سوليوود «الرياض»
توج فيلم “الحديث عن الأشجار” للمخرج السوداني، صهيب قسم الباري، بجائزة أفضل فيلم وثائقي في جوائز اختيارات النقاد العرب لهذا العام، إلى جانب فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان “إن شئت كما في السماء” الذي منح جائزة الإخراج وأفضل فيلم روائي.
وتضاف هذه الجائزة إلى سلسلة الجوائز التي حصدها الفيلم، من أمثال “التانيت الذهبي” لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان قرطاج السينمائي والنجمة الذهبية للفيلم الوثائقي في مهرجان الجونة السينمائي بمصر، وعدد من الجوائز الأخرى التي ابتدأها بحصوله على جائزة “غلاسوته أوريجنال”لأفضل فيلم وثائقي عند عرضه الأول في مهرجان برلين السينمائي في عام 2019.
ووفقا لموقع بي بي سي تندرج معظم هذه الجوائز في موجة احتفاء بالأفلام السودانية ترافقت مع الحراك الشعبي في السودان والإطاحة بنظام حكم الرئيس عمر البشير العام الماضي، والذي شهد احتفاءا بثلاثة أفلام خرجت من السودان وحظيت باهتمام وترحيب عالميين وتوجت بالعديد من الجوائز؛ هي إلى جانب فيلم قسم الباري: الفيلم الروائي “ستموت في العشرين” لأمجد أبو العلا، والفيلم الوثائقي ” الخرطوم أوفسايد” لمروة الزين.
وهذه الأفلام الثلاثة، وهي أكبر كم إنتاجي في السينما السودانية في العقود الأخيرة، لفتت الانتباه لمكان ظل غائبا ومنسيا في خارطة السينما العالمية، وظلت السينما تواجه فيه قيودا مجتمعية وبيروقراطية وسياسية، لاسيما بعد مجيء ما يعرف بنظام الإنقاذ في الانقلاب الذي قاده البشير متحالفا مع الجبهة الإسلامية في عام 1989، والذي أهمل الاهتمام بالسينما، وكادت تنقرض انتاجا أو عروضا من الحياة السودانية.
والملاحظ هنا أن الأفلام الثلاثة أخرجها سودانيون درسوا أو عملوا في المهجر وليس داخل السودان.
في هذا الفيلم يحاول قسم الباري أن ينفض الغبار عن واقع السينما المنسية في السودان، لكنه لا ينجرف نحو مجرد محاولة توثيقية تقدم مقاطع من إنتاجاتها القليلة وسردا تاريخيا ومقابلات مع من تبقى من مخرجيها ورموزها، بل يقدم حديثا عما تبقى من أشجارها ضمن حكاية إنسانية مفعمة بالعاطفة والحنين توثق حياة أربعة منهم وأحلامهم ببناء تجربة سينمائية سودانية عرضا وإنتاجا.
الفرسان الأربعة
يستعير قسم الباري عنوان فيلمه من مقطع في قصيدة للشاعر والكاتب المسرحي الألماني، برتولد بريخت، يقول فيه “أي زمن هذا الذي يكاد يكون فيه الحديث عن الأشجار جريمة، لأنه يعني السكوت عن جرائم أشد هولا”، فيصبح العنوان مايشبه الاعتذار والتلميح إلى وجود جرائم أخرى أكثر قسوة وهولا في السودان، ظلت تقبع في خلفية حديثه الشجي عمن تبقى من أشجار السينما السودانية.
ولا يتحدث قسم الباري عن الماضي هنا بل عن أحلام موؤدة في هذا الماضي، ومشاريع مؤجلة وفنانيين حالمين تسرب الزمن من بين أصابعهم وباتوا على أعتاب الشيخوخة من دون أن يتمكنوا من تجسيد أحلامهم ولم يحققوا سوى نثار قليل هنا وهناك منها.
وهم أربعة من المخرجين الحالمين ببناء صناعة سينمائية سودانية ممن ورثوا هذا الحلم عن مرحلة الستينيات والسبعينيات ودرس معظمهم السينما في بلدان أجنبية قبل العودة الى السودان. فقد درس إبراهيم شداد السينما في مدرسة السينما في بابلسبيرغ في ألمانيا الديمقراطية سابقا ودرس سليمان محمد إبراهيم النور في معهد “غيراسيموف” للتصوير السينمائي في موسكو بالاتحاد السوفياتي السابق ودرس منار الحلو السينما في رومانيا والطيب مهدي درس في المعهد العالي للسينما في القاهرة بمصر، ومن الواضح من معظم أمكنة الدراسة أنها كانت نتاج ارتباط سياسي بحركة اليسار السوداني في ذلك الوقت.
وبدا هؤلاء الفرسان الأربعة الذين شاخوا ولم تتح لهم فرصة إنجاز أحلامهم، مثل “دونكيخوتات” لا يحاربون طواحين هواء بل طواحين البيروقراطية والإدارات الأمنية، بعد أن منحهم تصوير فيلم عنهم دفقة حيوية في الحديث ومحاولة استعادة أحلامهم ومشاريعهم وقيمهم التي وأدها واقع سياسي قاس ونظام قيمي مجتمعي مختلف ونمو مجتمعهم في مسار مختلف عما حلموا به.
وجل ما نجحت به هذه المجموعة هو تأسيس “جماعة الفيلم السوداني”، وهي جمعية ثقافية غير ربحية مستقلة تأسست في أبريل/نيسان 1989، واقتصرت نشاطاتها على التثقيف ونشاطات انتاجيه محدودة، وحفظ أرشيف سينمائي مبعثر للسينما السودانية، وكما قدم الفيلم المخرجين الأربعة الأعضاء فيها بوصفهم سدنة يحرسون هذا الماضي وأحلامهم فيه بصنع سينما سودانية.
وهذه ثيمة أثيرة لدى قسم الباري، سبق له أن قاربها في فيلمه الوثائقي السابق “أفلام السودان المنسية” الذي وثق فيه حكاية الصديقين “بنجامين وعوض” اللذين أفنيا عمريهما في حفظ الأرشيف السينمائي السوداني، الذي أهملته الدولة وبات حفظه بالنسبة إليهما قضية شخصية. وقد قدم الفيلم واحدة من أجمل الشخصيات في تاريخ السينما السودانية هي “بنجامين” الرجل الجنوبي الذي عاش في الشمال ونذر نفسه لحفظ الأرشيف، لكنه بات بعد انفصال جنوب السودان أجنبيا عليه الحصول على إقامة، رغم ذلك يواصل عمله في بكل تفانٍ وإخلاص في الأرشيف السينمائي، فهو وطنه الوحيد الذي يحرص على الحفاظ عليه، حتى وفاته التي صورها الفيلم، في استعارة رائعة عن سودان موحد تلاشى في الواقع لكنه حاضر في شواهد مثل بنجامين.
سينما الحلم
يتجاوز قسم الباري في فيلمه هذا الحدود بين الوثائقي والروائي، فكثير من مشاهده مُمثلة أو مصنوعة لفيلمه بالاتفاق مع أبطاله الذين هم بدورهم لا يمكن فصل الفني عن الواقعي لديهم، فأحلامهم الفنية تختلط بواقع حياتهم اليومي، (فالسينما في السودان هي سينما حلم وليست واقعا مجسدا، يظل معظم تاريخها مرتبطا بأحلام لتجسيد أفلام سينمائية، مجهضة في الغالب، لم يخرج منها إلى الواقع سوى نزر قليل يكاد يتجاوز بصعوبة أصابع الكف الواحدة على مدى نصف قرن على صعيد الفيلم الروائي مثلا)، فتراهم يمثلون ويصورون افتراضيا مشاهد من أفلام يحلمون بصنعها وبعضها كانت لحظات صعبة مروا بها في حياتهم (مشهد التعذيب بقطرات الماء الذي يعيد شداد مع زملائه فيه تمثيل ما مر فيه في السجن).
ومثل هذا الخلط مبرر، بل هو سمة تفوق للفيلم ما دام موضوعه فن السينما نفسه وكفاح أربعة مخرجين لتقديم رؤاهم ونتاجهم وسط واقع اجتماعي سياسي قاس. فيصبح خيط متابعة مسار حياتهم اليومية ومحاولتهم إحياء دار سينما لتقديم عروض سينمائية تثقيفية فيها؛ هو خيط السرد المركزي الذي تنتظم فيه “خرز” مختلفة من مشاهد أرشيفية من الأفلام السابقة التي أخرجوها أو رسائل تبادلوها أو استعراض معدات سينمائية قديمة استخدموها (عدسات كاميرات وكاميرا 16 ملم قديمة وآلات عرض، فضلا عن أوراق توثيقية وسيناريوهات أفلام لم تنفذ)، أو ذكريات يتحدثون عنها أو يعيدون تمثيلها. فالفن هنا يختلط بالواقع اليومي بل هو الفضاء الذي تدور في أحداث الواقع اليومي التي يسجلها فيلم “الحديث عن الأشجار” في النهاية ضمن “جنرة” الفيلم الوثائقي.
وهكذا ينثر قسم الباري في فيلمه مشاهد أرشيفية من أفلام سابقة لأبطال فيلمه، لا تقطع مسار سرده بل تأتي مكملة له، كما هي الحال مع فيلمي “جرذ” وحفلة صيد”، والأخير هو فيلم التخرج لإبراهيم شداد الذي تحفل سيرته بأفلام عديدة مضاعة وممنوعة ولم يكتمل إنتاجها، أو مشهد أرجل الجمال وهي تعبر شارع اسفلتي في فيلم “المحطة” للطيب مهدي 1988 وفيلم “أفريقيا: غابة، طبل وثورة” عام 1978 لسليمان محمد إبراهيم النور.
“فتش عن الخائن”
يفتتح قسم الباري فيلمه بظلام ونسمع خلاله مكالمة أحد أعضاء جماعة الفيلم السوداني مع موظف مؤسسة الكهرباء، ثم يدخلنا إلى واقع السينما في هذا الظلام مع مشهد تمثيلي أمام كاميرا سينمائية متخيلة وعلى ضوء مصباح (بروجكتر) يعمل بالبطارية، في استعارة واضحة إلى ظلام العقبات الذي يحوط هذه السينما.
ثم ينتقل إلى تصوير برنامج في استوديو إذاعة عن السينما السودانية يشارك فيه أعضاء الجماعة، حيث توصف السينما السودانية فيه بأنها “البطل الذي مات” ويركز على حديث المخرج إبراهيم شداد عن أن “البطل لا يموت عادة في السينما، وإذا حدث ذلك فسيكون إما موتا طبيعيا أو يقتله خائن. وموت السينما السودانية كان فجأة، قتلها الخائن؛ لذا عليك أن تفتش عن الخائن”.
ويحكم هذا التفتيش عن الخائن مسار الفيلم الذي صُور قبل الحراك الشعبي السوداني والإطاحة بحكم إنقلاب الإنقاذ في السودان، الذي يقدم انموذجا للعقبات البيروقراطية والسياسية والرقابية التي تواجه السينمائيين الحالمين؛ حتى في أبسط المهمات التي يريدون إنجازها كعرض فيلم سينمائي، وهي الحكاية التي تشكل المسار الزمني للفيلم، لكنه ينثر حولها مشاهد مختلفة من حياة الجماعة وأحاديثها ومشاهد أرشيفية من أفلامها.
ونتابع غوص شداد في أرشيفه الشخصي وإخراجه لسيناريو فيلم “تمساح” الذي لم ينفذ، أو صناديق معداته السينمائية القديمة المخزونة في صناديق علاها الغبار، أو إعادة تمثيل مشهد تعذيبه في السجن، أو محاولة سليمان النور البحث عن فيلمه الضائع والاتصال بجهة الإنتاج في موسكو أو مشاهد أرشيفية من حفلة توديعه بعد تخرجه من معهد السينما هناك؛ ومشاهد قراءة مراسلاتهم المشتركة: كالمراسلات مع الطيب أو رسائل شداد بعد هجرته إلى مصر ومن ثم كندا.
ويغلب على هذه المشاهد التصوير الليلي، فنرى المجموعة على سبيل المثال لا الحصر، في أمسية ليلية على السطح، حيث تركز الكاميرا على تصوير الشخصيات فرادى في لقطات قريبة أو متوسطة وتشحب تفاصيل المكان أو عمق المجال في خلفية الصورة.
لكننا بالمقابل نرى في المشاهد النهارية الكراسي الفارغة في صالات السينما المهجورة والجدران العتيقة التي علاها الغبار والأماكن الخالية من البشر، وبيوت الحارات الشعبية البسيطة بمظاهر الفقر الواضحة فيها، جمالية خاصة، إذ صورت بكاميرا “محبة”، إذا جاز مثل هذا التعبير، تستكشف المكان بحنو ورويّة.
