سوليوود «الرياض»
لحظة حيوية في تاريخ أميركا السوداء، تمثلت في لقاء أربعة من أبرز رموز الأميركيين – الأفارقة في نقاش محتدم حول حقوقهم المدنية وتضامنهم لبناء قوتهم في مواجهة التهميش الاجتماعي، شكلت مدخلا قويا للممثلة والمخرجة الأمريكية ريجينا كينغ إلى مقدمة المشهد السينمائي في فيلمها الروائي الأول الذي عرض في مهرجان لندن السينمائي الذي اختتم هذا الأسبوع.
وفي وقت يشهد ذروة الحراك الجماهيري في مظاهرات “حياة السود مهمة”، والمراجعات التي قادت إليها لعلاقة المجتمعات الغربية مع السود فيها وللماضي الاستعماري وعمليات الاستعباد، تقدم كينغ في فيلمها مراجعة “داخلية” لخيارات السود في الولايات المتحدة في ذروة حراك حركة الحقوق المدنية في الستينيات، وفقا لموقع بي بي سي.
وتتوزع هذه الخيارات على أربعة من الأفارقة – الأمريكيين الذين تجاوزوا حاجز التهميش الاجتماعي ومكنوا أنفسهم بمواهبهم من التقدم إلى مقدمة المشهد الاجتماعي والحصول على سلطة يفتقر إليها أبناء جلدتهم، ليصبحوا رموزا للنجاح بينهم. وهم الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي (وكان اسمه حينها كاسيوس كلاي قبل اعتناقه الإسلام) ، وناشط الحقوق المدنية مالكوم أكس، والمغني والموسيقي الشهير سام كوك، ولاعب كرة القدم الأمريكية الذي تحول إلى نجم سينمائي جيم براون.
اعتمد الفيلم على مسرحية كتبها كيمب باورز وقُدمت في عام 2013، قامت على فرضية وجود لقاء جمع المشاهير السود الأربعة في فندق في مدينة ميامي للاحتفال بمناسبة تتويج كلاي ببطولة العالم بالملاكمة للوزن الثقيل بعد فوزه على سوني ليستون، ليلة 25 فبراير/ شباط 1964.
بنى باورز ، الذي كتب أيضا سيناريو الفيلم وشارك في انتاجه مع المخرجة كينغ وكلاهما من الأميركيين الأفارقة أيضا، على هذا اللقاء الافتراضي الذي جعل من أبطاله يمثلون خيارات متباينة لأبناء جلدتهم في تلك المرحلة. وفي الواقع كان الأربعة قد التقوا فعلا في ميامي في الشهر نفسه، وكانت تربطهم صداقة فعلية.
وكي ينقل باورز مسرحيته التي تدور في فضاء مغلق، وتعتمد الدراما فيها على الجدل الحواري المحتدم وتبادل الحجج المنطقية؛ حرص على أن يضع مدخلا يتابع فيه شخصياته الأربعة، وفي مشاهد يواجه فيها بعضهم العنصرية بالتوازي مع مفتتح الفيلم بمشاهد من مباراة كلاي وليستون الشهيرة، (على سبيل المثال لا الحصر عندما يمنع براون رغم شهرته بعد موسم كرة قدم ناجح من دخول مكان لسواد بشرته).
وهي مشاهد تجري قبل وصولهم إلى لحظة الدراما تلك في غرفة الفندق في ميامي، حيث يصبح الحجاج وإتقان الأداء التمثيلي وتفجر المشاعر المحتدمة وسيلة جذب المشاهد الأساسية، وهو ما أتقنت كينغ (الممثلة المتوجة بدورها بجائزتي الأوسكار وأيمي عن أدائها، والتي أخرجت أيضا عددا من الأعمال التلفزيونية الناجحة) إدارته.
