أمين صالح
ميكايل هانيكه واحد من الطاقات الخلاقة، في السينما العالمية المعاصرة، التي تبدع أعمالاً بارزة ومهمة، تثير الكثير من الخلاف والجدل، وتحفّز المخيلة، وتتحدى الذهنية التقليدية. أفلامه تسبر، بعمق وعلى نحو مثابر، حالات العزلة والغربة والانسلاب في الحياة الحديثة، إضافة إلى انهيار جسور الاتصال بين الأفراد، وتلاعب الميديا بالأفكار والمشاعر.. وذلك من خلال منظور وجودي، حيث تركيز البؤرة على أفعال ومبادئ الأفراد في عالم يبدو خاوياً.
بعد تجارب متميزة في مجاليّ المسرح والتلفزيون، خاض المجال السينمائي وهو في السابعة والأربعين بفيلمه الدرامي الطويل “القارة السابعة”The Seventh Continent (1989.. وهو عنوان غامض، ملغز، يحتمل أكثر من تأويل. جغرافياً، لدينا ست قارات. القارة السابعة قد تكون تلك غير المستكشفة، التي لا يمكن الوصول إليها.
الفيلم مبني على قضية حقيقية قرأ عنها في الصحف، عن عائلة صغيرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة تتألف من زوجين وابنتهما الصغيرة. العائلة كانت تعيش حياة هادئة، هانئة، في بلدة عادية. فجأة تقْدم على انتحار جماعي.
الأهالي رأوا في فعل الانتحار هذا عملاً يصعب احتماله ولا يمكن تصديقه، وأن مثل هذه العائلة الهادئة والمسالمة يستحيل عليها أن ترتكب مثل هذا الفعل الشنيع،لذلك طالبوا السلطات بالتحقيق والتحري في الأمر، لعل وراء ذلك شبهة جنائية، غير أن الجهات الرسمية لم تتوصل إلى ما يخالف فكرة الانتحار، خصوصاً وأن الأب أشار إلى فكرة الانتحار بوضوح في رسالة له موجهة إلى والديه، وشرح عملية التخطيط، متطرقاً إلى الواقع المعاش الذي صار ضاغطاً وكابحاً ولا يطاق.
الصحفي، الذي نشر الحادثة في المجلة الألمانية الأسبوعية شتيرن، قدّم للقراء شروحات وايضاحات، تيسّر له الحصول عليها، بشأن سلوك العائلة، ضغوط العمل، الخلافات الزوجية، الأزمات الاجتماعية.. الخ. لكن ليس لهذه الأسباب اهتم هانيكه بمعالجة القصة سينمائياً، وإنما لأنها تتخطى وتسمو فوق مثل هذه الاستنتاجات أو الحجج والبراهين.
في مقابلة مع المخرج هانيكه يوضح أن دافعه لتحقيق هذا الفيلم هو أن يضع لغز الحدث الواقعي، الذي منه استمد الفيلم، في خدمة نقده للمجتمع المعاصر.
يقول هانيكه (في حوار مع سكوت فاونداس، ديسمبر 2001): ” ما أثار اهتمامي حقاً، ليس أن هناك عائلة ارتكب أفرادها الانتحار، لأن هناك، للأسف الشديد، الكثير من تلك العائلات. لكن ما كان ملفتاً هو أن هناك عائلة قررت الانتحار، وقبل أن تفعل ذلك، دمّر أفرادها كل ما يملكون. لقد رأيت في ذلك مجازاً جيداً لوضعنا”.
البرود العاطفي وخواء الوجود
الفيلم هو الجزء الأول من ثلاثية مكرّسة لعرض “الفتور العاطفي”. وهانيكه يقدّم الثلاثية بوصفها “تحرّياً في البرود العاطفي العدواني السائد في بلادي”. الثلاثية تركّز بؤرتها على: التلاعب الذي تمارسه الميديا (وسائل الاتصال) الجماهيرية، الانسلاب الشخصي والاجتماعي وإحساس الفرد بالغربة، العنف الذي لا يمكن التحكم به.
هانيكه يبني قصته على نحو غير متماسك عبر مشاهد تظهر الطقوس اليومية، الأفعال الروتينية، التي تمارسها الشخصيات. إنه يستخدم ما هو تقليدي في الشكل والتقنية والبناء، ومن خلال ذلك يضع المتفرج الذي اعتاد على تقاليد السينما الاستهلاكية في حالة من الارتباك حيث لا يجد المنافذ المألوفة والمريحة بشأن فهم الشخصيات وأسبابها ودوافعها.. إذ عوضاً عن الوضوح يجد نفسه أمام غموض يتعين عليه إزاءه أن يشغل تفكيره ومخيلته لفك بعض مغاليق الحالات.
حتى من الناحية التقنية، اعتاد المتفرج أن يفهم من الـ fade،أي الاختفاء التدريجي للصورة، على أنه يتضمن معنى مرور الزمن أو الانتقال في الزمن، بينما يستخدم هانيكه هذه التقنية لربط أفعال تحدث في مساحة قصيرة من الزمن، أو أفعال متوازية. وبالنسبة للعائلة، تفيد هذه التقنية في إظهار عادية ورتابة وخواء وجود العائلة، الوجود الذي يكاد يخلو من الاختلاف والتنوع، فالأيام تتشابه، ولا جديد يحدث. في الواقع لا شيء يحدث. نحن لا نجد أنفسنا أمام وضع غير عادي أو مألوف، أو مواجهة ما مع طرف مضاد. الأمور تسير بشكل طبيعي وروتيني. الأفعال اليومية – من الاستيقاظ من النوم، والاستعداد للذهاب إلى العمل أو المدرسة إلى تناول العشاء – تتسم بالتكرار والآلية، وهي مصوّرة في لقطات معزولة ومحكمة، لقطات قريبة في الأغلب.
بعيداً عن السيكولوجيا
هانيكه، في كل أفلامه، لا يريد أن يحقق أفلاماً سطحية أو هروبية، تريح الجمهور وتطمئنه وتفكر نيابةً عنه وتؤكد له أن كل شيء على ما يرام. أفلامه تتحدى المتفرج، تستفزه، تستثيره.. يقول في إحدى لقاءاته: “أريد أن أرجّ الناس وأخلّصهم من حالة اللامبالاة وفتور المشاعر”. يريد أن ينتزع من الجمهور إحساسهم بالرضا بشأن العيش في العالم الحديث حيث الإنسان يهمل، أو ينكر، تلك القوى الجوهرية، الأساسية، الكامنة في ذاته الباطنية فتتحوّل إلى قوى تدميرية.. يريد أن يفعّل طاقات جمهوره.
هانيكه يزودنا بالظروف التي فيها يحدث الرعب، لكنه لا يحدّد هذا الرعب ولا يقدّم تحليلاً سيكولوجياً للحالات التي يعرضها، ولا يشرح لماذا وكيف. هو ينجح في تحويل المتفرج من متلق سلبي إلى مشارك فعال، إذ يصعب عليه أن يحافظ حتى على حياديته وهو يرى أمامه تجربة عميقة، صادمة، قد لا تتماثل مع تجاربه الخاصة لكنها تترك أثراً في نفسه لصدقيتها، وقد تحاكي مشاعر دفينة أو تستحضر تجارب شخصية أو تحرّض على اتخاذ قرارات أو مواقف بشأن حالات مماثلة لما يراه على الشاشة.
فيلم “القارة السابعة” يبدأ بلقطات قريبة لسيارة العائلة في محل لغسل السيارات بطريقة آلية، ثم تنتقل الكاميرا إلى داخل السيارة، وفي لقطة طويلة long takeمتواصلة دونما قطع، مع نزول أسماء العاملين في الفيلم، نرى أفراد العائلة من الخلف جالسين في صمت تام. لا نرى وجوههم ولا نسمع لهم صوتاً. بعد أن تنتهي الأسماء، وينتهي الغسل، تتحرك السيارة مارة بإعلان سياحي ضخم عن أستراليا.
هذه الافتتاحية، حسب تحليل الناقد الأميركي أدم بينجهام، يمكن اعتبارها مجازاً لوضع العائلة: محاصرة بداخل السيارة، التي تبدو أشبه بقفص أو زنزانة، وهم يتحركون ببطء وبصمت وعلى نحو آلي عبر الحياة، والإعلان السياحي بمثابة حلم في هرب مستحيل.
رتابة الحياة العائلية
الفيلم يغطي السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عائلة نمساوية عادية، لا شيء يميّزها عن غيرها من العائلات، كما إنها لا تختبر أحداثاً استثنائية غير عادية، فلا شيء مثير يحدث لها. السنوات تمر على نحو سريع على العائلة التي يرصدها الفيلم وهي تمارس روتينها اليومي في البيت والعمل والمدرسة أو وهي تتسوق وتنجز مهماتها.
العائلة بورجوازية نموذجية، مؤلفة من الزوج جورج (ديتر بيرنر) وزوجته أنّا (بيرجيت دول) وابنتهما الصغيرة إيفا، تعيش في بلدة اعتيادية، هادئة، غير متميّزة بصورة استثنائية. أفراد العائلة يتحركون في مناخ يسوده الصمت، وانعدام الاتصال في ما بينهم أو مع الآخرين. وهم عاجزون عن التعبير عن مشاعرهم. ولا يبدو أنهم يستمتعون بالحديث فيما بينهم.. حتى وقت تناول الطعام معاً. والأسوأ من ذلك أنهم لا يُظهرون فيما بينهم مشاعر الحب والتآلف.. مشاعرهم فاترة ومحجوبة، يغلب عليها التحفظ والتكتم. ثمة حواجز بينهم تفصلهم وتعزلهم، وهم لا يسعون إلى اختراقها وتحطيمها ليتصلوا فيما بينهم. لذلك هم عاجزون عن إدراك معاناة وآلام بعضهم البعض.
العائلة لا تبدو في أزمة مادية أو أنها تعاني من محن ومشاكل، بل تظهر وهي تعيش في مستوى جيد ووضع مريح. غير أنها تعيش حياة غير متميزة، غير مثيرة للإهتمام، تكرارية، بليدة، رتيبة، محكومة بالسلوك الآلي.العائلة كما يُظهرها الفيلم: سطح هادئ، منظم. تركيز البؤرة على تفاصيل الحياة اليومية.
لا أحد يقترب من الآخر
الزوج (جورج) مهندس. طموح في عمله، يميل إلى أن يتقدم على أقرانه وأن يحقق النجاح تلو النجاح، أن يكون الأفضل والأنجح والأكثر استحقاقا للمكافآت والترقيات. لكن ثمة عدة لقطات مديدة متصلة دونما قطع تُظهره يسير في موقع عمله وهو في عزلة تامة. العزلة تفضي به إلى الإحساس بالغربة والتي بدورها تؤدي إلى اليأس والنزوع إلى التدمير الذاتي.
الزوجة بائعة نظارات وأدوات بصرية. هي لا تختلف عن زوجها، لكنها تكبح في داخلها حزناً لا تريد التعبير عنه. في أحد المشاهد، أثناء غسل السيارة، هي تنهار فجأة وتنخرط في البكاء، لسبب غير معلوم.
طفلتهما تشكو إلى معلمتها عن أعراض جسدية (ناشئة عن اضطرابات عقلية أو عاطفية) تجعلها تقوم بحك جلدها على نحو متكرّر، أو تدّعي العمى، لكن بدلاً من التعاطف والدعم العاطفي، فإن المعلمة تخبرها أن ذلك مجرد وهْم، أما أمها، عندما تستجوبها بشأن تظاهرها بالعمى، فإنها تعدها بأنها سوف لن تعاقبها إن اعترفت بأنها تتظاهر، لكن ما إن تعترف الصغيرة حتى تصفعها الأم.
إن ما تفعله الصغيرة من تظاهر وادعاء بالمرض أو العمى ما هو إلا محاولة للفت الأنظار، وكنوع من التعبير عن وحدتها، غير أن الآخرين، الأم والمعلمة، لا تفهمان ذلك بل تحاولان إقناعها بأنها تتوهم، وعندما لا تقتنع تتعرّض للعقاب. الصغيرة تشعر بالوحدة، وبأنها سجينة، وأن أحداً لا يفهم احتياجاتها، لا في البيت ولا المدرسة.
في الدقائق العشر الأولى من الفيلم لا نرى أفراد العائلة (الذين يصحون من نومهم على صوت المذيع وهو يقرأ نشرة الأخبار عن التوترات والعنف في الشرق الأوسط) إلا من خلال أطراف من أجسامهم، نرى ظهورهم، أياديهم، أقدامهم، أعناقهم، لكن ليس الوجوه. إنهم يمارسون الفعل اليومي بشكل روتيني: الاستيقاظ من النوم صباحاً، إعداد الفطور، وضع أوراق في حقيبة جلدية، إطعام السمك في الحوض، انفتاح باب المرأب.
الشخصيات ليست شخصيات تنمو، بل هي منغلقة، نائية، كل منها تعيش في قوقعة خاصة. ولأننا، كمتفرجين، لا نعرف إلا القليل عن هذه الشخصيات، ولا نتعرّف على مشاعرها، فإننا نحتفظ بمسافة بيننا وبينها. ومثلما هناك حواجز بين شخصيات الفيلم، كذلك هناك حواجز بين المتفرج والشخصيات. هذا يخلق عند المتفرج حالة متوترة وشعوراً مثيراً للأعصاب.
هانيكه لا يتخذ موقفاً من شخصياته، لا يحاكمها، لا يتعاطف معها ولا يدينها. إنه يحاول أن يعرضها بموضوعية، وفي حياد تام. تاركاً للمتفرج حرية الاستنتاج، وأن يربط بين الأحداث والعلاقات، وأن يشارك في إيجاد المعنى النهائي للفيلم. يقول هانيكه: “بإمكاني أن أقود الشخصية في القصة بحيث لا تعطي خلاصة سلوكها تفسيراً وافياً لقراراتها. يتعيّن على الجمهور أن يجد ذلك التفسير”.
البيت بوصفه ملاذاً أو سجناً
المجتمع النمساوي يظهر هنا في صورة سلبية، فاقداً الحساسية والشعور بالانتماء وروح التعاطف بين أفراده، والإحساس بالآلام الداخلية التي يعاني منها الآخرون.. كما في حالة الطفلة التي تعاني من العمى المتخيّل وهرش الجلد.
وسط تخمة أو إفراط في السلع الاستهلاكية والرفاهية، يعيش الفرد حالة من المجهولية والفتور والاغتراب والعزلة. الأفراد يتجولون هنا وهناك بلا هدف ولا دافع، متنقلين من البيت – الملاذ الذي يمكن أن يكون سجناً أيضاً – إلى مواقع مألوفة لكنها لا تضمن الأمان. إنه عالم فارغ، وجود خاوٍ يهشم الروح. ومن هذا العالم تنسحب العائلة، مفضّلة الانتحار على العيش في مجتمع بورجوازي متوحش، مضاد لكل ما هو إنساني.
دمّر ما يدمّرك
هذه العائلة تختار، في هدوء وإذعان تام، الانتحار الجماعي بدلاً من الاستمرار في العيش في رعب الحياة اليومية، الخاوية والعقيمة، الخالية من المعنى، وداخل عالم يفرض الاستلاب والغربة على الأفراد، مع إحساس طاغ بالعبث واللاجدوى والتفاهة.
في لقطات قريبة وسريعة الانتقال، نرى الأب والأم(بالأحرى نحن لا نرى غير أيديهم فيما)يقومان، بطريقة آلية، بتمزيق الثياب والستائر والدفاتر المدرسية والصور وأقمشة الأرائك، بتهشيم الأسطوانات، تحطيم الطاولات والكراسي، تخريب وتدمير كل قطع الأثاث ومحتويات الشقة، التخلص من أموالهم برمي الأوراق النقدية في المرحاض. وعندما يتهشم حوض الأسماك وتتخبط الأسماك حتى تخمد حركتها وتموت، تبكي الصغيرة حزناً.
بتدميرهم لكل مقتنياتهم الدنيوية يبدون كما لو يحرّرون أنفسهم من كل القيود التي فرضها عليهم المجتمع، من كل رباط أو علاقة بالواقع. هذه المقتنيات والممتلكات (من ثياب وأثاث وصور ونقود) لم تعد تعني لهم شيئا، ولم يعد لها قيمة.
التدمير ليس عشوائياً أو مفاجئاً. تلك الأشياء، التي ناضلوا من أجل الحصول عليها، ودفعوا الكثير مقابل امتلاكها، سلبت منهم راحة البال، ولم توفر لهم البهجة والوحدة العائلية.
يقول هانيكه (في حواره مع سكوت فاونداس): “هناك الكثير من الأفلام، وأغلبها مجرد إعادة تدوير لما سبق وجوده هناك. ليس ثمة حاجة لأن تكون شخصاً آخر يكتفي بتدوير وتكرار ما هو موجود. الفيلم يحاول أن يُظهر بأننا ضحايا للبُنى التي شيّدناها، ضحايا بيئتنا ومحيطنا. وكل الأشياء، من مقتنيات وموجودات، هي مجازات لتلك البُنى”.
في إحدى حواراته يلاحظ هانيكه أن المتفرجين، إزاء مشهد تدمير الشقة، تأثروا بلقطة تدمير حوض الأسماك ورمي النقود في المرحاض أكثر من اللقطات التي تظهر انتحار العائلة، فيقول: “أينما عرضنا الفيلم، كنا نسمع شكوى الجمهور واستياءهم من اللقطات التي تُظهر التخلص من المال لأن هذا من أكبر المحرّمات. إن قتل الآباء لأبنائهم وقتل أنفسهم أهون، وأقل إزعاجاً، من رؤية تدمير المال. مثل هذا الفعل يُعد محرّماً في مجتمعنا”.
بعد تدمير الأشياء، يُقْدمون على إنهاء حياتهم بتناول جرعات مفرطة من الحبوب المنوّمة. العائلة تحتضر، وتموت ببطء، بينما هم جالسون على الأريكة، يشاهدون التلفزيون ويتنقلون، عبر الريموت كونترول (جهاز التحكم عن بعد)، من محطة إلى أخرى، حتى تستقر على أغنية “قوة الحب” فيما يفارقون الحياة.
إن هانيكه لا يسعى إلى تفسير الحالة النفسية أو المرَضية التي ألمّت العائلة،بل يترك هذا لتقدير المتفرج وتأويله الخاص للدوافع والأسباب.
يقول هانيكه: “أحاول أن أحقّق أفلاماً مضادة لتلك الأعمال السيكولوجية، مع شخصيات هي بالأحرى إسقاطات تطلع إلى السطح ليشتغل عليها المتفرج بوعيه وحساسيته.
المساحات الفارغة ترغم المتفرج على جلب أفكاره ومشاعره الخاصة إلى الفيلم. ذلك هو ما يجعل المتفرج منفتحاً على حساسية الشخصية”.
هانيكه يتيح مساحة للمتفرج لكي يملأ الفراغات ويوصل ما انقطع من علاقات، ويستل استنتاجاته واستدلالاته. المتفرج هو الذي يخلق المعنى.
ليس في الفيلم مشهد واحد فيه تجتمع العائلة وتتحدث عن الانتحار. هانيكه يريد أن يقول لنا أن ليس كل شيء قابلاً للفهم أو التفسير. هناك إحساس بالوهن والكآبة والعزلة نصادفه عند أفراد العائلة، من دون توفّر أسباب وافية، وأفعالها تبدو غامضة وفجائية وصادمة، من دون توفر دوافع مقنعة. الزوج في رسالته يقول “لا شيء هنا يغرينا على البقاء”.ربما يجدون في الموت ما لم يجدوه في الحياة.
في حديثه عن الفيلم يقول هانيكه:
“الفيلم هو عن حياة جورج، زوجته أنّا، وابنتهما إيفا، على مدى ثلاث سنوات. إنها قصة مسيرة مهنية ناجحة، قصة ثمن الامتثال والخضوع، قصة قصر النظر الذهني، قصة العائلة، وقصة العواقب المعاشة”.
حوار مع ميكايل هانيكه عن فيلم “القارة السابعة”
أجراه: كريستوفر شاريت، ونشر في:
Real Time, issue 53, Feb. Mar. 2003
-أعمالك هي نقد متواصل للحضارة الغربية الراهنة.
- أعتقد بإمكانك أن تتبنى مثل هذا التأويل، لكن كما تعلم، يصعب على الفنان أن يقدّم تأويلاً لعمله. أنا لن أعترض أبداً على هذه الرؤية، لكنني شخصياً لا أهتم بتقديم تأويل ذاتي.
- أنا مهتم بإحساسك بالمنظر الطبيعي الحديث، خصوصاً صورك لفن العمارة والتكنولوجيا. في فيلم مثل “القارة السابعة” منظر المدينة يبدو مغرياً ومهلكاً في آن.. ويقترب من تصوير أنتونيوني للمدينة.
- أظن أن هذا المنظر الطبيعي يعمل في كلا الشكلين اللذين ذكرتهما. ليس في وارد اهتمامي أن أشجب التكنولوجيا، وإنما أن أصف الوضع في المجتمع الصناعي. بهذا المعنى أفلامي معنية كثيراً بالمأزق الخاص بهذا المجتمع، المجتمع الأوروبي، أكثر من العالم الثالث. أفلامي بالتالي موجهة، بدرجة أكبر، إلى الجمهور الذي هو جزء من الأوضاع الاجتماعية في المجتمع الغربي. لأكون دقيقاً أكثر، أنا لا أستطيع أن أتعامل إلا مع العالم الذي أعرفه. فيما يتصل بأنتونيوني، أنا معجب كثيراً بأفلامه.. لا شك في ذلك.
- في “القارة السابعة” هناك استخدام ثري للتلفزيون وموسيقى البوب في اللحظات التي تسبق مباشرة الجريمة أو الانتحار. العائلة تشاهد فيديو الروك بعنوان “قوة الحب” على شاشة التلفزيون فيما هم جالسون في الشقة المدمّرة. ثمة إحساس بالأغنية كإلتماس حقيقي، بالإضافة إلى عدم ملائمة الثقافة الشعبية.
- طلبت من المنتج أن يوفّر لي نماذج معينة من الأغاني، لكن مسألة حقوق المؤلف حالت دون ذلك.. لذلك اخترت أغنية، أو بالأحرى، سلسلة من الأغاني التي راقت لي، ليس بسبب النص فقط، لكن بسبب حالة عاطفية معينة.
- هناك قطعة موسيقية أخرى مثيرة للإهتمام في “القارة السابعة”، حيث تستخدم كونشرتو ألبان بيرغ (المؤلفة في 1935)، والذي تتم مقاطعته فجأة عندما نرى الصغيرة تراقب السفينة وهي تعبر بينما والدها يبيع سيارة العائلة. يبدو أن الصغيرة هنا تمتلك رؤية ليوتوبيا لا تستطيع عائلتها أن تدركها.
- بوسعك أن تفسر الأمر بهذه الطريقة، أو ببساطة تنظر إلى الصغيرة وهي تراقب السفينة باعتبارها لحظة عادية جداً. بالطبع، اختيار مقطوعة بيرغ لم يكن اعتباطاً أو عن طريق الصدفة. هناك أيضاً تضمين لكورال باخ والذي يمكن أن يكون شعاراً للفيلم كله.
- في الفيلم ذاته، سلسلة من اللقطات تُظهر الزوجين وهما يدمران الشقة، وهذا ذكّرني بنهاية فيلم أنتونيوني “نقطة زابريسكي”Zabriskie Point (1970). لقطات تدمير الأثاث تبدو جميلة، لكن ثمة رعباً وألماً حقيقياً أيضاً في الفعل. الألوان، هنا وفي مواضع أخرى في الفيلم، تبدو رائعة.
- أنا مندهش بعض الشيء من عثورك على الجمال في هذه اللقطات المتتابعة. بإمكانك أن تنظر إلى ظاهرة تدمير المرء لمحيطه الخاص من خلال المفهوم الألماني، الذي في الترجمة يعني “دمّر ما يدمّرك”. يمكن أن يُرى هذا كتحرير. لكن الطريقة التي صُوّرت بها اللقطات هي بالأحرى النقيض من ذلك. الزوجان ينفذان التدمير بالدقة المحدودة ذاتها التي بها هما عاشا حياتهما. لذلك أرى هذا كنقيض الرؤية في التدمير الشامل في فيلم أنتونيوني. لقد أردت أن أصور مشهد التدمير كشيء لا يطاق. وكل هذا العمل الشاق الذي بُذل في التدمير يسبق التدمير الذاتي.
فيما يتعلق بالألوان، كنت دائماً أجرّب الألوان الباردة، المحايدة. في (القارة السابعة) تتركّز جماليتي، في المقام الأول، على اللقطات القريبة، والتوكيد على الوجوه والأشياء المكبّرة. من منطلق جمالي، يمكن القول بأن الكثير من الفيلم يشبه الإعلان التجاري التلفزيوني. شخصياً لديّ الكثير من التحفظات بشأن التلفزيون، لكن رأيت أن أستفيد من أسلوبه هنا. لو حققنا الفيلم للتلفزيون لمني بفشل ذريع، من وجهة نظري. لكن في المحيط السينمائي، اللقطات القريبة للحذاء أو مقبض الباب تكتسب حساً مختلفاً تماماً عن اللقطات المماثلة في التلفزيون، حيث ذاك الأسلوب هو المعيار. هذا كان اختياراً واعياً جداً بما إنني لم أرد أن أوصّل صور الأشياء فحسب، وإنما موضوعية الحياة.
المصدر: موقع عين على السينما