التي ورثت ملكية صحيفة الواشنطن بوست بعد وفاة زوجها لتكون أول امرأة تملك صحيفة أمريكية كبرى)، في صراع السلطة والصحافة في الولايات المتحدة حول فضيحة التغطية على تقارير حرب فيتنام. تتسرب التقارير، التي تثبت تورط رؤساء أميركيين في التغطية، إلى الصحافة، ويبدأ صراع القوة، حين يستصدر المسؤولون قراراً من المحكمة بمنع نشر التقرير، ومحاكمة من يفعل. تقع كي قراهام في ورطة حقيقية حين ينتهي الأمر إليها لنشر التقرير من عدمه. ورغم تبني الفيلم لوجهة نظر نسوية، إلا أنه نجح بامتياز في تصوير حجم الصراع الذي نشأ حول القضية. ميرلي ستريب أدت دور مالكة الصحيفة بصورة مذهلة (وهل تعرف ستريب أن تكون غير ذلك!!). وكان حضور توم هانكس، وبوب أودنكيرك رائعاً.
عملت الواشنطن بوست باحتراف مهووس لتكتشف ما أدى إلى ما يدعى بفضيحة (أوراق البنتاقون)، ثم نشرت الصحيفة التقرير (رغم القيد القضائي الذي صدر ضد التايمز.. وأرعب البقية)، قررتْ كاثرين والواشنطن بوست نشرَ التقرير، ثم تبعتهما صحفُ أمريكا بعد ذلك. أخذت الحكومةُ الصحفَ للمحاكم طبعاً، لكن القضاء أنصف الحرية، والصحافة الحرةَ.. لا تزال كلمات قاضي المحكمة الكبرى ترن في أذنيّ: (المؤسسون.. منحوا الصحافة الحرةَ الحمايةَ الكاملة لتؤدي دورَها المركزيَ في الديمقراطية: وُجدت الصحافة لتخدم المحكومين، لا الحكام..!!).
ثم هنالك طبعاً فيلم (سبوت لايت Spotlight)، العمل العجيب الذي يحكي قصة اكتشاف فضيحة اغتصاب الأطفال التي هزت جدران الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا والعالم المسيحي كله. خاضت صحيفة بوستن قلوب (Boston Globe) حرباً ضروساً ضد أعتى المؤسسات التقليدية أرثوذكسيةً وأقواها شكيمة، وربما أكثر تجذراً في المجتمع الأميركي. وقد كانت الفضيحة الإنسانية التي كشف عنها طاقم قسم التحقيقات في الصحيفة سبوت لايت، بقيادة الصحفي العريق والتر روبي (أدى دوره بطل الأوسكار مايكل كيتون)، أشبهَ بالهزة الأرضية، التي أظهرت على السطح كارثة أخلاقية قاتلة ظلت تختبئ خلف لبوس الدين والكنيسة والأخلاق لعقود.
لا تكفي المساحة هنا للحديث عن أفلام جميلة أخرى، مثل (اقتل الرسول Kill the Messenger)، و (الصدمة والرعب shock and awe)، و(الزجاج المهشم Shattered Glass)… وغيرها. لكن تظل أفلام الصحافة عالماً جميلاً مليئاً بالتشويق والإثارة والحقائق المدهشة.. تلك الحقائق التي تجعلك تتأرجح -وأنت تشاهد- بين حافتين متناقضتين؛ تصعد بك إحداهما إلى سماوات الأمل والتفاؤل، بينما تطل بك الأخرى نحو هوة سحيقة لا ترى لها نهاية.
جريدة المدينة