محمد رضا
برهنت الدورة الحادية والأربعون من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي كانت انطلقت في العشرين من هذا الشهر وانتهت يوم أول من أمس بأن التغيير الذي هدف إليه القائمون على المهرجان في الدورة الماضية ولم يُنجز بكامله، تمّ له هذا الإنجاز في هذه الدورة، لافتةً الانتباه مجدداً إلى موهبة رئيسه محمد حفظي وحرصه على تحقيق النجاح من دون النظر إلى أي معيقات يمكن له أن يواجهها في سبيل ذلك.
هذه الدورة، في المقام الأول، هي التي تثبت للمسؤولين، الذين ترددوا سابقاً بتوفير الدعم المالي الكافي لإنجاح المهرجان، أن هذا الحدث ليس مجرد حفل ترفيهي يقع على مدار تسعة أيام يحضره النجوم والجمهور ويصفقون لما يقع فوق منصّته، بل هو واقع متقن يفيد لا السينما المصرية وحدها ولا العاملين فيها وصانعي أفلامها، بل مصر بكاملها.
لم تكن كلمات جوفاء وابتسامات فارغة تلك التي عبّرت عن مشاعر الإعجاب بمصر وتاريخها وحسن الاستقبال الذي وجدوه بين أبنائها. كل من صعد المنصة من الضيوف غير العرب (بمن فيهم مدير التصوير الفذ فيتوريو ستورارو، أشاد بكلمات سديدة وبإيمان واضح بذلك الاستقبال، وبما شهده وشاهده من معالم مصر، والإعجاب الذي لم يكن يتوقعه.
هذه شهادات لا يمكن أن تُحسب بمال وإعلام صحيح لا يمكن تقديره مادياً. إنها الدليل الذي يثبت أن المهرجان ليس ترفيهاً تشمله اللقاءات والمشاهدات ثم ينتهي مندثراً تحت ركام الأيام إلى أن تأتي دورته الجديدة بجديدها، بل فعل اقتصادي وإعلامي وثقافي يساوي أضعاف ما تدخره الدولة من ميزانية له.
– دهشة
إذا ما كان هدف رئيس المهرجان محمد حفظي وضع الحدث على سكتَيْ حديد ودفعه إلى الأمام، فقد نجح، لكن الهدف الأكبر هو سد الثغرات التي سادت عقوداً من العمل بعض سنواتها أفضل من بعضها الآخر. هذا الطموح لا ريب كان في بال بعض من ترأسه، مثل سعد الدين وهبة وحسين فهمي وسمير فريد وماجدة واصف وعلي الشوباشي، لكن كل واحد من هؤلاء كان لديه مفهومه الخاص لما يريد تحقيقه وصولاً للنجاح وخبرته الشخصية لتحقيق هذا النجاح. رئيسه الجديد يبدو كما لو اختمر كل هذه الأهداف والخبرات، وأضاف إليها رؤية عصرية تتوازى و- في أحيان كثيرة – تتجاوز أعلى نقطة بلغها هذا المهرجان من إطلاقه وحتى اليوم.
والمرء قد يدهش من التقدم السريع الذي صاحب هذه الدورة في مجالات التنظيم والإدارة العامة. صحيح ما زال هناك بعض ما يشكو منه الاقد إذ يلاحظه من موقعه، مثل عدم وجود صالة مخصصة للصحافة والنقاد في حفلتين يومياً يشاهد فيهما أفلام المسابقتين الرئيسيتين (المسابقة الرسمية ومسابقة «آفاق السينما العربية»)، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن المهرجان لم ينعم، على هذا النحو، بنجاح كفعل إداري مدروس وكمنصة إعلامية راقية لكثير من الأفلام التي عرضها منذ سنوات بعيدة، وربما منذ بدايته.
حفل الختام كان أفضل من حفل افتتاحه. ذاك استثمر وقتاً طويلاً نال من حماس من جاء ليحضر رائعة مارتن سكورسيزي «الآيرلندي»، فغادر القاعة بعد نحو ساعتين من «التكريمات» وصعود المنصات لإلقاء كلمات الترحيب. الحفل الاختتامي كان ذا وتيرة سريعة عموماً ومنضبطة باحتراف.