إسلام كلاي
بعد هذا التمهيد، يجمع باورز شخصياته الأربع في فندق في ميامي بدعوة من أكس للاحتفال بمناسبة فوز كلاي، ليكتشف الثلاثة الآخرون المتعطشون لحفلة صاخبة أن أكس لم يقدم لهم سوى الآيس كريم، ونقاشاً جاداً عن قضايا السود وتمكينهم من نيل حقوقهم المدنية. وقد حرص على أن يمد في دور أكس في الفيلم بالمقارنة مع المسرحية بإضافة مشاهد عن حياته العائلية؛ فنراه مثلا يترك المحتفلين في الغرفة ويذهب إلى الخارج لإجراء اتصال تلفوني طويل مع عائلته يبدأ بحديث مع ابنته الصغيرة وزوجته في منزلهما، (رغم أن الحقيقة التاريخية أنهما كانتا معه في ميامي بدعوة من كلاي نفسه، حسبما يشير أكس في مذكراته).
ويحتل خيط العلاقة بين أكس وكلاي وجماعة “أمة الإسلام” دورا محوريا في الفيلم، إذ يختار باورز لحظة مفصلية في العلاقة بين الاثنين تضع صداقتهما العميقة على المحك؛ ففي الوقت الذي قاد أكس كلاي (وكان أشبه بمرشده الروحي) إلى التعرف على الدين الإسلامي واعتناقه والتقرب من جماعة “أمة الإسلام” التي كان هو أحد أبرز الفاعلين فيها إلى جانب زعيمها إلايجا محمد، إلا أنه في الوقت نفسه كان يعيش تناقضا داخليا في علاقته بهذه الجماعة وزعيمها التي باتت بنظره أقرب إلى المافيا الخاضعة لنفوذ زعيمها؛ فيعلن في هذه الليلة عن نيته ترك الجماعة وتشكيل جماعة إسلامية جديدة.
فيدعو أكس كلاي والآخرين لدعمه، لكن كلاي الذي كان قد اقترب من الجماعة بسببه يتهمه بالتناقض وبأنه يستغله. وتصبح تلك اللحظة هي اللحظة التي قادت إلى الافتراق بينهما لاحقا بعد انضمام كلاي إلى الجماعة وانخراطه في دعم نشاطاتها، ويظهر الفيلم الذي نرى فيه كلاي إلى جانب زعيم الجماعة معلنا تغيير اسمه إلى محمد علي كلاي، بعد أن رأيناه في مشهد سابق يلقب نفسه بكاسيوس أكس (مترسما خطا أكس).
ويميل الفيلم إلى تبني وجهة نظر أكس بشأن خلافه مع جماعة أمة الإسلام، فنراه في الفيلم أشبه بالسجين لدى الحرس الذين عينتهم الجماعة لحمايته والذين يتنصتون على الحوارات الجارية في غرفته ويتدخلون بحجة حمايته عندما يحتدم النقاش، إلى الدرجة التي تدفع الأصدقاء الأربعة إلى الصعود إلى سطح الفندق حيث يكملون نقاشهم هناك.
وتتوزع الشخصيات الأربع في الفيلم إلى محورين بالنسبة للعلاقة مع قضية السود في أميركا، المحور الأكثر راديكالية ونشاطا في الانخراط في هذه القضية والداعي إلى العمل على التغيير الجذري للنظام الذي يهمش السود ممثلا بأكس وكلاي، والمحور الثاني ممثلا بكوك وبراون الداعيين إلى العمل من داخل النظام نفسه.
ويصبح خيط المواجهة بين الاثنين في الجدل والخلاف الذي يتفجر بين أكس و كوك، لحظة الذروة الدرامية في الفيلم، (لا سيما وأننا نعرف أن كلاهما سيقتل لاحقا، إذ قتل كوك في حادث في فندق له ملابساته بعد أشهر من هذا اللقاء، وهو ما أهمله الفيلم، لكنه قدم مشاهد لاحقة للاعتداءات التي تعرض لها أكس كالهجوم على بيته وإحراقه قبل اغتياله، بوصفه الشخصية المركزية فيه).
