رقية نبيل
مؤخرًا أقيم حفل جوائز الأوسكار الثاني والتسعون، وكان للجوكر كما توقع معجبوه في كل مكان نصيبه من الأوسكار الذهبي، ذاك الفيلم الذي أشعل الرأي العام وتناولته الألسنة بكل قيلٍ وقال وأشبعته المقالات والمدونات بكتاباتها وأقلامها، واندفع المعجبون يلتقطون الصور على السلالم الشهيرة التي رقص فيها الجوكر رقصته الأخيرة بجنون وثقة ومجون، القاتل الذي أفلح في إشعال فتيلٍ من الفوضى التامة، مجمل الأمر أننا صرنا وقتها نلقى اسم الجوكر أينما يممنا وجهنا في كل مطبوعة وعلى كل غلاف.
شاهدتُ الفيلم منذ زمن بالطبع، وكانت لي ملاحظات عليه لا علاقة لها بجودة التصوير أو الموسيقى التي امتدحها الكثيرون وفازت بالفعل بأوسكار عن أفضل موسيقى تصويرية في فيلم، بيد أني آثرت ألا أسجل إحدى تلك الملاحظات في ورقة أو حتى في نوتة الهاتف والسبب أن الضجيج دائمًا ما يعمي صفاء الفكر، أنت تعجبك هذه ولا تعجبك تلك، لكن الإجماع المهول من ملايين الأشخاص وراءك يقنعك برأيهم قطعًا أنت المجنون الوحيد الذي لا يسير وراء الحشد، ولذات السبب أكره الحديث عن كورونا، فلا أخال أي كلمة تصدر عن قلمي ستكون من وحي فكري بحق، بل فقط ترداد لعشرات المقالات وآلاف الكلمات المطبوعة على صفحة عقلي.
ما لاحظته في الجوكر ليس له علاقة بمقاييس الأداء أو الموسيقى كما أسلفت، بل بمحور شخصية الجوكر ذاتها كما رسمها الفيلم ورسم لها للمرة الأولى في تاريخ ظهور هذه الشخصية الشريرة المثيرة للجدل بدايتها، طريق ما قبل الجنون، حياة ما قبل القتل والعربدة وعشق التحدي والتهكم على مُثُل بطل القصة ذي العباءة السوداء باتمان.
لعل هذا يبدو سخيفًا غير أني لطالما كنت من عشاق سلسلة باتمان خاصة، ِولربما كان سبب إعجابي الخالص بها هو الشخصية الغامضة التي تحمل جرحًا دفينًا يطارد كوابيسه ويقض مضجع البطل القوي، فخلف الرجل ذو القوة الكاسحة الذي لا يهاب أحدًا يكمن طفل صفير معذب لا يزال مشهد قتل والديه يحترق على شبكيته ويدور مرارًا ومرارًا في تلافيف عقله المعذب، اللآلئ المتناثرة.. دوي الرصاص في الظلمة.. والده يرفع يده ثم يهوي وصرخة أمه تلحق به، شخصية ملحمية معقدة مليئة بالألغاز والأهم أنها شخصية إنسانية جدًا، فهو لم يلدغه عنكبوت أو يهبط من كوكب فضائي خارق، بل مجرد إنسان ثري اختار الدفاع عن مبادئه ونصرة المظلومين الذين لا صوت لهم في مدينة الفوضى التي يعيش فيها جوثام، تلك الشخصية ابتدعها الفنان بوبو كين والكاتب بيل فينغر عام 1939، وبعد عام واحد خُلق عدو البطل اللدود، شخصية القاتل السيكوباتي الذي تمتع بسادية مخيفة وفكاهة سوداء وعشق بلا حدود لمذاق الدم، ولربما كان المنظر المخيف للمهرج هو ما حملهم على إكسابه هذا المظهر، لأن الضحكة حينما تأتي جوفاء خالية من المرح وتلتصق للأبد بالوجه لا بد وأن تكون مخيفة وسوداوية.
الجوكر كما أراده أن يكون مبتدعوه لم يكن ثمة مبرر لعنفه، لم يقتل لداع ولم ينهِ حياة قط لسبب جلي وراء فعلته، فهو لا يبتكر الحيل الخبيثة التي يروح ضحيتها العشرات دائمًا أو يطارد باتمان إلا لمتعته الخالصة، لإشباع جوع شديد أبدي لأيما ظلمة لأيما شر يستفحل في الوجود، لهذا لم ترقني الخلفية الحديثة التي سردت لشخصية الجوكر في الفيلم، فهم خلعوا عليه ماضيًا، والدة، وحبيبة، أو من تمناها كذلك على أية حال، باختصار رسموا له كل ما من شأنه أن يجعل منه إنسانًا، وفي رأيي الإنسان مهما بلغ به جرمه لا يمكن أن يصل لتلك الدرجة من العنف والشر التي اعتدناها من الجوكر منذ ظهوره، إن الماضي والدوافع من شأنهما أن يكونا نقاط ضعف فيما بعد، طرف سقيم في الروح يمكن لمن عرف بشأنه أن يضربه، وباتمان لم يجد قط أي منطق في أفعال الجوكر المعتوهة، وهذا بالذات ما كان يثير جنونه، ويجعله عاجزًا عن فهمه، عن الوصول لنقطة التقاء يكبح فيها على إثرها شروره، فلا شيء يتعلق بالجوكر كان بسبب أو دافع أو يحمل نكهة ماض دفين.
إن الشخصية الحديثة المقدمة في فيلم الجوكر قد تكون مقنعة، جميلة، وشريرة كما ينبغي بأشرار القصص أن يكونوا، لكنها ليست قطعًا الجوكر، ولا تعبر عن شره الخالص السوداوي الذي ألفناه.
حينما طالعت الجوائز التي حازها الفيلم وجدتها تعبر تمامًا عما اعتقدته، عن إبداع الممثل الذي استحق الفوز بالأوسكار، عن الموسيقى الخلابة الملهمة، لكن ليست عن فحوى القصة ذاتها، لا، فأما هذه لم تقنعنا.
جريدة الرياض