قبل وصول المرء لاحتلال كرسيه في الصالة التي يُقام فيها الاحتفال (قاعة الأوبرا الرئيسية) يلحظ تلقائية وتعاون ثلاث شابات جميلات توزعن في أركان البهو الفسيح فوق البساط الأحمر يلتقطن القادمين لإجراء أحاديث تتباين من توقعات الحاضرين إلى تصاميم ملابس السهرة.
نعم، كلمة كلمة وحركة حركة هذا منوال مقتبس من حفلات الأوسكار والغولدن غلوبز وسواهما من الأحداث السينمائية الغربية، ونعم، الحديث عن التصاميم الجميلة أمر لا علاقة له البتة بالسينما والأفلام، إلا أنه ضروري لجمهور كمن في منزله ليشاهد (على شاشة محطة «DMC» التي هي واحدة من داعمي المهرجان) ويستمتع به كاستعراض، وهذا من حقه أيضاً.
طبعاً تبقى الأسئلة والإجابات مكررة في الغالب، وهي تطنيب للمهرجان من دون سرد الدواعي الفعلية لذلك، وتبادل ابتسامات وكلمات إعجاب من نوع و«إنت زي القمر» و«نوّرت الحفل»، لكنها احتوت أيضاً على بعض الصراحة عندما أعلن أكثر من ضيف عابر على البساط الأحمر بأنه لم يشاهد الكثير من الأفلام بسبب انشغاله. نعلم أن بعضهم لم يشاهد فيلماً واحداً، لكن ذلك – ضمن حالة الترويج – مطلوباً كونه ينضم إلى باقي ما تفرزه هذه المقابلات السريعة من اهتمام من قِبل البعض وتروّجه للمهرجان حاشدة عناصر الترويج الإعلامي كما يجب.
– في بغداد
الجوائز كثيرة وتوزعت على أكثر من نحو وفازت باقة متنوعة من الأفلام. على ذلك، فإن فيلم «بيك نعيش» لمهدي البرصاوي و«شارع حيفا» لمهند حيال التقطا أكثر من جائزة خلال هذا الحفل النهائي.
إذ تحدثت عن الفيلم المغربي «بيك نعيش» وعناصر قوّته وإجاداته، لم يكن مفاجئاً أن يحصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة في قسم «آفاق السينما العربية» وأن يجد قبولاً لدى جائزة الأمم المتحدة فتمنحه جائزتها السنوية كذلك.
«بيك نعيش» هو واحد من الأفلام التي تطرح قضيتها الاجتماعية عبر لغة سينمائية متقدّمة وحسنة التنفيذ. البون الشاسع بين مفاهيم الشرق والغرب ينفجر حال يكتشف الزوج أن من كان يعتقد أنه ابنه ليس كذلك بالفعل. شعور الخديعة والحرمان من ناحيته والذنب والندم من ناحية الأم يتوازى وسعي كل منهما المنفصل إلى إنقاذ حياة ابنهما المسجى في المستشفى بانتظار إتمام عملية خطرة. تتسارع الأحداث هنا ثم تتسرّع في النهاية وتوصلنا إلى نهاية تلم شمل ما حدث. هذا صحيح، لكن ما حدث على الصعيدين الشخصي والعام لأبطال الفيلم وتعرض العمل لتجارة الأعضاء البشرية وسقوط الأولاد كضحايا لدى جماعات لم تعد تنتمي إلى الإنسانية بصلة يؤمنّان أرضية صلبة للفيلم، بالإضافة إلى أن كل هذا مصنوع بدراية فنية جيدة تلتقط ما هو مطلوب وتحققه.
أما «شارع حيفا» الذي خرج بجائزتي «أفضل فيلم روائي» و«أفضل أداء تمثيلي من المسابقة ذاتها، فحاله لا يقل أهمية.
«شارع حيفا» في بغداد واحد من الشوارع التي تشكل صلب المدينة، وشهد معارك حاسمة خلال الاقتتال الطائفي قبل بضع سنوات كانت فيها القوات الأميركية ما زالت تجوب المدينة. المخرج الجديد مهند حيال يستلهم من ذلك الواقع مساحة محدودة جغرافياً كما درامياً وحدثياً ليحكي قصّة متشابكة إلى الحد الكافي لإثراء الدراما، ولو بناء على حكاية محدودة الأحداث.
