سوليوود «الرياض»
ما أُتيح للتاريخ أن يعيد نفسه، فإنّ سينما ما بعد كارثة «كورونا» سوف تمضي في اتجاهات داكنة جزئياً أو ربما على نحو غالب. ستتطبّع الإنتاجات الأميركية وحول العالم بدَكانة التجربة وقسوة الحياة والموت. شيء مماثل لما تكون عليه الحياة بالنسبة للناجين فيما لو اندلعت حرب عالمية ثالثة ودمّرت نصف العالم مثلاً
وباء «كورونا» المنتشر، هو بمثابة حرب عالمية ثالثة. وإن لم يكن مصنوعاً في المختبرات وأُطلق ليشكل الوباء القاتل، فهو نتيجة طبيعية لحالة بيولوجية غير مفهومة كاملاً بعد، وفي كلتا الحالتين هو بمثابة حرب كبيرة على صعيدين
– بذور الواقعية
يلاحظ المتابع في إطار المرحلة الجديدة، أنّ التاريخ سيمرّ بعد انتصار إرادة الحياة على الوباء، بالمراحل التي تلت الحرب العالمية الثانية، أو حتى تلك الأولى عندما نضحت السينما الألمانية بلغة تعبيرية لم تكن مألوفة مباشرة من بعد تلك الحرب الأولى وحتى ظهور هتلر والحزب النازي على سدّة الحكم
في نهاية الحرب العالمية دخلت السينما مسارين. الأول في إيطاليا عندما توجهت السينما إلى الواقعية الجديدة. والآخر في الولايات المتحدة عندما تبلور سريعاً، خلال الحرب وبعدها، تيار «الفيلم نوار»
في إيطاليا بعد الحرب أقدم عدد من السينمائيين على اتباع منهج جديد للعمل يختلف عن السينما التجارية التي كانت سلطات بنيتو موسيليني عززتها في مقابل حظر العمل على كتاب سيناريو ومخرجين لا يسايرون الموجة. ما أن انتهى العهد حتى خطّ جيسبي دي سانتيس، وكارلو ليزاني، وفيتوريو دي سيكا، وروبرتو روسيلليني ومخرجون آخرون طريقاً مستقلة ومختلفة عن التي كانت سائدة، قوامها التصوير في الأماكن الطبيعية و- أحياناً – مع ممثلين جدد
ساعد على بلورة هذا الاتجاه حقيقة أنّ الاستديوهات الإيطالية كانت قد توقفت عن العمل والعديد من موظفيها وفنييها انخرطوا في الحرب، وبعضهم ماتوا. بذور هذه السينما كانت وُجدت في أعمال أليساندرو بلاسيتي في الثلاثينات. لكن هذه البذور اضمحلت في فترة الحرب؛ ما يجعل انطلاقة السينما الواقعية هي مع مطلع الأربعينات من القرن الماضي فعلاً، بحسب ما نشرت صحيفة الشرق الأوسط.
الأفلام البارزة في هذا التيار كانت «شغف» للوكينو ڤسكونتي (1942)، و«روما مدينة مفتوحة» لروبرتو روسيلليني (1945)، و«ألمانيا، السنة صفر» لروسيليني (1948)، و«سارقو الدراجة» لڤيتوريو دي سيكا (1948)
– ظلال الحرب
في الولايات المتحدة، نشأ ما أطلق عليه النقاد الفرنسيون اسم «الفيلم الأسود». كانت الموجة محجوبة عن الفرنسيين بسبب الحرب ومنع النازية دور العرض الفرنسية من استقبال إنتاجات الدول المعادية. بعد تحرّر فرنسا، بدأت الأفلام الأميركية تغزوها مجدداً واكتشف نقادها هذا النوع المفاجئ. أولهم، نينو فرانك الذي أطلق هذه التسمية. أمّا الأميركيون فلم يطلقوا عليها هذا الاسم إلّا من بعد مرور عقدين من الزمن. ظلال الحرب غطّت الأفلام المبكرة من هذا النوع واستمرت لما بعدها، عاكسة شعوراً بالاضطراب النفسي والاجتماعي. جاءت بعض ملامحها على صعيد الصورة والأسلوب واقعية، كما حملت قدراً من ملامح التعبيرية أحياناً. فيلمان في عام 1941 حملا بوادر هذا الاتجاه، هما «المواطن كاين» لأورسن وَلز و«الصقر المالطي» لجون هيوستون. الأول الحياة الشخصية التي تلفها الألغاز لإعلامي كبير تنتهي حياته دون تحقيق كل مآربه. والآخر، فيلم بوليسي عن قصة الروائي داشل هامِت حول تمثال ثمين تتخاطفه أيدي عدد من الطامعين
التحري الخاص كان الشخصية المثالية لمثل تلك الأفلام: رجل لا ينتمي إلى رجال القانون لكنّه يعمل بمقتضاه من دون تقدير أحد، مواجهاً رهطاً من المعادين، بينهم رجال القانون أنفسهم كونه يتدخل فيما هم أولى بالتّعامل معه. وفي المواجهة، هناك أشرار من كل نوع وفئة، أو مجرم متخفٍ في ثياب أنيقة
في كل روايات الكاتب اللامع رايموند شاندلر نجد بطله فيليب مارلو يخضع للتحقيق من قِبل رجال البوليس محاولاً، في بعض الأحيان، اتّهامه بما هو بريء منه. وهناك دائماً الأنثى المخادعة مقابل نساء طيبات يعانين من غدر الزمن
