سوليوود «الرياض»
ما الذي يجعل من البعض منّا حالة حاضرة حتى بعد غيابه البدني؟ طبعاً لكل منا فقيد يلازمه بذكراه وأفعاله ويحثه على الشعور بالخسارة الكبرى لفقدانه، لكن هناك فريق من الناس يتركون مثل هذا الأثر على الملايين في كل مكان ولسنوات طويلة.
سنجد أمثال هؤلاء في كل ضرب من ضروب الحياة. من فن العمارة إلى الفلك، ومن الأدب إلى علم الحساب ومن السياسة إلى الرسم أو من الموسيقى إلى العلوم البيولوجية. هناك عمالقة في كل هذه المضارب يتركون أثراً لا يُمحى بعد غيابهم. السبب الظاهر هو تميّـز أعمالهم. السبب الخفي هو كيف.
«كوبريك بأي كوبريك» (Kubrick By Kubrick) لغريغوري مونرو هو أحد تلك الأفلام المصنوعة حول أحد هؤلاء العمالقة. عرضه مهرجان ترايبيكا للنقاد على الإنترنت نظراً لإلغاء دورة المهرجان النيويوركي في مثل هذه الظروف.
– ناقد ومخرج
خلال 21 سنة منذ وفاته، صدرت العديد من الكتب والكثير من الأفلام التسجيلية التي تحدثت عن مخرج «القتلة» و«باري ليندون» و«عينان مغمضتان بإحكام» و«2001: أوديسة فضائية».
أحد أهمها كتاب ضخم صدر سنة 2009 بعنوان «إنسايكلوبيديا ستانلي كوبريك» وضعه جين د. فيليبس ورودني هِل، وحوى كل ما يمكن أن يكون له دلالة خفية أو ظاهرة في سينما وحياة المخرج الكبير. فيه ذكر لكل الموسيقيين الذين استعان كوبريك بأعمالهم أو كل الدلالات والأبعاد التي حفلت بها أفلامه وكل الذين تعاونوا معه من ممثلين أو مديرين تصوير. المواد المختلفة تحتوي على فقرة حول علاقة الرقابة بأعماله، وأخرى حول التقنيات التي استخدمها صوتاً وصورة وثالثة عن المونتاج ومن عمل معه في ذلك الإطار وأسلوبه. هذا عدا عن تحليل كل فيلم من أفلامه طويلاً وحسب منهج رصين وعلمي واثق.
أحد فقرات هذا المرجع يقع تحت اسم الناقد الفرنسي ميشيل سيمَن الناقد السينمائي الفرنسي الذي أجرى خمس مقابلات مطوّلة مع كوبريك تشكل محتوى الفيلم الجديد «كوبريك باي كوبريك».
حظى سيمَن بثقة كوبريك فاستقبله خلال التصوير وخارجه بضع مرّات ومنحه وقته لإجراء مقابلات مطوّلة معه مسجلة صوتاً وصورة ونراها ماثلة في هذا الفيلم التسجيلي الذي بحد ذاته وثيقة تؤرخ للمخرج كما تؤرخ للناقد تماماً كما كانت مقابلات الفرنسي الآخر فرنسوا تروفو مع المخرج الراحل ألفرد هيتشكوك.
نشر الناقد الفرنسي المعروف بعض هذه المقابلات في مجلة «لو إكسبرس» الأسبوعية ونشر بعضها الآخر في مجلته «بوزيتيف» الشهرية. في واحدة من هذه المقابلات يُخبر الناقد المخرج بأن فيلمه «باري ليندن» ينجز نجاحاً تجارياً جيداً في صالات باريس.
يستهجن المخرج الخبر ويسأل الناقد: «لماذا تخبرني بهذا؟ لا أستطيع فعل شيء حيال الأخبار السارة، فقط إذا ما كانت هناك أخبار سيئة أستطيع التدخل».
– خلال التصوير
«كوبريك باي كوبريك» هو كما يعني العنوان حديث لكوبريك يشرح فيه نفسه وأفلامه. هذا عوض أن يقوم نقاد وسينمائيون آخرون بشرحه في كتاباتهم أو أفلامهم كما جرت العادة قبل وبعد وفاة المخرج سنة 1999. أولى مقابلات سيمَن مع المخرج حدثت سنة 1968 عندما انتهى من تصوير «2001: أوديسة فضائية». منذ ذلك الحين خص المخرج ذلك الناقد المحظوظ بالمقابلات أكثر من سواه.