هناك حجرة يسكنها قناص ورجل ملقى في وسط الشارع (شارع ضيق يشكل، في غالب الاعتقاد، جزءاً من الشارع الذي يحمل الفيلم اسمه) ومنزل فيه امرأة وأمها ورئيس جماعة منتمية إلى القاعدة، وتلك الثقوب التي في جدران الحجرة التي يصطاد منها القناص تآمر كل من يحاول مساعدة رجل جاء يطلب زواج المرأة التي لا يود القناص اقتراب أحد منها. سيخيف من تسوّل له نفسه كذلك الاقتراب من الرجل الذي أصابه في ساقه، والذي ينزف دماً. بذلك يثير القناص (علي تامر الذي فاز بجائزة أفضل ممثل) الخوف في المكان. لا أحد يستطيع التصدي له ولا تغيير موقفه، ناهيك بقتاله.
هو خوف ينجح المخرج في تبريره وتقديمه كذلك في تقديم الشخصية التي تجسده. فالقناص شاهد فظاعات سجن أبو غريب، وخرج بروح تنزف ألماً. لذلك لن نراه في غير هذا الضوء طوال الوقت. بذلك، أيضاً، لا تتقدّم الشخصية كثيراً في هذه الدراما والتجسيد الجيد الذي تبدأ به يتحول، لاحقاً، إلى تكرار مواقف.
يتفادى المخرج، بمهارة، وقوع الفيلم طريح الحبكة الصغيرة التي يعرضها بأسلوب مداهم من التصوير والتنفيذ. هو ليس هنا للحديث عن أعماق الوضع وسياساته، بل لاستعراضها بالشكل الذي ينقل الخراب النفسي والإنساني إلى حضن المشاهد، على نحو مداهم ومؤثر في بعض الحالات. وإذ تبقى الكاميرا في إطار موقعين أو ثلاثة، يتجاور الفيلم ضيق المساحة ومحدودية الإمكانيات المادية ويسبر غور بعض شخصياته بمهارة. على ذلك، تقف الهنات مثل أسلاك تقطع الطريق أمام استجابة كاملة. الحوار كثيف وغالبه صراخاً (مع صعوبة نطق لدى بعض الشخصيات). الممثلة التي لعبت دور الأم (إيمان عبد الحسن) تنظر إلى البعيد كلما أرادت أن تخبرنا بأنها تفكر. في الواقع هناك اجتهادات شتّى من ممثلي معظم الأدوار ولو أن علي تامر يحسن إدارة نفسه وتأكيد سلوكها العدائي جيداً.
جائزة مهمّة أخرى في نطاق مسابقة «آفاق السينما العربية»، وهي جائزة أفضل فيلم غير روائي، ذهبت إلى الفيلم اللبناني «بيروت المحطة الأخيرة» لإيلي كمال، وقد استعرضناه بإيجاز سابقاً، ووجدناه يحمل ما له وما عليه.
إنه لوحات مصوّرة بجماليات واقع حزين لا يتحدث عن مصير قطارات لبنان المتوقفة منذ عقود بقدر ما يتحدث عن تلك العقود ذاتها التي شهدت الحرب الأهلية. وما يسرده حزين كالصور التي لا تظهر بشراً بل أراضي وجدراناً وخطوط سكة مهملة وقطارات مهشّمة.
تعليق صوتي للمخرج يسرد فيه موقعه من كل ذلك، وهو موقع ذكرياتي كونه عانى من التهجير، ثم مرّت الحرب الأهلية عليه، كما على سواه، مفرزة أبناء الوطن إلى فريقين متحاربين وبيروت إلى منطقتين.
كل ذلك جيد لولا أن منوال الحديث يتحوّل إلى قدر من التكرار. يشبه في ذلك تكرار النظر إلى لوحة معلقة في متحف دون سواها، أو الاستماع إلى مقطوعة كلاسيكية مرّة تلو المرّة طوال ساعات.
