وحيد الغامدي
في اللحظة التي خرجتُ فيها من قاعة السينما التي عرضت فيلم (الجوكر) أدركتُ لماذا حصل العنف في بعض البلدان التي عرضت الفيلم الذي لامس قلوب ملايين من المهمّشين والمسحوقين في كل المجتمعات وعكس بصدق معاناتهم مع منظومة السُلطات المتعددة التي تمارس كلها ضغطاً عليهم، بدءاً بسُلطة العائلة والوالدين مروراً بالزملاء والمجتمع وانتهاء بسُلطة الأثرياء والسياسيين، لتأتي النتيجة التي رسمت ملامح الانتقام الذي قامت به شخصية البطل / الجوكر لتكون تتويجاً درامياً لكل تلك الرحلة السوداء المليئة بالقهر والظلم والشعور بالتهميش والتعرض للتنمر والازدراء. تلك الخاتمة التي جاءت مع بقية أحداث الفيلم (كالمبتدأ والخبر) عرضت فعلياً تعرّي غريزة الانتقام التي قدحت شرارة الجدل حول الفيلم، بل وقدحت حتى العنف المصاحب لعرض الفيلم في بعض البلدان، حتى جعلت الفيلم حتى هذه اللحظة يجني مليار دولار من مبيعات العرض في مختلف البلدان ليس من بينها الصين التي حسمت منع عرض الفيلم.
حسناً.. لستُ ناقداً سينمائياً، ولا حتى ناقداً للقصة القصيرة. لكني كمشاهد فقط استشفيت الرسالة التي حملتها روح هذا الفيلم المبهر حقاً، تلك الرسالة التي يندر الحديث حولها، أو يُخبأ أحياناً، توحي بأن الخطر في كل المجتمعات قائم من تحت الرماد. سنرى لاحقاً أن الرسالة عظيمة جداً وتفتح أبوباً كثيرة للتربويين والآباء والمعلمين وربما حتى لرجال الدين وحتى لأغلب السياسيين للتعامل مع مشكلة قائمة في مجتمعاتهم. أي بمعنى أن كل من يملك سُلطة، ممن سبق، أي سلطة كانت، على نفس بشرية ناشئة فعليه أن ينتبه في أدوات تعامله مع هذه النفس، وإلا فالنتيجة كارثية.
الأمر الذي فجّر محتوى هذا الفيلم هو أن هناك حقيقة تتلخص في أن هناك طبقة أو طبقات في كل أو أغلب المجتمعات تعيش على هامش الحياة، ولأنها على الهامش فسوف يسيطر العنف والفقر على مجريات حياتها اليومية، وبالتالي سيشعر أبناء هذه الطبقة بذلك الضغط الفظيع من قبل كل تلك السُلطات التي أشرت إليها أعلاه بدءاً من سُلطة الأم التي اكتشف بطل الفيلم حقيقتها في النهاية فضمها لقائمة ضحاياه وقتلها (والدته !) بدم بارد.
منذ أن ينشأ الفرد في تلك الطبقة وهو يشعر بثقل الضغط الاجتماعي بمجرد انتمائه لها. لقد صوّر دوستويفسكي ببراعة تلك الشخصية في روايته الدامية (مذكرات من البيت الميت) ومقدار ما تحمله من ازدراء للطبقات الاجتماعية المختلفة عنها، وخصوصاً تجاه طبقة النبلاء، تلك الشخصية التي تتواجد في تلك المجتمعات التي تتباين فيها المكونات الاجتماعية بشكل صارخ يمكن لصاحبها أن يتحول لكائن مرعب في لحظة من اللحظات، فهو يعيش تحت الشعور بالضغط المستمر، فإن سلم من تعنيف دائرة الأسرة الصغيرة فلن يسلم إذا كبر من بقية الدوائر التي ستضغط عليه لاحقاً إذا كبر وبدأ يحلم بحقه في تحقيق ذاته.
وهنا تبدأ لحظة الصراع، سواء في أحداث الفيلم، أو في أحداث الحياة التي نشاهدها أمامنا على أرض الواقع. لحظة الحقيقة الوقحة والعارية. في تلك اللحظة التي أعقبت البرنامج التلفزيوني المأساوي الذي قُتل فيه عددٌ من الأشخاص في الفيلم، من بينهم مقّدم البرنامج الذي أساء للبطل / أرثر ذات يوم فحانت لحظة الانتقام على الهواء مباشرة بطريقة أكبر من طبيعة الإساءة، ولكن من يضبط عقلانية إنسان انفجر بكل أزماته في لحظة واحدة؟ تلك اللحظة بالذات ينتقل صداها للملايين المشابهين فيخرجون في نفس اللحظة ليحرقوا المدينة.
من هنا قلتُ إن رسالة الفيلم تفتح أبواباً واسعة لكل من بيده مصير أي إنسان بأن عليه ألا يحوّل هذا الإنسان إلى كائن مفترس.
المصدر: مجلة اليمامة