سوليوود «خاص»
مع انتشار التكنولوجيا وتطورها إلى ذلك الحد الذي أصبح معه الإنسان كئيباً متوحداً، لم يعد من بد له سوى الحنين الجارف إلى الماضي، فيما يعرف بالـ “نوستالجيا”، حيث استحضار صور الماضي والتوق إلى الارتماء في أحضانه، كتعبير عن الرغبة في الهروب، وبما أن السينما انعكاس للمجتمع ولصوره الذهنية، وجد الماضي بحكاياه المفرحة والمؤلمة سبيلاً متسعاً أكثر كي يتجسد في هيئة فيلم سينمائي أو عمل درامي.
“منية مدور” المخرجة والكاتبة الجزائرية تبنت صُنع نافذة سينمائية جديدة تعود من خلالها بالمشاهد إلى حقبة التسعينات من التاريخ الجزائري، حقبة “سوداء” هكذا أطلق عليها فعلياً، وذلك بسبب ما اكتنفها من أحداث جسام هزت الكيان الجزائري، وتوغل صداها في المجتمع مقسماً إياه إلى فئات ليست مختلفة فحسب وإنما متناحرة في الأغلب، التشدد يملأ الأجواء، والإرهاب يخلف ورائه على مدار عشر سنوات عشرات آلاف الضحايا الأبرياء.
اختارت “مدور” هذه الحقبة كي ترسم فيها لوحتها السينمائية “بابيشا”، وقد نجحت ونالت على وقعها تصفيقات وإشادة الحضور وكذا الحكام في أكثر من مهرجان بداية من “كان” الذي عُرض فيه فيلمها عبر مسابقة “نظرة ما”، وانتهاء بمهرجان “الجونة”، والذي استطاع فيه أن يُتوج بجائزة أفضل فيلم عربي.
تدور أحداث الفيلم حول “نجمة” وشهرتها “بابيشا” فتاة في مقتبل العمر فيما دون العشرين، تسعى وراء حلمها بضراوة، وهو أن تستطيع عبر مهارتها في تصميم الفساتين الوصول إلى إقامة عرض فساتين كامل من حياكتها، كل هذا انطلاقاً من الموروث الثقافي الجزائري والذي يعبر عنه في الفيلم بزي “الحايك”.
أتت نجمة وصديقاتها في زمن تعقد فيه كل شيء، فأجواء الإرهاب والتشدد السائدة في المجتمع -حينذاك- تعيقهن عن الحلم وعن الاستمتاع بحياتهن كما يجب، لكنهن لا يرضخن للظرف السائد ويقررن مجابهة كافة الصعوبات المجتمعية الكائنة، عبر مواصلة التعلم في الجامعة والخطو بكل تصميم تجاه تحقيق أحلامهن.
من هنا تتشكل مفارقات القصة، حيث المرأة في مواجهة الموروث الثقافي المتشدد، ذلك الموروث الذي لم يقف عند حد إبداء الاختلاف بالكلام، وإنما امتد لفرض رأيه عبر العنف والإجبار، وهو ما يتجلى عبر إحدى المشاهد التي تظهر فيها مجموعة من النساء المنتميات للتيار المتشدد كون ما يشبه “شرطة دينية” في الجامعة، حيث يقتحمن غرفة “نجمة” وصديقاتها ويأمرهن بارتداء الحجاب ووجوب الصلاة.
تتصاعد الأحداث في ترتيب منطقي مؤثر، ترتيب يفتح آفاق معبرة عما يمكن للتشدد أن يصنعه في حياة الناس من تعقيد ومآسي، القصة من تأليف “منية مدور” كذلك، وقد استلهمتها من تجربتها الشخصية في تلك الحقبة، الأمر الذي يعطيها بعداً واقعياً يحتم على المتلقي التفاعل مع العمل والتجاوب مع مضامينه ورسائله.
في رمزية شديدة اختارت مخرجة العمل “منية مدور” معظم طاقم التمثيل من النساء، حيث اعتمدت على الممثلة لينا خودري لتقوم بدور بطلة الفيلم “نجمة” الملقبة بـ”بابيشا”، فيما أحاطتها بعدد من الفتيات الأخريات واللاتي قمن بدور صديقاتها، وهن وسيلة، سميرة وكهينة.
الإحكام الذي عليه العمل والقضية المؤثرة التي يناقشها، فضلاً عن النجاح الذي حققه في عدد من المناسبات والفعاليات السينمائية، جعله يحظى بدعم الدولة الجزائرية والتي رشحته مؤخراً ليدخل ضمن قائمة الأفلام المرشحة لجائزة أفضل فيلم دولي في مهرجان أوسكار للدورة القادمة.