– الجوائز الرسمية
بالانتقال إلى المسابقة الرئيسية، التي عادة ما تأتي في نهاية كل ما يسبقها من جوائز، فاز الفيلم المأسوي «ميندانا» للبريلانتي مندوزا (فيليبين) بجائزتي أفضل إسهام فني وأفضل ممثلة لجودي آن سانتوس التي لعبت دور أم تشقى في سبيل متابعة علاج ابنتها الصغيرة من السرطان.
بالنسبة لجائزة التمثيل الرجالي نراها ذهبت إلى جوان دانيال غارسيا تريفيو عن دوره في «لم أعد هنا»، وهو الفيلم المكسيكي الذي فاز كذلك بـ«الهرم الذهبي»، أرفع جوائز المهرجان المصري.
دراما آسرة وجميلة في الروح والمعالجة حول مكسيكي شاب يهوى الموسيقى وفضاء الحرية لكنهما من المنالات الصعبة في حياته، إذ يحاول البحث عن هوية جديدة خارج بلاده.
«الجائزة الفضية» ذهبت لفيلم «شبح مدار» لمخرجه باس ديفوس، الذي تناولناه ملياً في رسالة سابقة. دراما عن عاملة تنظيف من أصل عربي متقدمة في السن تنام في المترو، فينقلها إلى آخر محطاته في حي لا تعرفه وعليها أن تعود ماشية إلى حيث منزلها. الليل مداهم والشخصيات حولها، تشي بأوجه التناقض بين المجتمعات.
في موضوعه هو قريب من «أبناء الدنمارك» لعلاوي سليم الذي فاز بجائزة «فيدرالية نقاد السينما الدوليين» عن استحقاق.
ثلاثة أفلام عربية فقط شاركت في المسابقة الرسمية خرج منها واحد بجائزة.
فيلم أحمد غصين «جدار الصوت» لم يلق بالاً من لجنة تحكيم، وإن اعترفت بأن الأعمال الخمسة عشر التي شاهدتها في هذه المسابقة كانت كلها جيدة. كذلك الحال مع فيلم «احكيلي» لماريان خوري الذي خرج بجائزة الجمهور، وكان الفيلم المصري الوحيد في المسابقة. والحديث هنا هو عن أنه دخل المسابقة لأن السينما المصرية افتقدت ما تقدّمه.
الفيلم الثالث هو «بين الجنة والأرض» للفلسطينية نجوى النجار، وهو الوحيد الذي خرج بجائزة رسمية إذ فاز بجائزة أفضل سيناريو (كتبته المخرجة بنفسها).
واحتفى المهرجان بسينمائيين هما المخرجة والممثلة اللبنانية نادين لبكي ومدير التصوير فيتوريو ستورارو.
تلقف المهرجان دعماً معنوياً مهماً من معظم النقاد والكتّاب الذين أمّوه. هذا يجب أن يُحسب للمهرجان ويُحسب لهم لأن الجادين منهم هم عماد المهرجان الأساسي، كما هم عماد مهرجانات أخرى حول العالم.
برمّته، تقدم المهرجان خطوة كبيرة إلى الأمام، وكما لم يفعل منذ سنين طويلة. اكتفى بلعب دور المهرجان المسلي واللقاء الجمعي بين المعنيين وحفلات الليل اليومية، وعزز مكانته بين تلك التي تحمل كلمة «العالمية» بثقة وبنجاح.
خُطَب الفائزين مالت إلى السياسة مباشرة: ماريان خوري حثت الشباب المصري على التمرد. المخرجان إيلي كمال ونادين لبكي باركا الحراك الثوري في بيروت وعموم لبنان. المخرج العراقي مهند حيّال لم يتأخر عن مباركة الثورة العراقية الجديدة داعياً للصمود.
ربما هي كلمات تحمل الرغبة الطموحة لعالم أفضل يخرج من متاهات الحاضر، لكنها صادقة وتعبر عن الرغبة الحارة في تحقيق ذلك العالم الأفضل حيث يسود السلام والوئام ويندثر الخصام. لتعود البلاد العربية منتجة فاعلة للثقافات والفنون كما كانت يوماً.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط