محمد رضا
الفارق بين هوليوود 1970 وهوليوود سنة 2020 لا يمكن وصفه بالكلمات وحدها. يتطلب الأمر إشراك برنامج من الأفلام المعدّة سلفاً لتحديد الاختلافات الكثيرة بين كيف كانت السينما الأميركية آنذاك، وكيف عاشت وما أنتجت، وبينها اليوم وما توفره للجمهور وكيف.
لكن في اختصار شديد، ربحت اليوم كفة الترفيه على كفة الفن ومضمونه. كل سنة تمسك هوليوود بحبال الأمل وتطلق بالونات الهواء من أفلام المسلسلات الكبيرة تحث المشاهدين على ترك متاعبهم خارج الصالة والتفكير في منحى واحد مشترك، والأفضل عدم التفكير مطلقاً بل الاستسلام لمشاعر وأحاسيس حيال عناصر الدهشة ولمعان الغرابة وبعض النكات في أوقات الشدة.
ليس أن سينما الترفيه لم تكن متوفرة في ذلك العام وقبله كما بعده، لكنها كانت وجهاً واحداً من بين وجوه متعددة معظمها يحتل الصف المواجهة للترفيه المطلق بتوفير توفير مشروط بجدية الطرح وجمالية التعبير عنه.
السينما، آنذاك، كانت امتداداً لما عرفت هوليوود ونيويورك من نهضة في مجال التعبير الفني عندما نجح المخرجون الأميركيون في تسلم دفة الصناعة وإدارتها لصالح أعمال يقبل عليها الباحثون عن المتعة الفكرية والذاتية، وذلك القدر الرفيع من النقد المتعدد في مستوياته. في الوقت ذاته، هذه الأعمال لم تكن لتتميّز لولا جدية المخرجين الذين وقفوا وراءها واستغلوا رحابة الاستديوهات الأميركية فأبدعوا بعيداً عن النمط الجاهز والكلاسيكي من العمل.
بطولة مفقودة
في العام 1970 كان هناك صنفان أساسيان من الأفلام: التي تتبع النمط وتقاليد السرد وكلاسيكية المضامين، وتلك التي تخرج – جزئياً أو كلياً – عنها. ونظرة على أكثر الأفلام رواجاً في ذلك العام يبرهن على ذلك.
على يمين الصف كان هناك خمسة أفلام وعلى يساره كانت هناك ثلاثة. ثم فيلمان وقفا في الوسط ولم ينتهجا سياسة تميل إلى أحد الجانبين.
الأفلام التقليدية من بين الأفلام العشرة الأولى كانت «قصة حب» لآرثر هِل، و«مطار» لجورج سيتون و«باتون» لفرانكلين شافنر و«ابنة رايان» لديفيد لين و«تورا تورا تورا» لرتشارد فلايشر.
الأفلام التي خرجت عن التقليد شكلاً ومضموناً هي «ماش» لروبرت التمن و«ليتل بيغ مان» لآرثر بن و«وودستوك» لمايكل وادلي. الفيلمان اللذان عمدا إلى خط ثالث غير تابع كانا «مشاعل الآلهة» لهيرالد رايني و«أريستوكاتس» لولفغانغ وايذرمان.
شركة تونتييث سنتشري فوكس التي أنتجت الفيلم الحربي حول الجنرال باتون وبطولته خلال الحرب العالمية الثانية (قام جورج س. سكوت بالدور)، هي التي موّلت فيلم روبرت ألتمن الساخر من جهود الحرب والناقد لفوضاها.
وورنر، بدورها، هي التي مولّت كلا من الفيلمين المختلفين عن التقليد «وودستوك» و«ليتل بيغ مان». الأول تسجيلي (وجمع 50 مليون دولار من الإيرادات ما يوازي 333 مليون دولار بسعر اليوم) ما يكشف عن ذلك النجاح الكبير للفيلم غير الروائي بين الجمهور، وهي ملاحظة بالغة الأهمية خصوصا أن قائمة الأكثر رواجاً هذه تضم فيلمين تسجيليين وليس واحداً. الآخر هو الألماني «مشاعل الآلهة».
«وودستوك» كما هو معروف، كان تصويراً لأيام من الغناء. احتفاء بموسيقى الروك والبلوز والصول لملايين الهيبيين المعادين للحرب في فيتنام والذي تمثله طبقة السياسيين ورجال الأعمال. لكن الكثير من هؤلاء المحتفين كانوا – في الوقت نفسه – من العابثين بالقيم والمقبلين على الشرب والمضاجعة والمخدرات.