ويهاجم أكس، الذي كان حينها أكبر المجموعة سنا، 39 عاما، كوك، محاولا تحريضه على أن يبذل أكثر من أجل قضية أبناء جلدته في أميركا وأن يستثمر فنه وصوته وشهرته لخدمتها، وفي لحظة محتدمة في النقاش يُسمعه أغنية بوب ديلان “بلونغ إن ذا ويند” متسائلا كيف يمكن لهذا الفتى الأبيض من مينيسوتا أن يقدم أغنية احتجاج مثل تلك أكثر خدمة للقضية من أغاني كوك.
ويدافع كوك عن وجهة نظره بالعمل من داخل النظام نفسه واستثماره، واصفا نجاحه في بناء اسمه في عالم الموسيقى بأنه نموذج نجاح سيفتح الباب للعديد من الفنانين السود، ويضرب له مثلا بما جناه عندما غنى فريق الرولنغ ستون أغنية “إتس أول أوفر ناو” التي انتجها هو وغناها عازف الغيتار في فرقته بوبي ووماك وتربعت على قائمة أفضل الأغاني بعد أن كانت بتسلسل 94 بصوت ووماك، فقدموا له خدمة إلى جانب المردود المادي في نشر الأغنية الأصلية التي عادت لتكون بعد أسابيع على رأس قائمة أفضل الأغاني.
ويغادر كوك الفندق إثر تصاعد الخلاف بين الاثنين مصطحبا كلاي معه في جولة صاخبة بسيارته الفيراري الوردية اللون، يعودان بعدها الى أكس وبروان، اللذين يواصلان نقاشهما فيبدو براون في صورة العقلاني المعتدل والمتواضع والذي كان حينها يخطو خطوته الأولى في عالم السينما بالتمثيل في فيلم من أفلام الغرب الأميركي “ويسترن”، حيث ظهر بدور سيرجنت فيما عرف بالبفلو سولجرز، أي فرقة المشاة من السود في الجيش الأميركي الذين شاركوا في القتال ضد الهنود الحمر في فيلم “روي كونتشوس”.
وعلى هذا التضاد بين الشخصيتين، تبني كينغ هارموني مشهدها الختامي على نغم أغنية تغيير سيأتي “أ تشينج إز غونا كوم” التي يغنيها كوك في برنامج تلفزيوني وبالتوازي معها نرى مصائر الشخصيات الأخرى كالهجوم على بيت أكس وإحراقه قبل مقتله ونشاطات كلاي مع أمة الإسلام.
مباراة في الأداء
لقد نجحت المخرجة كينغ والكاتب باورز في صنع فيلم ناجح عن لحظة تحول كبرى في تاريخ كفاح السود في الولايات المتحدة الأميركية في الستينيات، عبر خلق بناء درامي متوتر ومتصاعد ضمن فضاء عاطفي من الصداقة والتضامن يحتدم بالكثير من الأسئلة والجدل الفكري بين الشخصيات الأربع؛ التي احتفظت بخصوصياتها مع تقديمها كنماذج لخيارات الأميركيين الأفارقة في الحصول على القوة وكيفية ممارستها.
فلم تخف كينغ الطابع المسرحي المهيمن على الفيلم، بل أخلصت لفكرة نقل المسرحية إلى السينما و تحدي التصوير في مكان مغلق لإبراز قدرات الممثلين وإدارتها للممثل، الذي هو عنصر قوتها كممثلة محترفة ناجحة.
فكان أفضل ما في الفيلم هو نصفه الثاني مع ذلك الجدل المحتدم بين الشخصيات الأربع في غرفة الفندق ومباراة التمثيل بينهم في تجسيد الشخصيات؛ بل قل الأنماط السلوكية التي يجسدونها، فكانت الحجج والأفكار الذهنية التي تتبادلها الشخصيات تقدم في فضاء عاطفي كثيف وتوتر درامي متصاعد يجذب المشاهد الى متابعته.