بطل الفيلم الأسود إن لم يكن تحرياً خاصاً فهو على حافة الجريمة، كما الحال في «من الماضي» لجاك تورنير (1951)، و«هذا المسدس للإيجار» لفرانك تاتل (1942)
هذا الإنسان العابس والمتحسس آلاماً خفية يبديها لنفسه أكثر ممّا يبديها لمحيطه، ليس الميزة الوحيدة التي عرفتها السينما. هناك حقيقة أن التصوير دخل لصالح صنع عالم معزول عن البهجة
– فقدان توازن
انتهى التيار في منتصف الخمسينات، لكن هناك أفلاماً حديثة تعود إلى الصيغة ذاتها آخرها «مذرلس بروكلين» الذي أخرجه ولعب دور البطولة فيه إدوارد نورتون
علاقة الحرب العالمية الماثلة أو التي تركت ظلالها بعد أن خمدت بالوضع الاجتماعي بالغة الأهمية. عبّر المخرجون عن هذه العلاقة من خلال المنافع السياسية والاقتصادية لطبقة معينة أو من خلال أشخاص يعملون منفردين. في «غابة إسفلتية» لجون هيوستون (1950) العصابة الصغيرة هي لعبة في يد المستثمر الذي يريد سرقة ما سرقته. في «هذا المسدس للإيجار» يواجه بطل الفيلم ألان لاد، قوّة باطشة من فرد واحد سمح لنفسه بالتعاون مع النازيين لجني المال. بذلك تجد الشخصية التي يؤديها لاد نفسها في مواجهة الشخصية الشريرة، كما في مواجهة البوليس الذي يعتبرونه خطراً على المجتمع
سنجد الحرب العالمية الثانية، التي خاضتها الولايات المتحدة متأخرة، ثم استمرت فيها على جبهة جنوب – شرق آسيا، السبب في فقدان الشخصيات المتكاثرة توازنها. أورسن وَلز عبّر عن ذلك من خلال التصوير. شخصية ثابتة مع «ديكور» مائل في الخلفية ما يُذكّر بفيلم «عيادة دكتور كاليغاري» للألماني روبرت واين (1920) المنتمي للسينما التعبيرية
جول داسين في «مدينة عارية» (1958) فتح جبهة مباشرة تجمع بين الفيلم الأسود والسينما الواقعية على غرار تلك الإيطالية. قبله أمّ أنطوني مان في «رجال تي» (1947) و«صفقة واضحة» (1948) المجال نفسه معتمداً نفَسَاً تسجيلياً واقعياً كذلك
تبعاً لكل ذلك انضم الفيلم الأسود إلى وضع معاد لسينما التسلية التي خاضتها هوليوود، وهو الحال ذاته الذي شهدته السينما الإيطالية بولادة الواقعية الجديدة. والحقيقة هي أنّ كل خط سينمائي مختلف لاحقاً من موجة السينما الفرنسية الجديدة إلى مثيلاتها في بريطانيا والبرازيل ومصر وسواها كان بالنتيجة معادياً لسينما الترفيه والمتعة القصصية والنهايات السعيدة
– البطل العاري
الحال كذلك، كيف يمكن للمأزق الذي نعيشه أن ينجلي سينمائياً؟
هل من المحتمل أن تخرج السينما الأميركية أو سواها بجديد مختلف عما كان سائداً في العقود الأربعة الأخيرة؟ أم ستحاول العودة إلى ما قبل تلك الفترة وتستمد من الماضي ما يعينها على نقد الحاضر؟
من المحتمل جداً أن نجد السينما السائدة قد تراجعت لتفسح المجال أمام موجة من الأفلام الانتقادية الداكنة. عالم «بلايد رَنر» لريدلي سكوت (1982) وعالم «تقرير الأقلية» لستيڤن سبيلبرغ (2007) (وكلاهما «نوار» مستقبلي) على أرض الواقع الحالي. واقع يحمل بمقتضاه وبالضرورة آلام عالم ضيّع خطاه وفقد اتجاهاته السليمة ولم يدفع الثمن بعد
الواقع، أنّ الأزمات الكبيرة لا بد أن تخلق سينمات توازيها، وأفلاماً تتحدث عنها. الكارثة الكونية الماثلة لا يمكن لها أن تختلف على الإطلاق وموجة كبيرة من الأفلام المنتقدة للكيفية التي تعاملت فيها الدول مع «كورونا». قد تُطرح في أفلام مباشرة أو قد تُطرح على شكل توجهات أسلوبية تنتفد إيحاء وتكون ملجأ رغبة المخرجين التعبير عن آرائهم من خلال شخصيات تعكس ما يرفضه الإنسان العادي من واقع الأمور
ما سيخرج من اللعبة التجارية بعد حين أفلام البطولات الخارقة؛ كون القادم من أفلامها، حين يبدأ عروضه بعد الأزمة، سيثير السخرية وليس الإعجاب. لسان الحال هنا هو أن الأبطال الخارقين الذين واجهوا أكثر أعداء البشرية قوة وبطشاً باتوا عارين من تلك الهالة الكبيرة التي أحاطت بهم سابقاً قبل «كورونا». إنه شعور عام غالباً ما سينجلي عن انحسار – ولو محدوداً – لأفلام الكوميكس والمغامرات الفانتازية الكبيرة.