سوليوود «وكالات»
لعل أهم الظواهر المرتبطة بصناعة السينما في 2019 هو بروز الدور المتزايد القوة لشبكة نتفليكس التي تبث عبر التكنولوجيا الرقمية على شبكة الإنترنت. هذه الشبكة العملاقة اقترب عدد المشتركين فيها في العالم من 160 مليون مشترك، بالإضافة إلى نحو خمسة ملايين يجربون الخدمة المجانية لمدة شهر، ومن بين هذا العدد، أي الـ160 مليونا، هناك 60 مليون مشترك في الولايات المتحدة فقط. كان عدد المشتركين في الشبكة العام الماضي، 139 مليون مشترك، أي أن العدد ارتفع بنحو 20 مليون مشترك، وهو ارتفاع مستمر.
أما شبكة “أماوزن برايم” منافسة نتفليكس، فقد بلغ عدد المشتركين فيها في 2019، 75 مليون مشترك في العالم بالإضافة إلى 40 مليون مشترك داخل الولايات المتحدة أي أن العدد الكلي يبلغ 115 مليون مشترك.
هذه الأرقام التي نشرتها صحيفة العرب الصادرة من لندن تعني أن هاتين الشبكتين فقط (لم نذكر المنافس البريطاني “بريتبوكس” الذي نشأ بالشراكة بين شبكتي بي.بي.سي وأي.تي.في) تتوفر لديهما مليارات الدولارات من حصيلة الاشتراكات سنويا، وهو ما ينعكس بدوره على حجم وطبيعة الإنتاج الأصلي من الأفلام والمسلسلات. فشبكة نتفليكس مثلا استطاعت أن تنافس في السوق من خلال أفلام أصلية كبيرة مولت إنتاجها مثل “الأيرلندي” الذي أخرجه المخرج الأميركي المرموق مارتن سكورسيزي واشترك في بطولته عدد من ألمع الأسماء في عالم التمثيل أمثال روبرت دي نيرو وآل باتشينو وجون بيتشي وهارفي كايتل.
ويعتبر “الأيرلندي” أحد أفضل وأهم أفلام العام، وهو ينافس على 14 ترشيحا من ترشيحات مسابقة “الكرة الذهبية” (غولدن غلوب) جنبا إلى جنب مع أفلام أخرى لا تقل أهمية عنه من إنتاج نتفليكس أيضا مثل “قصة زواج” لنواه بومباخ الذي حصل على 8 ترشيحات، و”البابوان” و”دولمايت هو اسمي” و”فقدت جسمي” (من أفلام التحريك) بترشيح واحد لكل منها، بالإضافة إلى ترشيح فيلم “أتلانتيس” لجائزة أحسن فيلم أجنبي.
لو لم تكن نتفليكس لما ظهر فيلم مثل “الأيرلندي” الذي ظل مخرجه يسعى طوال عشر سنوات من أجل الحصول على تمويل له، لكن شركات الإنتاج التقليدية رفضت تمويله بدعوى أنه لن يحقق النجاح التجاري المأمول الذي يمكن أن يعوض الميزانية الضخمة المطلوب له، خاصة أنه يكاد يخلو من الدور النسائي البارز.
وقد فشلت كل المفاوضات التي أجرتها نتفليكس مع شبكات التوزيع الأميركية الكبرى لعرض الفيلم في القاعات السينمائية قبل عرضه عبر البث الرقمي المباشر للمشتركين، لكن شبكات التوزيع أرادت أن تحصل على حقوق العرض لعدة أشهر وليس شهرا واحدا فقط كما اشترطت نتفليكس، وانتهى الأمر بالاكتفاء بعرض الفيلم في عدد من مهرجانات السينما الدولية كنوع من الترويج غير المباشر له ثم بدأت عروضه عبر الشبكة في السابع والعشرين من نوفمبر.
في العام الماضي كان فيلم “روما”، من إنتاج نتفليكس، هو فيلم العام، فهل يفعلها “الأيرلندي” أيضا ويحصل على الجوائز الرئيسية في مسابقة “الغولدن غلوبس” و”الأوسكار”؟
لا أحد يعرف. إلا أن ما أصبح أمرا ثابتا الآن أن شكل استقبالنا للأفلام قد تغير إلى الأبد، ولم يعد مجديا أن تتشبث شبكات التوزيع ودور العرض في أميركا وأوروبا، بالشكل التقليدي، ولكن يمكن التوصل إلى حلول وسط بعرض الفيلم على الشاشات الكبيرة في نفس الوقت مع عرضه على شبكة الإنترنت، فسوف يظل هناك جمهور يرغب في المشاهدة على الشاشة الكبيرة وليس التلفزيون أو جهاز الكمبيوتر أو حتى الهاتف المحمول. فهذه المشاهدة لا تمنح المتعة التي نشعر بها في العلاقة بيننا وبين الشاشة مع وجودنا داخل قاعة العرض مع غيرنا من المشاهدين.
من أهم الأفلام التي عرضت في 2019 فيلم المخرج كونتين تارانتينو الجديد “ذات مرة في هوليوود” الذي اشترك في بطولته ليوناردو دو كابريو وبراد بيت ومارغوت روبي. هذا الفيلم الذي يحتفي بهوليوود في الستينات، ويعيد إحياء بعض الأساطير السينمائية التي التصقت بذاكرة الجمهور مثل الممثلة شارون تيت التي قتلت على أيدي عصابة تشارلز مانسون، ونجم أفلام الكاراتيه بروس لي، والمخرج رومان بولانسكي، جاء في المرتبة التالية لفيلم “الأيرلندي”، فقد رشح لاثنتي عشرة جائزة؟
أما المخرج بولانسكي نفسه فقد قدم أحد أفضل أفلام العام “إني أتهم” (أو ضابط وجاسوس) الذي يتناول قضية دريفوس من زاوية سينمائية جديدة. ولكن الربط بين الفنان وعمله في ضوء الاعتراضات الشديدة من جانب جماعات الدفاع عن المرأة ضد التحرش الجنسي، ظلم الفيلم. وعلى سبيل المثال تجمع عدد من المتظاهرين أمام دار للسينما في باريس كانت تعرض الفيلم، مطالبين بوقف عرضه، لا بسبب موضوعه الذي يصور كيف اتهم ضابط فرنسي في أواخر القرن التاسع عشر بالخيانة وحكم عليه بالسجن فقط لكونه يهوديا، ولكن بعد أن اتهمته سيدة مخرجه باغتصابها عام 1975، وقد نفى هو الاتهام وعلق غاضبا بقوله إنه إذا كان المنتج هارفي وينستين قد أخطأ فلماذا يتعين عليه أن يدفع الثمن!
من الأفلام التي أثارت اهتماما عالميا غير مسبوق الفيلم الأميركي “الجوكر” Jocker للمخرج تود فيليبس، بطولة يواكين فينيكس، الذي حقق نجاحا هائلا رغم موضوعه الذي يتمحور حول شخصية رجل مصاب بالاكتئاب والعزلة يشعر أنه ضحية المجتمع ويتجه نحو الانتقام العنيف. ورغم الضجيج الذي ثار حوله وما وجه إليه من اتهامات، تارة بالدعوة إلى العنف، وتارة أخرى بتأجيج ثقافة الانتقام، تجاوزت حصيلة الفيلم في شباك التذاكر حتى الآن المليار دولار، وقد نال “الجوكر” 7 ترشيحات لجوائز الكرة الذهبية.
