عبدالله القمزي
هناك فرق كبير بين أن يذكّرك فيلم بماهيته باستمرار، لأن كل ما تراه على الشاشة لا يمكن فصله عن الصنف الذي ينتمي إليه الفيلم (أفلام أفنجرز مثالاً)، وبين أن تذكر أنت نفسك أن الفيلم ينضوي تحت ذلك التصنيف، لأن عقلك لا يستطيع ربطه بسهولة بصنفه، بسبب تكوينه المختلف والفريد من نوعه، مثال: «فارس الظلام» و«لوغان» و«جوكر».
في عالم باتمان هناك نوعان من الظلام: الأول يتميز بالخواء والسطحية ويقف خلفه زاك سنايدر، والثاني ظلام بطابع جمالي في بصمته الوراثية، ويقف خلفه الإنجليزي كريستوفر نولان. في فيلم Joker المستقل عن أفلام عالم باتمان في رؤيته الفنية السينمائية، وهو ليس مقدمة ولا ملحقاً لتلك السلسلة، فإن المخرج الأميركي، تود فيليبس، المشهور بثلاثية The Hangover الكوميدية، اقترب أكثر من رؤية نولان.
هذا فيلم مزعج، هو رحلة بداخل رأس وقلب رجل مصاب بمرض ذهني وهلوسات ومتألم نفسياً، وهو يميل إلى رعب أكثر من أكشن أو مغامرة. حتى فيلم نولان الأيقوني «فارس الظلام»، الذي يعد درة تاج الكاتالوغ السينمائي لشركة وورنر براذرز/دي سي، وظف قالباً تقليدياً مستوحى من أجواء القصص المصورة (كوميكس) أكثر من «جوكر». بوسعنا القول إن في تصنيف أفلام القصص المصورة والخيال فإننا لم نرَ شيئاً مثل «جوكر» في غرابته، وجرأته في الخروج على تقاليد الصنف.
ولن نفاجأ لو علمنا أن أفضل ثلاثة أفلام قصص مصورة في الـ20 سنة الماضية، انحرفت تماماً عن خط تصنيفها الذي اتبعته معظم أفلام سوبر هيرو. بكلمات أخرى، أفلام «فارس الظلام» (2008)، و«لوغان» (2017)، و«جوكر» (2019) كلها خارجة عن قالبها، ودخلت أراضي جديدة بشكل لم يسبق له مثيل.
«فارس الظلام» كان في قالب أفلام العصابات، و«لوغان» كان فيلم ويسترن قلباً وقالباً، أما «جوكر» فهو دراسة سلوك شخصية ودراما نفسية وتشويق عن قصة تكوين مجرم. الأفلام الثلاثة من عالمَي باتمان و «إكس من»، والفرق أن «فارس الظلام» صنف عُمريا لأبناء 13 عاماً مثل كل أفلام هذا الصنف، أما «لوغان» و«جوكر» فصُنفا للكبار فقط.
في لغة القصص المصورة، فإن «جوكر» فيلم عن قصة أصل شخصية، عام 1981، والشخصية الرئيسة هي الكوميدي المشوه الفاشل آرثر فليك (واكين فينيكس المبهر في أي دور يتقمصه)، الذي سيتحول إلى الشخصية الأيقونة الأشهر بعد باتمان، إن لم يكن مساوياً له في الشهرة، رمز الشر والخبث والدهاء: «جوكر».
تاريخياً، أول من جسّد جوكر كان سيزار روميرو في ستينات القرن الماضي، لكنه كان بطابع كوميدي، عام 1989 جسده المخضرم المعتزل، جاك نيكلسون، تحت إدارة تيم بيرتون، لكنه كان متصنعاً إلى أبعد الحدود، عام 2008 تحول الأسترالي الراحل، هيث ليجر، إلى جوكر تحت إدارة المبدع نولان، في أداء أسطوري منحه أوسكار أفضل ممثل مساعد، لكنه مات مدمناً على مضادات اكتئاب، قبل عرض الفيلم بستة أشهر، بسبب الحالة النفسية التي أصابته من الدور.
جاء بعده جاريد ليتو في جوكر منسي في «فرقة الانتحار» 2016، ثم فينيكس في هذا الفيلم. ولا ننسى مارك هاميل الذي أدى صوت جوكر في أفلام الأنيميشن. عندما يبدأ الفيلم نرى فليك المريض النفسي السابق، الذي يعمل مهرجاً تحت تأثير سبعة أنواع من الأدوية. يعيش فليك في مدينة غوثام بشقة مع والدته المنعزلة بيني (فرانزس كونروي).