وشكلت مشاهد دوران المجموعة على السينمات المتروكة، واختيار تلك السينما الصيفية المهجورة، “سينما الثورة” في أم درمان، ومحاولتهم ترميمها وتنظفيها وتهيئتها للعرض السينمائي بعض أجمل مشاهد الفيلم، وبدت مرثيةً لصالات السينما في السودان التي اندثر معظمها ولم تعد البلاد تضم سوى نحو سبع صالات سينمائية أو ربما أقل، لأكثر من 40 مليون نسمة.
وعلى الرغم من أن بعض المشاهد بدت مصنوعة أو مقحمة، كمشهد حديث شداد مع الجمل الذي يدخل وسط باحة السينما، والآذان الذي يتقاطع مع تقديمه للفيلم، والذي حاول الفيلم أن يجعل منه ثيمة أساسية في إشارة الى الطبيعية “الدينية” للنظام الحاكم في السودان، ومشكلة افتراضية ستواجه عرض الفيلم (الذي لم يتحقق) في منطقة محاطة بالمساجد التي ستبث مكبرات صوتها صوت الأذان بالتزامن مع توقيت الفيلم، وباتت مادة للتندر بشأن ما الذي سيفعلونه لو تزامن الأذان مع مشهد قبلة في الفيلم.
ويواصل قسم الباري مرافقة تلك الصحبة السينمائية ملتقطا لحظات حنينها وتمسكها بالأمل ويأسها أحيانا وتعليقاتها الساخرة، ورحلاتها بتلك الحافلة الصغيرة القديمة “ميني باص” لنقل معدات العرض السينمائية أو زيارة صالات العرض المتروكة المقترحة، فضلا عن تلك العروض التجريبية التي حاولوا تقديمها في تلك الأماكن المهجورة التي شكلت بعض أبرز مشاهد الفيلم، كما هي الحال مع مشهد العرض التجريبي لفيلم تشارلي شابلن لجمهور من النساء والأطفال؛ حيث ينصبون شاشة مؤقتة على جدار تنسحب إلى النصف أثناء عرض الفيلم في مشهد ينظر فيه شارلو الجائع إلى أرغفة الخبز، فيبقى شابلن في النصف الأعلى من الشاشة وصور أرغفة الخبز تنعكس على الجدار الواقعي الذي كان خلف الشاشة، في لقطة رائعة تشكل استعارة عن تلك المزاوجة بين الفن والواقع.
أمل صَقله اليأس
ومع تحطم حلم الجماعة البسيط بإقامة عرض سينمائي للجمهور (حتى وإن كان مجرد فيلم تسلية من أفلام الويسترن) على صخرة عدم موافقة الأجهزة الأمنية، ينهي قسم الباري فيلمه بأبطاله وهم يشاهدون بأسى مشاهد وثائقية من التغطية التلفزيونية لفوز البشير بنسبة 94.6 في المئة من الأصوات في انتخابات الرئاسة السودانية في عام 2015.
ويتلاشى صوت خطاب البشير وهو يشكر الجيش والأجهزة الأمنية ليمتزج مع فيلم سليمان النور “أفريقيا: غابة، طبل وثورة” ونراه نائما قرب شاشة التلفزيون، ثم ننتقل إلى سور سينما الثورة بعد منتصف الليل لنرى شداد ممسكا بمكبر صوت معلنا عن فيلم الويسترن الذي اختاروا عرضه ومستخدما لغة ذات محمولات دينية، ثم متخذا وضع بطل أفلام الغرب الأمريكي ومحولا مكبر الصوت إلى رشاش؛ لنسمع صوت زخة رصاص مع إظلام شاشة العرض.
وعلى الرغم من أن فيلم الحديث عن الأشجار فيلم وثائقي بالدرجة الأساس يتحدث عن الواقع بمفرداته نفسها، لكنه (وهذا سر الجمال فيه) بدا فيلما عن حلم، يمثل خيارا جماليا للتعويض عن واقع بائس غارق تحت ألة قمع قاسية، وبدا أيضا رغم كل أثقال اليأس والعقبات التي حاصرت أبطاله في الواقع، فيلما عن التفاؤل و”الأمل الذي صقله أعتى أشكال اليأس”.