سوليوود «الرياض»
ثمة لغز يقف وراء اختيار امرأة في الستينيات من العمر العيش منفردة على حدود الصحراء الكبرى في الجزائر، يفصلها عن أقرب بلدة نحو 70 كيلومترا.
لُغز لا ينشغل المخرج الجزائري الشاب، حسان فرحاني، كثيرا بحله في فيلمه “143 طريق الصحراء” الذي أنجزه عن حياة هذه المرأة التي تحمل اسم مليكة، بقدر انشغاله بتوثيق حياتها اليومية وسط هذه العزلة وثرثرة المسافرين العابرين المارين بها، وهي ثرثرة عامة تتناول شتى التفاصيل، من الهموم الشخصية اليومية حتى الشأن السياسي في الجزائر وتقدم صورة عامة للحياة في تلك المنطقة المنعزلة على حافة الصحراء الجزائرية، بحسب ما نشر موقع بي بي سي.
وتشكل مليكة بسرعة بديهيتها وحضورها المميز بل وغموضها أحياناً، عماد كل هذه المشاهد في الفيلم. وقد منحت فيلم فرحاني تميزه، بعفويتها وتعاملها السلس مع الكاميرا، والذي قد لا يتوفر عليه حتى بعض الممثلين المحترفين، وقفشاتها الساخرة وذكائها الفطري في إدارة الأحاديث الشيقة مع ضيوفها العابرين قبل ذهابهم في الطريق الصحراوي الطويل.
تعيش مليكة في بيت بسيط مؤلف من حجرتين، وضعت في إحداهما طاولة عتيقة وبضع كراس بلاستيكية، يستريح عليها عابرو السبيل وسائقو الشاحنات لتبيعهم الشاي والماء والسجائر ووجبات طعام بسيطة تتألف من البيض في الغالب، قبل أن يواصلوا رحلاتهم في الصحراء على “الطريق الوطني رقم واحد”، وهو طريق صحراوي في معظمه، يقطع الجزائر من الشمال إلى الجنوب ويمتد على مسافة 2335 كم، كما يعد من أقدم الطرق في الجزائر إذ يرجع بدء انشائه إلى عام 1864.
وكان هدف فرحاني في البداية صنع فيلم طريق وثائقي عن هذا الطريق الرئيسي في الجزائر، معتمدا على تجربة صديقه الصحفي والروائي الجزائري شوقي عمّاري، الذي كتب كتابا تحت عنوان “الطريق الوطني رقم واحد”؛ بيد أنه غيّر خططه عند مشاهدته مليكة بعد أن قاده عماري إلى مقهاها في عمق هذا الطريق الصحراوي.
وقد كان كتاب عماري أيضا ملهما لفيلم وثائقي حمل الاسم نفسه للمخرج الفرنسي هنري (أونريه) جاك بورجا، الذي كان فيلم طريق خالصا، عمل على توثيق مشاهد من الحياة على أمتداد هذا الطريق الصحراوي الطويل. (يمكن مشاهدته على موقع فيمو على الإنترنت).
“مليكة الصحراء”
جعلت مليكة من مقهاها البسيط هذا بوابة للدخول إلى عالم الصحراء الكبرى التي تحتل معظم مساحة الجنوب الجزائري وتمتد إلى بلدان أفريقية أخرى. كما حرصت على بناء علاقة متحفظة مع أقرب مجتمع لها ويبعد عنها نحو 70 كيلومترا في بلدة “المنيعة” وسط الجزائر التي توصف بأنها بوابة الصحراء الكبرى، وتبعد نحو 870 كيلومترا عن العاصمة الجزائرية.
تحكي مليكة في الفيلم أنها كانت تمتلك علاقات طيبة مع الجميع، لكن المجتمع (الذكوري) لا يحتمل بقاء امرأة منفردة، فوصمها بأنها سيئة السمعة، لذا باتت مسافة البعد هذه بينها وبين المجتمع مسافة مفضلة من الطرفين.
تتجنب مليكة الحديث عن حياتها الشخصية قبل قدومها إلى هذا المكان، لكننا نعرف من جمل عابرة تتسرب من أحاديثها أنها قدمت إلى هذه المنطقة من الشمال الجزائري. وهي تعيش منفردة في هذا المكان منذ عام 1994. كما نتلمس من أحاديثها أنها تمتلك خبرة حياتية واضحة، وتتحدث الفرنسية وقادرة على التفاهم مع زبائنها بها.
يحاول فرحاني الذي يقف مصورا وراء كاميرته في حجرة مقهاها الصغيرة، أن يوجه لها أحيانا بعض الأسئلة لكن إجاباتها تظل مفتوحة، وكأن هناك شيئا ما في الماضي تريد تجنبه، فلا يلح في أسئلته بل يلجأ الى حلول شاعرية في جعل كاميرته تتأمل في المكان وحدود الصحراء المغبرة المجاورة له.
ويكتفي بدور المراقب الموثق لما يحدث أمامه في هذا المكان الصغير على حافات الصحراء. يقول فرحاني في إحدى مقابلاته الصحفية إنه قضى هناك نحو ثلاثة أشهر لإنجاز الفيلم وظل ينصب كاميرته ويصور ما يجري حول مليكة لمدة شهر ونصف نهارا، ثم يعود ليلا للمبيت في بلدة المنيعة لأن المكان لا يتوفر على كهرباء.
وصور طوال هذه الفترة مشاهد كثيرة وثقت الكثير من المارين بمقهى مليكة، وحوارتها العابرة معهم، إذ كانت ألفة مليكة وحميميتها في التعامل دافعا لهم للحديث عن همومهم وحياتهم أمامها. وهي فرصة انتهزها فرحاني لالتقاط الكثير من قصصهم وحكاياهم، ولم يكن يخفي حضوره فنسمع صوته من خلف الكاميرا معلقا أحيانا، أو قد يتوجه إليه البعض بالحوار في أحيان أخرى.
كما لجأ أحيانا إلى التدخل في صناعة بعض المشاهد، كما هي الحال مع المشهد الذي يظهر فيه صديقه الصحفي والروائي عمّاري عندما يقف خلف نافذة المقهى المغطاة بأسلاك متقاطعة ليمثل دور السجين فتشاركه مليكة التمثيل، وربما في مشهد فرقة الموسيقى الشعبية التي تقدم فاصلا غنائيا من غناء منطقة القبائل في المكان.
ولا يرى فرحاني أنه يتجاوز على خصائص الفيلم الوثائقي بإدخال مشاهد تمثيلية، بل أنه يقول إنه لا يعدم استخدام أي وسيلة سينمائية تساعده في تقديم قصته في فيلمه الذي يفضل تسميته بأنه “فيلم بواسطة الواقع” بدلا من تسمية الفيلم الوثائقي.
الآن وهنا
لقد جمع فرحاني مادة كبيرة من مجريات الحياة اليومية لمليكة وأحاديث عابري السبيل والمسافرين المارين بمقهاها، وهي ما أخضعها لعملية اختيار صارمة بعمله مع مونتيرتين لاحقا لاختيار ما يضمه في فيلمه من هذه المادة الواسعة.
وجاءت اختياراته لتقدم نماذج للمارين من هذا المكان من سائقي الشاحنات، أو سكان قرى صحراوية قريبة وعابري سبيل، راصدا كيف تتعامل معهم مليكة ضمن مستويات مختلفة وتدير حوارتها معهم بذكائها الفطري وحضور بديهيتها. فنراها تتحدث بتحفظ شديد من رجل بدا متدينا من قرية قريبة، أو باقتضاب مع أخرين يحاولون توجيه أسئلة عن حياتها وتتهمهم بالنفاق عندما يغادرون، أو نراها تتحدث عن هموم الحياة اليومية مع سائق شاحنة يتناول غداءه لديها أو مع رجل يزعم (في مشهد تمثيلي) أنه جاء إلى المنطقة للبحث عن أخيه، أو بمرح وطرافة مع سائحة أجنبية تقطع هذا المكان الصحراوي على دراجة نارية.
وتتنوع الحوارات من هموم الحياة اليومية وقساوة العيش في المجتمع الصحراوي، وهموم سائقي الشاحنات على هذا الطريق الصحراوي إلى ذكريات وأحيانا تلميحات إلى أحداث عاشتها الجزائر في العقدين الماضيين.
ويحرص فرحاني على أن يقدم لنا عبر تلك التفاصيل اليومية والحوارات العابرة صورة بانورامية عن الحياة في هذا الجزء من بلاده، ولكنه يحاول في الوقت نفسه الإيحاء بأسئلة عن الحرية والعزلة وقيود الحياة الاجتماعية يثيرها في ذهن مشاهده وإن لم يطرحها بشكل مباشر.
كما حرص على إدخال خيط سردي موازٍ، يتمثل في التهديد الذي يمثله زحف التحديث على حياة بطلته التي ارتبطت بهذا المكان، عبر ما يشكله بناء محطة وقود وخدمات للمسافرين حديثة على الطريق على بعد أمتار من مقهى مليكة على مستقبل عملها وحياتها.
فهذا المكان الذي لا وجود له على الخارطة والذي أنشأته مليكة بجهدها وصبرها وطبعته بملامحها، (حتى الرقم الذي اختاره الفيلم عنوانا للمكان وعنوانا للفيلم “143 طريق الصحراء”، هو غير حقيقي وجاء من رقم كتب عشوائيا على جدار مقهاها، وتعليق لأحد المسافرين المارين بالمكان)، بات مهددا بأن ينتحل من موقع محطة الوقود الجديدة التي يستثمر صاحبها ما أسسته مليكة من مكان أصبح ملتقى لسائقي الشاحنات والمسافرين المتوجهين إلى الجنوب الجزائري.