تتمحور حياة بيني أو وجودها حول شيئين: عشقها مشاهدة مذيع برنامج حواري ليلي، يقدمه موراي فرانكلين (روبرت دينيرو)، وهوسها برب عملها السابق توماس وين (بريت كولين)، وهو والد باتمان، الذي رشح نفسه لمنصب الحاكم.
في الوقت نفسه فإن آرثر تعلق بساكنة في البناية، هي الأم العازبة صوفي (زازي بيتز). يحصل آرثر على مسدس من زميله ويستخدمه في لحظة غضب، بعد أن يتعرض للتنمر والضرب من قبل ثلاثة رجال أعمال أثناء وجوده في قطار الأنفاق. وبمجرد توقفه عن تناول الأدوية يبدأ الجانب المظلم من شخصيته في الظهور، وتسيطر شخصية جوكر على بقايا آرثر المسكين.
يتحرر «جوكر» من كليشيهات أفلام قصة أصل الشخصية (محاولة اكتشاف شخصية قواها الخاصة، أو التعرض لحادث يؤدي إلى ذلك)، ويرسخ نفسه في قالب أفلام الدراما النفسية والتشويق. من السهل معرفة الفيلمين اللذين تأثر بهما فيليبس في رؤيته الفنية، وهما فيلما مارتن سكورسيزي الشهيران «تاكسي درايفر» 1976، و«ملك الكوميديا» 1982. ويشير فيليبس إلى الفيلمين من خلال وجود دينيرو في دور مذيع، وهو الذي أدى بطولتهما معاً.
من الصعب عقد مقارنات، خصوصاً بين رؤيتَي ليجر و فينيكس لـ«جوكر»، لأن الأول وكل سابقيه أدوا دور مجنون بلا تأسيس لحالة جنونه. بينما فينيكس هنا يؤسس حالة الجنون التي شاهدنا «جوكر» خلالها في السنوات الماضية.
الفيلم عنيف، لكن لم نرَ فيه تمجيداً للعنف، الغرض من العنف إحداث صدمة أكثر من محاولة تحقيق ارتواء لمتعطشي مشاهد الدم من الجماهير. لو قارنا الفيلم بـ«جون ويك» أو أفلام الرعب من نوع الذباح slasher، فإن عنف جوكر أقل بكثير، وعدد جثثه لا يزيد على خمس. لكن تأثير العنف شديد في النفس مع كل مشهد قتل، بسبب الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية.
أداء فينيكس رائع جداً، وتظهر عظامه بشكل مخيف بسبب فقدانه وزنه بسبب الدور، كما فعل كريستيان بيل في فيلم The Machinist عام 2004. لا ينسى فيليبس وضع مشهد مقتل والدَي بروس وين أمام عينه في نهاية الفيلم، وهو مشهد بداية قصة باتمان. أي أن جوكر يكمل دائرة القصة بربط قصته مع باتمان. هذا الفيلم متحرر تماماً من كل ما يربطه بقصص السوبر هيرو باستثناء أسماء الشخصيات.
يشير الفيلم إلى ظروف سياسية في القصة، مثل تقليص ميزانية تؤدي إلى إلغاء خدمات اجتماعية لمساعدة المرضى النفسيين، واهتمام الحكومة الأميركية بتعزيز مصالح الأغنياء على حساب الفقراء. وهذا انقلاب كامل على السياق السياسي لأفلام باتمان، التي ظهرت يمينية التوجه في ثلاثية نولان، أما «جوكر» فيميل إلى اليسار بتبرير جنوح جوكر إلى العنف، بتخلي الحكومة عن تلك الشريحة من السكان.
يذكر أن «جوكر» فاز بجائزة الأسد الذهبي (أفضل فيلم) في مهرجان فينيسيا السينمائي بدورته الأخيرة، وهو يستحق الترشح كأفضل فيلم، كما يستحق «فينيكس أوسكار» على أدائه الرهيب. لو فاز فينيكس فسينضم إلى ليجر ومارلون براندو وروبرت دينيرو في قائمة الممثلين الذين فازوا بأوسكار لتجسيدهم الشخصية نفسها، الأول والثاني أديا جوكر، الثالث والأخير فازا لتأديتهما شخصية فيتو كورليوني في فيلم «العراب».
المصدر: الإمارات الليوم