من أهم الأفلام غير الناطقة بالإنكليزية، الفيلم الكوري “طفيل” للمخرج بونغ يو، وهو الحاصل على “السعفة الذهبية” في مهرجان كان عن جدارة، وكذلك الفيلم الروسي البديع “الصيف” Leto وهو من الأفلام الموسيقية التي تروي بالصورة والصوت قصة حب على خلفية شباب مهووس بموسيقى الروك في زمن الشيوعية. وشخصيا أعتبر فيلم “البابوان” The Two Popes من إخراج البرازيلي فرنانو ميريليس من أفضل الأفلام، إلى جانب تحفة المخرج الأميركي تيرانس ماليك “حياة خفية”، والفيلم الفرنسي المتميز “البؤساء” للمخرج لادج لي.
لست ممن تحمسوا كثيرا لفيلم “ألم ومجد” للمخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار، فهو أقل من أفلام المخرج السابقة، وإن كان لا يخلو من طابعه الساحر المميز الأخاذ، وولعه بالتعبير عن الجانب الذاتي في حياته، وأسلوبه الخاص في السرد والربط بين الأزمنة المختلفة، واستخدامه الخاص للألوان.
من أهم الأفلام العربية أو تلك التي أخرجها مخرجون ينتمون للثقافة العربية ويصنعون أفلاما من الإنتاج المشترك والتمويل الغربي، فيلم المخرج الفلسطيني إيليا سليمان “لا بد أن تكون هي الجنة”، الذي يواصل فيه التعبير عن نظرة “الفلسطيني التائه” الذي يشعر باغترابه عن العالم بعد أن صار عبثيا، يعيش فوضى بصرية يراها سليمان طريفة بقدر ما هي مرعبة.
الملاحظ أن عددا كبيرا من المخرجات العربيات قدمن هذا العام أفلامهن الأولى، أولهن المخرجة التونسية البلجيكية هند بو جمعة وفيلمها “نورا تحلم” وهو عمل شديد التماسك والقوة والتأثير، ويمكنني القول إنه أكثر الأفلام التونسية التي شاهدتها هذا العام، توفيقا، سواء في قوة الموضوع أو صلابة السرد وتماسك السيناريو ووضوح الشخصيات وبراعة الأداء. وهو يتميز أيضا بالجرأة في معالجة موضوعه، والبعد عن المباشرة التي كان يمكن أن تقلل كثيرا من تأثيره، وتجعله تعليقا اجتماعيا ساذجا كما رأينا في أفلام أخرى تنتمي إلى تيار الواقعية النقدية.
أما فيلم “سيدة البحر” أول أفلام المخرجة السعودية شهد أمين، فهو عمل شديد الجرأة على صعيد “التجريب” في السينما العربية. وهو من حيث ما يوجهه من نقد شديد مغلف بالشعر، لهيمنة الرجل في المجتمع القبلي، لا يشبه عملا آخر على صعيد الشكل، وشعرية الصورة، وخصوصيات البيئة التي يصوّرها، ولكنه ربما يكون أقرب إلى عالم فيلم “بس يا بحر” (1972) للمخرج الكويتي خالد الصديق، فكلاهما ينتمي إلى نوع خاص من “الواقعية السحرية”.
من الجزائر جاء فيلم “بابيشا” الذي عرض في قسم “نظرة ما” بمهرجان كان، وهو أيضا أول أفلام المخرجة مونيا مدور، وتعبر فيه عن رؤية “نسائية” غاضبة تركز على خصوصية وضع المرأة في مجتمع ذكوري تعلو فيه سلطة الرجل الذي يستخدم الدين الإسلامي لتبرير استبعاد المرأة وتطويعها بل واضطهادها. وتدور أحداثه خلال العشرية السوداء أي الفترة التي شهدت الصراع مع جماعات التطرف الإسلامية، لكنه يفتقد للعمق ويظل تناوله لقضية المرأة سطحيا، تشوبه السذاجة.
وأفضل الأفلام المغربية هذا العام هو فيلم “آدم” أول أفلام الممثلة المغربية مريم توزاني كمخرجة. وهو أيضا فيلم نسائي بامتياز، فهو يصور مشكلة المرأة في مجتمع مغلق كالمجتمع المغربي. ويتميز كثيرا رغم بساطته، عن “بابيشا” الجزائري، بسلاسة موضوعه ووضوح شخصياته ورؤيته، كما أنه ناطق بكامله باللهجة العربية المغربية دون أي إقحام للفرنسية.
ويحتوي فيلم “سيدي المجهول” أول أفلام المخرج علاءالدين الجم على لمسات فنية جيدة في الصورة ومع ذلك يعاني الفيلم من بعض الهنات التي كان يمكن التغلب عليها، ومعظمها تتركز أساسا في السيناريو والمونتاج، والكثير منها يمكن اعتباره أخطاء البدايات.
وفي سياق الأفلام التي تصنعها مخرجات من العالم العربي، قدمت المخرجة السعودية هيفاء المنصور فيلمها الروائي الثالث “المرشحة المثالية”، وتطرح فيه مجددا المشكلات التي تواجهها المرأة في المجتمع السعودي، مع تصوير ما يشهده المجتمع السعودي من إصلاحات حقيقية على صعيد مشاركة المرأة في العمل العام، أو على مستوى الفنون والسماح بإقامة الحفلات العامة وإنشاء دور العرض السينمائي والسماح للمرأة مؤخرا بقيادة السيارات وبالسفر من دون محرم. وهي تستند إلى سيناريو بسيط، محكم، دقيق، متوازن، ينتقل في سلاسة عبر الفصول المختلفة للقصة التي يرويها، دون تعقيدات أو استعراضات بالكاميرا أو خروج عن أجواء الفيلم الواقعية.
وتبحث المخرجة الفلسطينية نجوى النجار في فيلمها الثالث “بين الجنة والأرض” تجربة أخرى عن الهوية الفلسطينية من خلال قصة درامية ذات أبعاد رمزية، تستخدم في صياغتها الموسيقى والأغاني الشبابية الجديدة المتمرّدة وأغاني الحنين، كما تهتم بالعناصر التشكيلية والبصرية، وتعيد اكتشاف البيئة الفلسطينية والأماكن الخارجية في المدينة وفي الأنحاء الفلسطينية المختلفة التي تتجوّل فيها بالكاميرا، خاصة وأن الفيلم في جانب كبير منه، يعتبر فيلما من أفلام الطريق، ينتقل بين العديد من الأماكن، على نحو يكشف للمتفرّج جمال الطبيعة الفلسطينية في الريف والمدينة بشكل ربما لم نره من قبل على كل هذا النحو من السحر والرونق والجمال.
وفي الفيلم الجزائري “أبوليلى” أول أفلام المخرج أمين سيدي بومدين، فهو يبتعد عما هو مألوف في لغة التعبير، مقتربا من السيريالية بقدر ابتعاده عن الواقعية. ورغم البداية الدرامية القوية التي تشي بما يحدث في واقع الجزائر عام 1994، أي في ذروة أحداث “العشرية السوداء”، سرعان ما يقطع الفيلم مسارا شبه تجريدي، لا ينشغل كثيرا بتحليل الواقع السياسي بل يبدو مهتما أكثر بالفردي، والإنساني، والشخصي، والنفساني، أي ببطليه اللذين يخفي الكشف عن طبيعة عملهما إلى الجزء الأخير من الفيلم الذي يتجاوز زمن عرضه الساعتين.
هناك فيلمان من السودان لفتا الأنظار بقوة هما “حديث عن الأشجار” التسجيلي للمخرج صهيب جاسم، والفيلم الروائي “ستموت في العشرين” لأم أبوالعلاء.
السينما المصرية لم تقدم هذا العام عملا كبيرا يليق بتاريخها العريق. شاهدنا أفلاما أنفقت عليها ميزانيات كبيرة وحققت رواجا في السوق، لكنها اعتبرت على نحو ما من الأفلام “الرسمية” بعد أن أصبحت السينما في مصر محاصرة حاليا من طرف الدولة التي مدت سلطتها إلى حقل التعبير الدرامي. وهي محنة قائمة حتى إشعار آخر.