ولكن في قلب كل هذه التفاصيل تظل مليكة حاضرة بسرعة بديهيتها، وبتعليقاتها الساخرة التي تنم عن خبرة حياتية طويلة وبالغموض الذي يلفها ويقف وراء اختيارها لحياة العزلة تلك على حافات الصحراء؛ والذي تتوضح لنا بعض أسبابه في النهاية؛ عندما نعرف أن لدى مليكة عائلة سابقة وابنة قد قتلت.
ويرد هذا التفصيل عابرا في إحدى حوارتها، ويتجنب فرحاني الغوص في تفاصيل هذا الجانب، فما يهمه هو واقع مليكة الراهن وليس ماضيها وصورة الحياة اليومية التي ترصدها كاميرته، الآن وهنا، حولها.
“أفضل مخرج واعد”
يلعب المكان المغلق دورا مركزيا في فيلمي فرحاني الوثائقيين الطويلين، إذ سبق أن صور فيلمه السابق “في رأسي دوار” (في رأسي رونبوان)، في أحد المسالخ القديمة في العاصمة الجزائرية راصدا الحياة اليومية لشريحة العاملين فيه وهمومهم وأحلامهم ضمن هذا المكان المغلق.
لذا نراه في فيلمه الثاني هذا يهجر فكرة تقديم فيلم طريق ويختار مكان مليكة البسيط موقعا لأحداثه، ويلتقط ما يجري في داخله، ونادرا ما يخرج منه مطلا من نافذته إلى الفضاء المترب المحيط به أو يخرج أحيانا الى لقطات عامة تصور المكان الصحراوي المقفر حوله وعزلته وسطه.
وقد حرص على أن تكون بطلته مليكة هي محور حركته، فلم ينجذب إلى إغراء الخروج لتصوير جماليات الصحراء في لقطات عامة للرمال وتحولات الضوء فيها في أوقات الغروب أو الفجر على سبيل المثال، التي تحفل بها الأفلام التي تناولت الصحراء.
لكنه نجح بالمقابل في خلق معادلات جمالية ضمن مكانه المحدود، في استثمار ما تتيحه الكوى والنوافذ في المنزل البسيط من إطلالات على الخارج المقفر، الذي كان يملأه باستثمار تلك التفاصيل العابرة فيه، كوقوف شاحنة وشد غطائها في طقس رملي عاصف، حركة الكلب أو القطة بالقرب منه، أو المسافرين المارين في الطريق وغيرها.
ونجح فرحاني عبر هذا الأسلوب المقتصد (المينماليست) في إعطائنا مشاهد ذات جمالية مميزة، كما في مشهد تمثيل السجن واستثمار أسلاك النافذة (أو بالاحرى الكوة الصغيرة في المنزل بعد رفع غطائها الخارجي)؛ أو في المشهد الليلي الذي صور فيه المنزل البسيط وسط الفضاء الموحش المحيط به، و توزيعات أشعة الضوء المنبعثة من نوافذه وبابه.
وكما وقف بيت مليكة على حافة الصحراء، بدا فيلم فرحاني مستعيرا هذا الموقع ليكون فيلما على حافة الصحراء، لا تحضر الصحراء فيه أمامنا بل تمتد عميقا داخل العزلة التي تعيشها شخصياته.
وظل فرحاني يعتمد موقف المراقب عبر رصد كاميرته الثابتة في معظم الأحيان والتي تراقب بحيادية ما يجري أمامها، ولم يخرج عن ذلك إلا في مشهد النهاية الذي حرص فيه على أن يجعل كاميرته تطوف حول بيت مليكة في حركة “ترافيلنغ” على مدار 360 درجة وعلى أنغام موسيقى أغنية من منطقة القبائل، في استعارة ميثولوجية واضحة، يقول إنها استعارة من تقليد بالطواف لثلاث مرات على إحدى الزوايا الصوفية في جنوب الجزائر.
توج فيلم فرحاني (مواليد الجزائر 1986) بجائزة أفضل مخرج واعد في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي، فضلا عن جائزة أخرى عند مشاركته في تظاهرة مسابقة “سينمائيو الحاضر” فيه، فضلا عن جوائز من مهرجانات أخرى من بينها جائزة مهرجان الجونة الفضية للفيلم الوثائقي في عام 2019. وقد عزز هذا الفوز مكانته كمخرج يعد بالكثير في حقل السينما الوثائقية بالجزائر، بعد أن لفت الانتباه بفيلمه الوثائقي الطويل الأول “في رأسي رونبوان”، وكان قد أخرج قبله أربعة أفلام قصيرة “خليج الجزائر” 2006، و”رحلة 140″ عام 2008، و”فندق أفريقيا” 2010 و”طرزان، دون كيخوته ونحن” في عام 2013.