وليد علاء الدين
هل كشف فيلم «الممر» عن فجوة شديدة الاتساع بين الناس وفئة المثقفين في مصر؟.. لكن أولًا من هم المثقفون؟. حديثي هنا عن المشتغلين بمهن ذات صلة بالآداب والفنون ممن تعددت مشاهداتهم، فتدربت حواسهم وتطورت ذوائقهم وتكوّن عقلهم الناقد فباتوا قادرين على مقارنة ما يُعرض عليهم وفق مستويات معيارية للجمال، لا يقبلون بما هو أقل منها ويعدونه فاشلًا. وهو ما جعلهم يعتبرون فيلم «الممر» فيلمًا فاشلًا لأسباب موضوعية لا يسهل الدفاع عنها؛ فالسيناريو ساذج، والحوار مدرسي وغير مناسب، والأخطاء الفنية كثيرة وفادحة تكشف عن كسل كبير واستسهال أكبر.
الواقع أني لا أخالفهم في كثيرٍ مما ذهبوا إليه، وربما أكون واحدًا من هؤلاء القساة الذين يبدون كمن يفتشون عن العيب في الوردة الحمراء الزاهية فيشيرون إليه أملًا في تفادي حدوثه في الوردة التالية. لكني مع فيلم «الممر» لم أستطع منع نفسي من الفرحة، حتى إن أفراد أسرتي كانوا مندهشين أنني لم أقاطعهم بانتقاد هنا أو سخرية هناك، بل كنت جاهزًا فقط لتمرير معلومة هنا واستكمال فكرة هناك لابني يوسف المندمج في تكوين علاقته بوطنه وفهم طبيعة المشكلة مع جيراننا الأعداء المغتصبين أرضا ليست لهم.
لذلك، بعيدًا عن السينما وفنياتها.. أحب أن أعلنها واضحة وبلا مواربة: أنا مع حشد مشاعر المصريين بأفلام سينما مصنوعة بطريقة تناسب مزاجهم إذا كانت النتيجة تذكيرهم بأن جيرانهم أعداء، وإبقاء جذوة النار متقدة في نفوس أبنائنا بشأن أرضهم ووطنهم. من دون أن أفقد الأمل في أن ننجح قريبًا في صناعة سينما بطولات حقيقية بمواصفات فنية عالية عن حرب الاستنزاف والعبور.. وما أكثرها!.
أي حديث عن فيلم «الممر» بوصفه سينما- فنيًا- لن يكون في صالحه، يمكن أن نعقد المقارنة بينه وبين ما تنتجه السينما المصرية حاليًا من أفلام.. سيبدو بينها كزهرة فل في حقل من الزبالة.. كما أن الحشد والتعبئة والتذكير بأننا جيران لأعداء، وبأننا انتصرنا عليهم، وأننا لابد أن نظل يقظين ومنتبهين لهم، مهمة أقبلها حتى لو كانت بطريقة الدعاة الجدد الذين يدغدغون مشاعر المراهقين، فما بالك في أن «الممر» نجح في تحريك مشاعر الناس ودفع أولادنا للسؤال!.
لست مختلفًا مع معارضي الفيلم لأسباب فنية في كثير مما قدموه من اعتراضات، المشكلة في ظني أن وعي عوام الناس في مصر بالأعداء المتربصين تم تكوينه عبر وسائل الإعلام والتثقيف والإرشاد، وهي دائمًا حكومية أو تضبطها الحكومة.. وما حدث خلال السنوات الماضية أن الأجيال الجديدة بالفعل انفصلت عن أي معرفة حقيقية بالعدو الصهيوني، وبتاريخ أهلهم في النضال ضده بالهزيمة والنصر وأسباب هذا وذاك.. إلى حد أنك إذا سألت شباب الجامعات المصرية (بعد أن فقد اسم الجامعة معناه) عن حرب أكتوبر وعن الصهيونية وعن النكسة، ستجد معلوماتهم أقرب إلى الهواء.. وهو ما شارك فيه الإعلام الحكومي عن تخطيط ووعي ودراية خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك بشهادة أحد أبرز أساتذة الدراسات العبرية، لأهداف يمكن التكهن بنصفها الطيب وبنسبة من بقيتها الشريرة.
لذلك أعتقد بهدوء أن فيلمًا فنيًّا عميقًا بمفهوم المثقفين ومحبي الفن الجيد والسينما الراقية- لن يخدم، لأنه سيكون منفصلًا عن المستهدفين به.. لن يشعر أحد به ولن يهتم ولن يتأثر.. في حالة مثل هذه لا قيمة ليوسف شاهين ولا لعاطف الطيب (يختلف من يختلف بشأنهما) ولا لكثير من المخرجين والمؤلفين المهمين، لأنهم خط إنتاج مختلف ووسيلة اتصال مختلفة مع ناس مختلفين، تقريبًا جمهورهم هم الناس الجاهزون ثقافيًا ولا ينتظرون رسالة بهذا المستوى من «التسطيح» كما يراه المثقفون الذين سيصفقون للفيلم الفني الجيد، ثم يكتب النقاد المثقفون عنه مهللين للمستوى الفني اللائق بتاريخ مصر في السينما ومدى عمق الأمور ونضجها.. ثم يضاف الفيلم إلى أفضل 100 فيلم.. ويا دار ما دخلك شر، ولا خير.
هنا الحديث عن محاولة مخاطبة الناس الذين- لأسباب تحتاج لفهم- لا يمكنهم «الانبساط» بفيلم فني عميق، والواقع أنك لكي تخاطبهم عليك أن تنتج فيلمًا بمستوى فيلم «بابا» من بطولة النجم أحمد السقا بكل ما قدمه من وساخة فنا ومضمونا، أو تقدم لهم فيلم «الممر» بمواصفات تجارية ومضمون مصنوع ومقصود.. فيدفع الأبناء للسؤال عن الحرب والعدو والصهيونية، فيجد الآباء فرصة ليحكوا لأولادهم، وتتحدث الأمهات عن معنى البطولة والتضحية من أجل الوطن وشرف الفداء، وترى البنات أن أحمد عز الضابط المقاتل بجسده الممشوق بطل حقيقى أفضل من أحمد السقا في فيلم «بابا» أو غيره من أبطال قصص الإسفاف واللصوصية والنصب، ويحب الناس في المقاهي الجندي الصعيدي الذي منعه الخجل من زيارة أبيه منذ يوم هزيمته التي لا ذنب له فيها.. هذه في ظني أمور تدفع الشعوب ثمنا لصنعها.. وإذا كان الثمن «شوية فنيات سيما».. فبسيطة، على أمل أن ننتبه لها فيما يأتي من أفلام تستحضر لحظات البطولات الحقيقية بأقلام أدباء حقيقيين ومشاركة صناع سينما ملهمين.
لا أطلب من أحد أن يهلل للفيلم، أعطوه تقييمًا متدنيًّا على الصعيد الفني.. هذا واجبكم.. فقط لا تُجرّموا من أحبَّه ووجد نفسه فيه، ولا ترموا الناس الذين استعادوا ذواتهم من خلال قصته البسيطة بالسذاجة والسطحية، لأنكم بذلك تفصلون أنفسكم أكثر وأكثر عن الشارع الذي ينبغي أن تكونوا إلى صفه وجواره إذا كنتم تؤمنون بأن دوركم الصعود به نحو الأفضل.
المصدر: صحيفة المصري اليوم