سوليوود «الرياض»
فرض الحجر المنزلي الإجباري على شعوب العالم أن تبحث عن وسائل ترفيه افتراضية بعد أن بات حضور الحفلات الموسيقية ومشاهدة الأفلام في قاعات السينما ومتابعة المهرجانات الفنية أمرا أشبه بالحلم.
وفي تونس، أين يلتزم الشعب بإجراءات التباعد الاجتماعي منذ أواخر شهر مارس، كانت التكنولوجيا الرقمية ملاذا لهم. فيهم من يبحث عن الترفيه وعن التثقيف، وربما عن تبادل الحديث أو الاستماع لحكايات تبعث فيهم الحنين لقصص الجدات أيام الصغر.
ويقدّم المؤرّخ التونسي عبدالستّار عمامو في سهرة نهاية الأسبوع، كل سبت، ومنذ بداية الحجر الصحي الشامل، أمسية في فن الحكاية، انبثقت عن مبادرة ذاتية أطرتها مجموعة la com chez vous (هنا أنتم في بيتكم)، ليرفقها مؤخرا بترجمة لغة الإشارات بالتعاون مع جمعية “مرحبا”.
وتأتي هذه الحكايات في زمن لا يشبه العصور الماضية، زمن تسود فيه التكنولوجيا وطغى عليه التباعد الفكري والروحي، ففي الماضي كانت السهرات العائلية اليومية والرمضانية تتسّم بـ”اللمّة” أو الجلسات الجماعية، أين تتولّى الجدات أو الأمهات سرد حكايات مشوّقة على الأحفاد والأبناء، أما الآن فيجلس الجميع أمام هواتفهم مجتمعين جسدا ومتباعدين أرواحا، وإن اجتمعوا لمشاهدة التلفزيون، مثلا، وما يمكن أن يجود به من برامج.
وبعثت هذه الحكايات لدى متابعيها الذين يلتزمون بالمشاهدة الافتراضية والتعليق والمزاح، حنينا فطريا إلى الماضي الجميل، وحتى من لم يسعفه القدر بحكايات الجدّة فقد استرجع حكايات عبدالعزيز العروي، أشهر من وثّق الموروث الشفهي القصصي التونسي في تسجيلات إذاعية وتلفزيونية.
ويستخدم عمامو أسلوبا يعتبره متابعوه قريبا من طريقة العروي في الحكاية، إذ يهزّ الجرس قبل بداية السرد وعند نهايته، مُستخدما اللهجة الدارجة التونسية القديمة ومطوّعا تقنيات التجسيد الصوتي للشخصيات وأقوالها، إلاّ أنه يصرّ على التمسّك بصفة المؤرّخ ويرى في مُمارسته فنّ الحكاية هواية لا غير.
وفي موقف عمامو الكثير من المنطق، فهو لم يتخصص مثل العروي في جمع الحكايات وتوثيقها لسنوات، بل يكتفي بنقل ما حفظه عن جدته وكبار عائلته، على حدّ قوله.
والحكاية الشعبية بصفة عامة، تظلّ عملا أدبيا ينقل من جيل إلى جيل شفهيا وبذلك فإنّه متغيّر بالضرورة نتيجة هذا التناقل ويكتسب ميزات متجدّدة تفرضها ذات الراوي وتكوينها الفكري والثقافي والاجتماعي وغيره.
وهي كما يعرّفها الباحث أحمد رشدي صالح “فن القول التلقائي العريق، المتداول بالفعل، المتوارث جيلا بعد جيل، المرتبط بالعادات والتقاليد. والحكاية هي العمود الفقري في التراث الشعبـي، وهي التي نطلق عليها مجازا الأدب الشعبـي”.
إنها إبداع خيالي فردي لراو غير معروف، لا يمكن تحديد هويته، لكنها تصبح إبداعا جماعيا بتواتر الروايات اعتمادا على الذاكرة وعلى جهود كل من اشتركوا في النقل أو الرواية، ما يحوّل الإبداع الفردي إلى أدب جماعي.
ولا تقطع حكايات عمامو مع مسار حكايات عبدالعزيز العروي، بل تحافظ على الشكل والقيمة العامة لتنبثق منها رائحة قيم مجتمعية وحكم ومواعظ كثيرة يفتقدها الإنسان في زمن الإسفاف، وسط واقع إعلامي محليّ غيّب البرامج التثقيفية والترفيهية البنّاءة ليعوّضها ببرامج المقالب والألعاب التي تلقى هجوما واستهجانا.
وتقدّم حكايات عمامو، التي تُخصّص في بعض أمسياتها مجالا لقصص الأطفال، روايات ذات حكم وفوائد ومنها يتعلّم المستمع مبدأ أو قيمة في الحياة، وربما يكتشف أيضا قصة انتشار مثل شعبي تتوارثه الأجيال وتستحضره في دروب العمر وتفاصيله.
وتبدو حكايات عمامو كحكايات العروي بمنزلة موسوعة مُبسطة تروي أساطير الملوك والسلاطين وملاحم الأبطال، وتُبرز في مختلف سياقاتها ومواضيعها انتصار الخير على الشرّ ولو بتضحيات كبيرة وخيالية.
وبالعودة إلى شخصية الإذاعي والأديب التونسي عبدالعزيز العروي، فقد كان لها وقع خاص في وجدان التونسيين وجيرانهم، إذ يدركون من خلالها أبعاد الحياة اليومية، ويتعلمون منها الحكمة الشعبية والأمثال المتداولة في اللسان الدّارج.
وكان العروي رائد فنّ الحكاية الشعبية في تونس، يبدو قادما من أزمان غابرة، وكأنه يزور المشاهد من أعماق حكايات ألف ليلة وليلة، وها هو عمامو يُعيد للتونسيين المشهد بمزيج بين الواقع المختلف والمُتشابه، فيكفي أنّ يهزّ جرسه النحاسي، حتى تسترجع الآذان ناقوس العروي الكبير وتُنصت إلى قصص قيّمة تُعالج القضايا الاجتماعية وتؤسُس لتوازن المجتمع، دون أنّ تفقد طابعها الفني المبنيّ على الخيال والتاريخ والمزج الإبداعي بين الواقع والأسطورة إلى حدّ يصعب التمييز بينهما.
ولا يتغافل الراوي عن أهمية الصوت في عالم الحكاية، إذ يتلبّس بالمقامات ويُراوح بنبرته وصداه بين الأحوال والأفعال في تداخل متجانس بين الحقيقة والخيال.
ومن قصص السلاطين وما تحمله الأزمنة من غرائب وعجائب، يغوص المستمع في عالم من الغرابة والحيرة، فينجذب المرء إلى الحكم وتفاصيلها كانجذابه إلى كل ما يمرّن الفكر ويسليه، وكأن كل حكاية هي حاملة ضوء ينير البصيرة ويهدي العقول.
من هنا تقدم حكايات عمامو، التي تزور بيوت التونسيين في واقع عالمي مختلف، نفسها على أنها لا تنتمي إلى أحد، بل هي من جوهر الموروث الشفهي التونسي، قادمة من أعماق الروايات الشعبية المتوارثة، إنها كحكايات شهرزاد، ذات بعد جمالي كوني لا يخلو من الحكمة وتزداد رونقا كلما عدّلها الراوي بنظرته الإبداعية، وتبدو أعمق وأجمل كلما اقترب راويها من عالمه ليكون صورة مصغرة عنه بما يحمله من موروث لغوي وفكري وثقافي.