«ليتل بيغ مان»، من ناحيته، كان وسترن حول ما أقدم عليه الجنرال كستر من محاولات إبادة للأميركيين الأصليين (الهنود الحمر) كما يتذكر الحملة التي انتهت بهزيمة مدوية للجنرال كستر سنة 1876 وبمقتله عن 36 سنة في آخر انتصار عسكري لقبيلة سيوكس وما جاورها من قبائل اجتمعت لقتاله.
بالتالي، فيلم آرثر بن ذاك، ليس عن بطولة الجنود الزرق ضد الأشرار الهنود، بل عن الهوية الممزقة لأميركا كوطن قام على إنقاض وطن آخر.
لجانب هذا الوسترن كان هناك فيلمان آخران من النوع ذاته تحركا أيضاً خارج النمط التقليدي لأفلام الغرب هما «جندي أزرق» لرالف نلسون و«أنشودة غابل هوغ» لسام بكنباه. «جندي أزرق» دار كذلك حول المجازر التي ارتكبها البيض بحق الحمر، لكن شظايا مشاهده وفحواها الناقد أصابت الحرب المستعرة في فيتنام كما الحال مع «وودستوك».
«أنشودة كابل هوغ» لم يكن مشغولاً لنقد التاريخ من هذا المنحى، بل لنقد التقدم الصناعي الذي أودى بالغرب الأميركي صوب تغيير انعكس سلبياً على بطله (جاسون روباردس) الذي لا يحب التقدم ولا التطوّر التقني بل الحياة كما عهدها سابقاً (هذا منوال أبطال باكنباه في معظم أفلامه). السخرية المرّة هنا هي أن كابل هوغ مات تحت عجلات ذلك التقدم عندما دهسته سيارة بدائية فلت مكبحها فجأة.
«أنشودة كابل هوغ» لم يكن وحده في رحى وداع الغرب الجميل واستقبال الغد الغامض. في العام ذاته قام مدير التصوير الأميركي ويليام أ. فراكر بالانتقال من وراء الكاميرا مصوّراً لخلفها مخرجاً وقدّم فيلمه البديع «مونتي وولش» (بطولة لي مارفن وجاك بالانس).
هما من رعاة البقر يعمل، كسواهما لدى صاحب مزرعة يصارح الجميع يوماً بأن الوضع الاقتصادي لهذه المهنة يندثر. ينطلقان في دربين مختلفين يؤدي بأحدهما للزواج وافتتاح متجر والثاني بالتجوال بلا هدف. هذا كان أول فيلم «كاوبوي» عن البطالة وربما ما زال وحيداً في هذا الشأن.
سنة 1970 كانت مليئة بالمتناقضات داخل وخارج هوليوود كذلك. حيال كل فيلم مال لمنح المشاهدين مضموناً مريحاً للنفس، كان هناك فيلم مناوئ. وهذا الوضع ساد، بمقدار، الأفلام الأوروبية أيضاً.
أربعة أفلام إيطالية نضحت بمواقف سياسية إلى يسار الوسط، لكن يسارها لم يكن واحداً. برناردو برتولوتشي المهادن دوماً حقق «الممتثل» (The Conformist) و«استراتيجية العنكبوت». كلاهما ينتقد اليمين واليسار معاً. إليوم بتري كان أكثر وضوحاً عندما عرض، في تلك السنة «تحقيق حول مواطن فوق الشبهات» حول المحقق الفاشي الذي ارتكب جريمة قتل بدوافع جنسية ويحاول الآن تغطية أثرها. مايكلانغو أنطونيوني خرج عن كل طور عندما انتقل إلى الولايات المتحدة وصوّر فيلمه «نقطة زابريسكي» حول الشباب ضد المؤسسة الرأسمالية.
بالنظر إلى فرنسا، مثلاً، نجد أن تأثير انتفاضة الشباب سنة 1968 لم يغير صنف ما كان سائداً قبل ذلك (من أيام انطلاق الموجة الجديدة سنة 1960) وما آلت إليه السنوات اللاحقة. بقيت السينما الفرنسية ملتزمة بتحقيق كل نوع ومضمون.
ما يتضح في هذا العرض الموجز أن المتغيرات الحاسمة في السينما في ذلك الحين على الأقل، كانت هوليوودية. العاصمة السينمائية التي آمنت بالترفيه أوّلاً هي أكثر عاصمة سينمائية احتفت بالمختلف والخارج عن السائد.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط