محمد رضا
على الرغم من الاحتجاجات المسبقة والانتقادات الكثيرة التي واجهتها إدارة جوائز سيزار الفرنسية، فإنها، وقبل أسابيع ليست بالبعيدة، منحت المخرج الفرنسي رومان بولانسكي جائزتين من جوائزها السينمائية في الحفل الذي أقيم في الثاني والعشرين من فبراير (شباط) الماضي. من بين الأحداث التي واكبت الاحتفال الخامس والأربعين من جوائز سيزار، أن عدداً من الممثلات اخترن ترك الحفل احتجاجاً على منحه جائزة أفضل مخرج وجائزة أفضل سيناريو مقتبس، وذلك عن فيلمه «أنا أتهم». ليس فقط الممثلات بل حتى مقدّمة الحفل ذاتها فلورنس فوريستي طلبت من الحضور عدم التصفيق لفوز بولانسكي وانضمت لاحقاً للمظاهرة التي كانت احتشدت خارج الحفل.
بولانسكي (83 سنة) لم يكن حاضراً بطبيعة الحال ولم يعلّق على ما قرأه في اليوم التالي أو شاهده على شاشة التلفزيون. لا أحد يعرف إذا كان فوزه بهاتين الجائزتين حمل إليه سروراً بالغاً أم أن الصخب الذي أحاط ذلك الفوز به منعه من الشعور بالسعادة فعلاً.
– مصالحة
جنباً إلى جنب هارفي ونستين ووودي ألن، حمل بولانسكي وزر قضايا جنسية شائكة وهو الأقدم بين هؤلاء الثلاثة في هذا المضمار إذ تعود الحادثة التي أطاحت بصيته الشخصي إلى عام 1977 عندما أقدم على اغتصاب فتاة أميركية في الثالثة عشرة من عمرها، وذلك بعد عام واحد على الاستقبال النقدي الحافل الذي حظى به فيلمه «تشايناتاون» الذي صوّره في لوس أنجليس ورمى من خلاله الاستمرار في العمل في إطار السينما الأميركية.
في البداية رفض بولانسكي التهمة، لكنه استمع إلى نصيحة محاميته التي دعته لقبول مبدأ الاعتراف بجريمته لتمرير مصالحة مع المحكمة من شأنها تخفيض العقوبات. لكن بولانسكي فوجئ بأن المحكمة لم ترض بالتراجع عن موقفها وأن حكماً على وشك الصدور يقضي باعتقاله وإصدار حكم بسجنه. بولانسكي خاف العاقبة وقام في الشهر الثاني من سنة 1977 بالهروب من البلاد إلى فرنسا حيث قرر البقاء.
حطت تبعات هذه القضية كما لو كانت جبلاً من الأثقال فوق كتفي المخرج. فلسنوات عديدة (عملياً حتى ثلاث سنوات مضت) داوم بولانسكي السعي لإسقاط الدعوى ضده والقيام بإجراء اتفاق يمكنه من المثول أمام المحكمة الأميركية من جديد بشرط رد الدعوى القضائية أو التخلي عنها. حاول عدة مرات أن يعرض اعترافه بالحادث مقابل رفع العقوبة عنه. لكن القاضي الأميركي سكوت م. غوردون لم يوافق وأصدر قراراً يلزم الشرطة الأميركية بالقبض على بولانسكي حال وصوله إلى أي من مطارات الولايات المتحدة. تبعاً لذلك، بات بولانسكي حبيس فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى لا يستطيع مغادرتها خوفاً من اعتقاله وترحيله.
أصداء هذه الخلفية تتردد في اختياره حكاية الجاسوس الفرنسي ألفريد دريفوس التي قدّمها في فيلم «أنا أتهم» (أو «ضابط وجاسوس» كما عنوان الفيلم بالإنجليزية). فالفيلم يتناول حكاية ذلك الضابط اليهودي الذي اتهم، في أواخر القرن الثامن عشر، بالتجسس لحساب الألمان. بدا كل شيء موثقاً وثابتاً في هذه القضية مع مستندات قدّمها ضباط فرنسيون إلى المحكمة التي قررت تجريد ألفريد دريفوس من رتبته وإرساله إلى جزيرة في جنوب المحيط الأطلسي حيث سُجن هناك لخمس سنوات متعاقبة.
