عبدالله الحمد الزيد
عبر سلسلة أفلام “باتمان” وقبل إنتاج “الجوكر” 2019، للثنائي تود فيليبس وسكوت سيلفر، الذي حقق أرقامًا استثنائية في شباك التذاكر العالمية، كنا نشاهد شخصية الجوكر كشخصية مساعدة إجرامية “سايكوباتك” محركة للأحداث، وتمثل ترسيخًا لحالة انتشار الفوضى وانتهاك النظام في مدينة أمريكية أسطورية تُدعى “جوثام”؛ حيث كانت هذه المدينة دائمًا على شفى الانهيار والتفكك بسبب الفاسدين، واللصوص المشردين، وكذلك الانتهازيين من رجال الشرطة أو الحكومة.. لحظات من الفوضى والنهب والقتل يكون بعدها كل شيء جاهزًا لظهور “السوبر بور” وإرادة القوة لشخصية باتمان “الرجل الخفاش” بقدراته الخارقة؛ ليُعيد إلى النظام هيبته ونسقيته.
وهنا أريد تأكيد مفهوم ضروري ومركزي في هذه القراءة؛ ألا وهو مفهوم النظام والسلطة الذي طُرح سواء في سلسلة أفلام “باتمان” أو في فيلم “الجوكر” 2019، هذان المفهومان لا يُقدَّمان بشكلهما التقليدي الحكومي (شرطة/ محكمة/ وزارة).. إلخ، وإنما عبر عدة تجليات للسلطة؛ منها اجتماعية عبر صراعات عائلية بين الأب وابنه، وأحيانًا اقتصادية عبر مواجهات بين مؤسسات تجارية ومستهلكين أو أغنياء ضد فقراء، وكذلك عبر صراعات هيمنة وتحكم بين قلة متنفذين وانتهازيين لكل ما يحدث في مدينة “جوثام” الغارقة في القاذورات والفوضى.
في فيلم “الجوكر” 2019، نشاهد حكاية لنفس الصراع، وإنما بتعريفات أخرى وعرض مختلف ومقلوب؛ لقصة تحدث في نفس المدينة “جوثام”، بشوارعها الضيقة والقاتمة والكئيبة والقذرة؛ بسبب إضراب عمال النظافة وتراكم القمامة وظهور الجرذان من أقبية المدينة ومجاري الصرف الصحي المعطلة، لكن المختلف هذه المرة هو اختفاء البطل الخارق “الرجل الخفاش” في حكاية -سيرة قبلية- بدأت على عكس المعتاد في أفلام “باتمان” بمشهد نهاري/ خارجي، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، في أحد شوارع المدينة المزدحمة يظهر فيها المهرج “الجوكر” كموظف كوميديان بمؤسسة صغيرة لتسويق العارضين المبتدئين؛ حيث أصبح “الضحك” في حياتهم وحياة الجوكر سلعة “موضوعية” تجارية تظهر على الهامش لا بمفهومها الجمالي أو الفني، وإنما كوسيلة لتسويق المنتجات.
وهنا يحق لنا أن نسأل لماذا أصبحت شخصية الجوكر جزءًا من حكايات “باتمان” والكوميكس الأخرى؟! ما الذي تمثله رمزية الجوكر؟ تلك الشخصية المقنعة بابتسامة مرسومة عنوة؛ مرة عبر شق بالسكين لشفتَي الجوكر، التي أداها الممثل “هيث ليدجر” نتيجة هيمنة السلطة العائلية بين الأب وابنه، بينما نراها في “جوكر 2019” حالة مرضية مزمنة لممثل كوميديا يبيع الضحك؛ لكنه لا ينجح في ذلك، مما يضطر مديره إلى طرده من العمل، لأن الضحك -كما يقوله الممثل في أحد مشاهد الفيلم- حالة موضوعية غير ذاتية! فالمجتمع هو مَن يقرر مدى استحقاقها ومعقوليتها وقيمتها ومكانها الصحيح وليس صاحب الضحكة! وهذا ما له ارتباط بفكرة الفرد وتحقق وجوديته.
يمثل صراع الفرد ضد هيمنة المجتمع فكرة مركزية ورئيسية في “جوكر 2019″، عبر محاولات مستميتة لتمسك آرثر “الجوكر” بحقه في الضحك كمفهوم يدل على وجوديته وحضوره المستحق في مجتمع مدينة “جوثام”؛ لكن هذا الشعور بالفردية الذي من المفترض أن تقوم عليه المجتمعات الليبرالية يتم تقديمه في مجتمع “جوثام” شكلًا مجرًدا من مضمونه، عبر اعتراض استثنائي من الفرد كأحد تكوينات وقيم الرأسمالية، وهذا ما يُلمِّح له الكاتب -عرضًا- عبر نُكتة إباحية ساخرة يلقيها أحد الكوميديانات حول ابتذال الحضارة الغربية فكرة الفردانية! ثم يتكرر المفهوم نفسه في أكثر من مشهد في الفيلم: مرة حين يقوم مدير آرثر بطرده من العمل؛ لسبب ليست له علاقة به كموظف وإنما بوضعَيه النفسي والاجتماعي. وفي موقف آخر، يتورط الجوكر مع زميله في العمل بحيازة السلاح في صفقة مؤجلة الثمن. وفي موقف آخر، حينما يعلم الجوكر عن تعامل أُمِّه معه في طفولته، التي كانت هي الأخرى تعاني مرض “اضطراب النرجسية”؛ مرض الروح الفردانية الأشهر! وأيضًا الموقف الذي حصل للجوكر من عُمدة المدينة “توماس واين” الذي كان يظن “آرثر” أنه أبوه؛ لكنه يفاجئه بتنكره لأية صلة به، فيجاوبهم الجوكر جميعهم بضحكاته -المرضية- المستفزة لكل مَن حوله، وبالتالي يتلقى من الجميع اللكمات تلو الأخرى؛ حتى يقرر الجوكر في أحد المشاهد لمعالجته في المصحة النفسية أنه فرد بلا وجود!