ولا شك أن أداء دور شخصية تاريخية لها حضورها في أذهان الناس منذ وقت قريب يشكل تحديا كبيرا للممثل، لكن كينغ نجحت في قيادة ممثليها بنجاح لعبور هذا التحدي واستخلاص أفضل القدرات الإدائية منهم، فمنحت الممثل المسرحي والتلفزيوني البريطاني، كينغسلي بن أدير ،فرصة لتقديم أفضل دور سينمائي له حتى الآن في دور مالكوم أكس، عندما نجح في التعبير عن السمة العاطفية ولمسة الضعف الإنساني الكامنة خلف تلك الشخصية القوية القيادية التي اتسم بها والتي تميل للهيمنة على الآخرين أو خلف شخصية المناضل الذي ينذر نفسه لقضية.
بالتأكيد سيحضر في الذهن عند تذكر مالكوم أكس أداء الممثل دينزل واشنطن لهذه الشخصية في فيلم المخرج سبايك لي الذي حمل اسمه، بيد أن بن أدير نجح في تجاوز ظلال أداء واشنطن للشخصية ومنحها أبعاد أدائية جديدة ومختلفة. وكذلك كانت الحال بدرجة مختلفة مع الممثل الكندي إيلي غوري في دور كلاي، الذي بدا مختلفا عن أداء ويل سميث للشخصية في فيلم “علي” للمخرج مايكل مان، على الرغم من أنه ظل يواجه صعوبة في محاكاة طبقة صوت كلاي، إلا أنه نجح أيضا في تجسيد صورة التردد والقلق الكامنة خلف شخصية كلاي المزهوة بخيلائها (عندما يصف نفسه بالأعظم).
وجاء اختيار ليزلي أودم جونيور، (وهو ممثل مسرحي وسينمائي ومغني جاز معروف أيضا، سبق له أن توج بجائزة أفضل ممثل ضمن جوائز توني عام 2016 عن أدائه في المسرحية الاستعراضية في بروداوي “هاميلتن”)، مناسبا لأداء شخصية المغني سام كوك التي بدت في الفيلم حيوية وغنية بتحولاتها بين السلوك البوهيمي أو المشاهد الغنائية أو المشاهد الحوارية القائمة على الجدل والحجاج، كما هي الحال في النقاش المطول مع أكس الذي احتل مساحة كبيرة من زمن الفيلم.
ووقع على مديرة التصوير تامي ريكر (وهي أول امرأة تفوز بجائزة جمعية المصورين الأمريكيين) عبء كبير بسبب التصوير في مكان مغلق أو تجسيد مناخ مرحلة الستينيات، وقد نجحت في اجتيازه بامتياز مقدمة إنموذجا ناجحا للتصوير في المكان المغلق واستثمار التفاصيل الصغيرة في الخلفيات لخدمة البناء الدرامي، مثل استثمار وجود المرايا وعكس صور الشخصيات المتحاورة في الغرفة الصغيرة عبرها، أو في الإكثار من اللقطات القريبة لوجوه الممثلين والتقاط تغيرات ملامح الوجوه وانفعالاتها في تلك المشاهد الحوارية المطولة.
واستثمرت المخرجة كينغ موسيقى الجاز والبلوز لتكون جزءا أساسيا من البناء الدرامي وليس مجرد موسيقى تصويرية ترافق مشاهده، لاسيما أن إحدى الشخصيات الرئيسية لديها هو مغنٍ وموسيقي معروف، فكانت موسيقى أغانيه وأداؤها بشكل مباشر حاضرة في الفيلم، ووصلت ذروتها في مشهد الختام حيث أدت وظيفة سردية مهمة في الفيلم عندما مزجت المخرجة تطورات مصائر الشخصيات المختلفة مع موسيقى وأداء كوك لأغنيته عن التغيير القادم.
ففي تلك الليلة المحتدمة وفي تلك الغرفة الصغيرة نجحت كينغ في التقاط روح العصر في لحظة انتقالية في ذروة حراك الحقوق المدنية في ستيتنات القرن الماضي لتقدمها في اللحظة المناسبة لأجيال جديدة خرجت اليوم للشوارع لتعيد طرح الكثير من التساؤلات التي تجذرت في تلك المرحلة.