– رسائل موجهة
كان يمكن له أن يبقى لخمس سنوات أخرى أو أكثر منها لولا أن تحريات كولونيل فرنسي اسمه جورج بيكوار العنيدة أثبتت أن هناك من زوّر المستندات واصطنع الأدلة لزج دريفوس في السجن غالباً لمجرد أنه يهودي. مساعي بيكوار أثمرت عن جلب دريفوس وتقديمه للمحاكمة من جديد التي نظرت إلى الأدلة المضادة وأمرت بإعادته إلى منصبه ومنحه العفو والاعتذار.
في فيلم بولانسكي لا يظهر دريفوس (قام به لويس غارل) كثيراً على الشاشة. هو في مطلع الفيلم يشهد حفل تأبين تاريخه العسكري ونزع أوسمته وتجريده من أزرار بذلته العسكرية وكسر سيفه تمهيداً لسوقه إلى حتفه البعيد.
من بعد تلك اللحظات المشحونة والمبنية جيداً، ينتقل الفيلم لمتابعة الكولونيل بيكوار (جان دوجاردا) الذي بدأ يرتاب في الوضع تدريجياً إلى أن زاد اقتناعاً أن المسألة برمّتها مفبركة. هذا يضعه في عناوين الصحف والأحداث مع مؤيدين لجهوده من أمثال الكاتب إميل زولا الذي نشر في إحدى الصحف رسالته الشهيرة التي جعل منها بولانسكي عنواناً لفيلمه «أنا أتهم».
غاية بولانسكي بالعودة إلى حكاية ألفريد دريفوس كموضوع فيلمه الثاني والعشرين، منذ أن حقق أول أفلامه في موطنه الأول بولندا سنة 1965 بعنوان «نفور» (Rebulsion) هي، وكما أوحى في أحد تصريحاته قبل أن يشهد الفيلم عرضه العالمي الأول في مهرجان «فنيسيا» في صيف العام الماضي، إظهار أثر التهم الباطلة في حياة دريفوس و- بالموازاة – بحياته هو.
لكن ما غاب عن بال بولانسكي هو أن تهمة دريفوس باطلة (كما قررت المحكمة في نهاية المطاف) بينما التهمة التي واجهها في الولايات المتحدة ثابتة، هي وسواها من التهم التي وجهتها إليه، في السنة الماضية ومطلع هذا العام، عدد آخر من الممثلات.
لم يكن بولانسكي يتوقع أي شيء من هذا، وهو على الأرجح أقدم على جريمته تحت تأثير الشرب أو المخدرات (إلا إذا كانت فعلته تمت من دونهما مما يجعل التبعات أصعب). ما كان يتوقعه، إثر تحقيق فيلمين أميركيين ناجحين هما «روزماريز بايبي» (1968) و«تشايناتاون» (1974)، هو البقاء في هوليوود وتحقيق أمجاد أخرى فيها.
لكن رحلته في هذا الاتجاه لم تستمر وهروبه من الحكم الذي صدر بحقه أعاده إلى أوروبا، حيث استقر في فرنسا وأنجز فيها معظم أفلامه اللاحقة. بعضها، مثل «ذعر» (1988) و«قمر مر» (1992) كانت بالإنجليزية وبدت كما لو كانت رسالة موجهة إلى هوليوود، خصوصاً وأن «ذعر» جلب إليه نجم الفترة هاريسون فورد.
قبل هذا الفيلم أنجز في تونس فيلم «قراصنة» مع وولتر ماثاو الذي لم ينجز أي نجاح فعلي، لكن أفلامه اللاحقة أكدت رسوخ قدراته الفنية، خصوصاً تلك الأفلام التي أنجزها من نهاية التسعينات مثل «البوابة التاسعة (1999) ولاحقاً.
ليس أن كل أفلامه كانت متساوية في قيمتها. يكمن «ذعر» و«القراصنة» مثلاً في خانة الأعمال غير المهمّة كذلك «فينوس في الفراء»» لاحقاً (2013)، لكن أغلب ما حققه، عكس قدرات بارعة في معالجة مواضيعه بقوالب فنية صلبة مثل ««عازف البيانو» (2002) و«أوليفر تويست» (2005) و«الكاتب الظل» (2010).
الشرق الأوسط