وهنا يجب أن نعيد التركيز على ما طرحناه سابقًا من أن الحكاية في “جوكر 2019” لم تكن مجرد دغدغة مشاعر الفقراء ضد الأغنياء في المدينة المنكوبة “جوثام” كما يبسطها البعض؛ وإنما إعادة تعريف واعية لمفاهيم السلطة والهيمنة تجاه الفرد في مجتمع “جوثام”، الفرد بحالته الفطرية التي يقدمها المخرج ببراعة برمزية الضحك، والذي يعد -بالإضافة إلى البكاء- أكثر حالات العاطفة الإنسانية تجردًا وذاتية؛ لكنهما في مجتمع “جوثام” المتسلط تحولا إلى قيمة سلطوية موضوعية غير ذاتية وغير مرتبطة بالفرد نفسه! وقد ساعد على تحولهما إلى هذه الموضوعية الجامدة مذيع البرنامج الكوميدي التجاري “موركي فرانكلين”، الذي لعب دوره الممثل روبرت دي نيرو؛ حيث كان هذا المذيع يعطي التعريفات المسكوكة والجاهزة لكل شيء في مجتمع مدينة “جوثام” عبر سلطته بصناعة الرأي وسك التعريفات والمفاهيم الموضوعية حسب ما يفترضه مجتمع السلطة اللغوي.
كانت أوضاع المدينة تتفاقم وتزداد سوءًا بعد طرد “آرثر” الجوكر من العمل واكتشفاه خديعة أُمِّه، وتوقف علاجه في مؤسسات الضمان الاجتماعي التي كان يعدها الجوكر أبسط حقوقه؛ نظرًا لتسليمه -كفرد- جزءًا من حريته لسلطة المجتمع والنظام المتوحش من حوله! ولكن هذا العلاج توقف هو الآخر، وهنا بدأت إرادة الفعل تثور عند الجوكر؛ حيث يظهر “آرثر” في أحد المشاهد وهو يسدد لكماته على جهاز ساعة تسجيل الحضور للعمل، والتي كانت بسقوطها تمثل رمزية سقوط واهتزاز هيبة الاتساق والانتظام في روح الجوكر لمجتمع “جوثام” القائم على أخلاق القيمة والوقت.. سقطت الساعة ثم تبعها مشهد قتل الجوكر ثلاثة من موظفي “وول ستريت”، المؤسسة الرمز لسلطة المال، والذين كانوا بصدد التحرش بفتاة، فاستفزتهم ضحكة آرثر المرضية، ولم يكلفوا أنفسهم مجرد سماع سبب ضحكته ومعاناته؛ فانهالوا عليه ضربًا ليتحول الضحك إلى مأساة حقيقية كانت تحقيقًا آخر لذاتية الجوكر ووجوده في مجتمع “جوثام” المريض بالتسلُّط.
سيرة لتحوّل الضحك في حياة “آرثر” من البراءة إلى الطموح إلى الحلم، ثم اعتلالها بذاتها قبل أن تستحيل هذه الضحكة إلى ضحكة عقلية إجرامية في مشهد خنق أُمِّه وقتلها! لتتبعها عدة أحداث؛ كان من أهمها مشهد قتله لرفيق في العمل الذي ورطه في السلاح وكان سببًا مباشرًا في طرده من العمل، وفي هذ المشهد بالتحديد نرى كيف استطاع مخرج العمل أن يفضح حتى الوحشية في وعينا نحن الجمهور؛ فحين قتل الجوكر زميله في العمل أمام نظر زميله الآخر قصير القامة والذي كاد ينهار من الخوف فتركه الجوكر يخرج بمشهد كوميديا تحول فيه الهلع إلى حالة ضحك في صالة السينما، وتحول فيه المتفرجون إلى جزء من مجتمع “جوثام” بشكل لا واعٍ وغريب وبديع!
مثل لي “الجوكر” 2019، جدل المجتمع والفرد في مدينة مليئة بالشوارع الضيقة والجرذان الثائرة يحكمها مسؤول يدَّعي إنقاذ المدينة من فوضى المهرجين، ويتهم سكانها بأنهم مجموعة من المهرجين، ثم يطلب منهم أن ينتخبوه ليتمم عمله هذا! في مجتمع يفيض بصراعات السلطة المرضية والذي ظن يومًا المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، عبر توظيفه هذه الجدلية، أن مجتمع “جوثام” سيمثل نهاية التاريخ، ولكن المشهد الأخير في “جوكر 2019″ يفترض ناتجًا ثالثًا للجدلية الهيجلية لصراع فكرتَين محوريتَين؛ هما مجتمع السلطة ضد ظاهرة سأطلق عليها الجوكرية .”jokeriasme The”
المصدر: كيوبوست