في الفيلم نلحظ أن الغالب في هذه المقابلات غياب الصورة. لم يجلس المخرج والناقد أمام الكاميراً لإجراء معظم هذه الحوارات، بل تم معظمها عبر لقاءات بين الإثنين وبينهما آلة تسجيل يعتمد عليها الفيلم الماثل أمامنا لاستخلاص ما دار بين الناقد والمخرج. على هذا الأساس فإن الشاشة الماثلة أمامنا تعرض النصوص وتعتمد على التسجيلات الصوتية كدليل دائماً.
ما يضيفه المخرج مونرو هو صور ثابتة ومتحركة ومشاهد من الأفلام كما من مكان التصوير بحيث يؤمّن التنوّع المطلوب للمادة الماثلة ويوظفها لإضافة مصوّرة للمعلومات الواردة في النص أساساً. بذلك هي استعانة زاخرة تؤرخ لفقرات الحديث وفحواه.
وإذا كان السائد عن كوبريك أنه لم يكن يحبّذ شرح أعماله، فإن هذا الفيلم هو فرصة نادرة لسماعه وهو يشرحها. لكن ذلك كله لا يشكل كل ما يحتويه الفيلم. في مرّات عديدة نفاجأ بمقابلات أجراها المخرج غريغوري مونرو مع ممثلين ارتبطوا بالمخرج أكثر من مرّة. وفي مرّات أخرى يعمد مونرو إلى الاستعانة بمشاهد من أفلام تم تصويرها للمخرج وهو يتابع تصوير أفلامه ويضع عينه على الكاميرا هنا أو يصدر أمراً هناك.
لكن ما يطلعنا عليه الفيلم هو أكثر من مناسبات التلصص على خلفيات التصوير أو متابعة الحوار القائم بينه وبين الناقد. نكتشف مثلاً أن المخرج، في بعض الأحيان، كان مستعداً لإجراء تغييرات في السيناريو خلال التصوير. هذا يعني استبدال ما في البال أو على الورق بفكرة طارئة (مثل الاستعانة بمشهد من فيلم Singing in the Rain لستانلي دونن (1952). أو التوقف عن التصوير ريثما يأتي المخرج بإجابة مقنعة لسؤال طارئ خطر له كما حدث خلال تصوير فيلمه الخيالي – العلمي الشهير «2001: أوديسة فضائية».
حين سأله الناقد عن سبب استعانته بالممثل رايان أونيل لبطولة «باري ليندن»، وهو فيلم تاريخي الفترة يدور حول شاب أدمن استغلال الفرص للوصول إلى الثراء والسُلطة، يجيب المخرج بأنه كان بحاجة لممثل مقنع في الدور: «الدور يتطلب ممثلاً وسيماً»، ثم يُضيف: «لم يكن بالإمكان أن أجد ما أبحث عنه في ممثلين آخرين كجاك نيكولسن».
غني عن القول أن مجرد الاستماع إلى كوبريك يتحدث عن أفلامه شارحاً ومحللاً يكفي لكي يُثير الفيلم الاهتمام. إنه مثل حديث أستاذ لطلابه وللراغبين في معرفة المزيد حول اختياراته. كوبريك لم يكن في يوم ما واحداً من أولئك المخرجين الذين يريدون الحضور في المناسبات الفنية والاجتماعية ملبياً حاجة الإعلام.
بل إن مقابلاته الصحافية كانت متباعدة. كان يختار ناقداً واحداً في إثر الانتهاء من تصوير كل فيلم ليجري معه المقابلة. بعد ذلك يعود إلى غموضه وعزلته.
هنا لا يكتفي «كوبريك باي كوبريك» بقوّة النص، بل يدلف مشاهد عدة من أفلام كوبريك لتفي بالغرض المنشود ولتذكرنا بقيمة سينمائي عاش منفرداً وأنجز أفلاماً منفردة أيضاً.
أثار كوبريك، كما يشهد الفيلم، أعصاب كل الذين عملوا معه، من الممثلة شيلي دوفال (في «ذا شاينينغ») إلى مدير التصوير راسل مَتي (خلال تصوير «سبارتاكوس») إلى الموسيقار ليونارد روزنمان الذي اضطر لإعادة كتابة قطعة موسيقية 105 مرات بناء على طلب المخرج خلال تصوير «باري ليندن»). لكن الجميع يدرك أنه كان يعمل بمقتضى مخرج متفنن في مراعاة التفاصيل. محترف أمين لرؤيته ومخرج يريد لكل تفصيل ولكل عنصر عمل أن يأتي تماماً حسبما يريده. وهذا ما جعله من المخرجين الأكثر تميّزاً حول العالم.