سوليوود «بيروت»
شهدت السينما المصرية في السنوات الأخيرة تراجعاً و”انسحاباً” كبيراً، سواء كحضور في وعي المُشاهد العربي أو كتأثير في صناعة الصورة على امتداد الشرق الأوسط.
هل من سبب أو أسباب واضحة وصريحة لهذه الأزمة؟ أهو النظام السياسي الذي يحاول كمّ الأفواه والسيطرة على مجمل النتاج البصري في واحدة من أولى الدول التي تولّت إنتاج الأفلام؟ أهي أزمة اجتماعية كاملة الأركان؟ أتشمل السينما التجارية أم أنها حكر على سينما المؤلف؟ وهل خسرت مصر دورها الريادي في هذا المجال، مع صعود نجم سينمات اخرى في بلدان عربية مجاورة؟ باختصار: هل يُمكن الزعم ان السينما المصرية انتهت، أقله كما عرفناها عبر تاريخها المجيد، أي صاحبة سلطة ثقافية ورصيد فنّي وصدقية اجتماعية في العالم العربي؟
حملنا هذه الأسئلة والاشكاليات إلى ١٢ ناقداً من ٦ بلدان عربية، مع الحرص على افساح المجال الأوسع لنقّاد مصر. اخترنا أسماءً من خلفيات وتجارب وأجيال مختلفة. جاءت المداخلات متنوعة، تتحاور في ما بينها وتردّ بعضها على بعض ضمناً، تتقاطع مرات وتتناقض مرات اخرى في النظرة الملقاة على المسببات والنتائج.
“ملف السينما المصرية” هذا أردناه تشريحاً للأزمة وشروعاً في نقاش عن أحوال شاشة لها تاريخها ودورها وقاعدتها الجماهيرية.
أمجد جمال: النظام السياسي ليس عائقاً كبيراً
“خلافاً لكلّ سينمات المنطقة العربية، انفردت السينما المصرية في كونها تجمع بين الفني والتجاري (الجماهيري). ما تراجع بشكل محسوس هو السينما ذات الطابع الفني، أو ما كنا نطلق عليه “السينما المستقلة”، تلك السينما لم تعتمد في السابق بشكل أساسي على الدعم الحكومي أو المنح الثقافية كمثيلاتها في تونس وفلسطين ولبنان، بل جاءت نتيجة (أو رد فعل على) الطفرة التي شهدتها السينما التجارية في نهاية التسعينات وبداية الألفية. السبب الرئيسي في صعود السينما الفنية المصرية وازدهارها في السنوات الماضية كان النجاح الموازي للسينما التجارية التي استطاعت أن تدر أرباحاً ضخمة للاقتصاد السينمائي المصري في العقد الأول من الألفية، فاستفادت التجارب الفنية من فائض هذا الربح. وُجد مَن يخاطر لأن ثمة أفلاماً جماهيرية اخرى تستطيع تعويض أي خسارة. فنانون كانوا يحققون الأرباح من السينما الجماهيرية ليدعموا بدورهم السينما المستقلة، أو حتى كان لديهم رفاهية التنازل عن أجورهم في تلك الأعمال، وتعويضها بأعمالهم التجارية. الا ان الأمر تغيّر مع الهزة التي شهدتها السينما التجارية المصرية بعد ثورة يناير والكساد الذي تبع ضرب الموسم الصيفي بسبب وقوع شهر رمضان في منتصف الموسم الذي اعتاد أن يمثّل فترة الرواج الأكبر.
هناك أمثلة عدة على ارتباط السينما المستقلة بنجاح السينما التجارية. آخر ثلاثة أفلام أخرجها يسري نصر الله أنتجتها شركات “ألباتروس” و”دولار فيلم” وشركة سبكي. آخر فيلمين أخرجهما داود عبد السيد أنتجتهما شركة “نيو سنتشري” و”الشركة العربية”. هذه الشركات كلها كانت تخصصت أساساً في إنتاج السينما التجارية (وبعضها وصل إلى درجة الهبوط والإسفاف)، لكنها كانت دائماً مستعدة للتضحية بموازنات متوسطة للمخرجين المؤلفين طالما يُمكن استرداد الخسارة، أو تحقيق نجاح محدود. هذا أقرب إلى نظام تكافلي.
“أخضر يابس” لمحمد حامد.
تستعيد الآن السينما التجارية عافيتها، وعادت بقوة في هذا العام. لو تحدثنا بلغة الأرقام، فحتى شهر آب وقبل انتهاء العام ببضعة أشهر، استطاعت أربعة أفلام أن تكسر حاجز الخمسين مليون جنيه (“الممر”، “كازابلانكا”، “الفيل الأزرق ٢”، “نادي الرجال السري”)، فيلمان منها تجاوزا السبعين مليون جنيه، ومن المرشح أن يضاف اليها فيلم خامس في الأسابيع المقبلة هو “ولاد رزق ٢”. هذه أرقام قياسية لم تتحقق من قبل، وتبشّر بعودة سريعة إلى أمجاد الماضي القريب. الجدير بالذكر أن فيلمين فقط في ٢٠١٨ كسرا حاجز الـ٥٠ مليون جنيه، وكذلك في ٢٠١٧، وهذا يعني أن إجمالي دخل السينما المصرية في ٢٠١٩ في طريقه لأن يتضاعف مرتين أو ثلاثاً على الأقل مقارنةً بسنوات الكساد الأخيرة التي أعقبت الثورات. هذا الصعود التجاري سينعكس كالمعتاد على السينما الفنية. فهي عائدة، وأنا متفائل.
إن كان النظام السياسي عائقاً أمام السينما السياسية، فما هو عذر بقية الأنواع الفيلمية؟ أعتقد أن النظام السياسي ليس عائقاً كبيراً أو سبباً مباشراً في حال التراجع. ففي كلّ العصور تعرض السينمائيون المصريون لأشكال متفاوتة من التضييق. هذا الجيل ليس بالاستثناء، ودائماً هناك طريقة للتحايل وترويض القبضة المتسلطة، أو حتى عقد الصفقات واجراء التوازنات. التاريخ يؤكد أن أكثر فترات السينما المصرية تحرراً على المستوى السياسي كانت النصف الثاني من العقد الأول من الألفية الحالية، حيث أُنجزت أفلام من المستحيل أن نتخيل بمثل جرأتها اليوم. اللافت أن تلك الحرية النسبية الموقتة لم ينتج منها تحف فنية! في سياق متصل، إن كان السينمائيون يعانون الآن أزمة حرية فهي تكمن في انسحاقهم الطوعي والتملق للمزاج الديني المحافظ والقيم الرجعية المتصادمة بشكل مباشر مع نمط حياة هؤلاء الفنّانين. لستُ ممن يفضّلون فرض الأولويات على الآخرين أو إلزامهم مواضيع معينة، لكنيشخصياً أرى ان استخدام السينما لمعارضة النظام السياسي نوع من النضال العشوائي أو المجاني، في وقت تعجز فيه عن مواجهة مَن يتنمّرون على صورك العائلية ونمط حياتك عبر “إنستغرام”.
أعتقد أن السينما المصرية لم تفقد دورها ولم تنتهِ، لأن تأثيرها الفعلي عبر التاريخ كان تأثيراً جماهيرياً لا نخبوياً. مَن شاهد أفلاماً من تمثيل عادل إمام من المحيط إلى الخليج أضعاف مضاعفة مَن شاهد أفلام يوسف شاهين”.
أمل الجمل: الإبداع لا تقهره الأنظمة الديكتاتورية
“بدايةً، لا أعتبر بالضرورة المشاركة السينمائية في المهرجانات الكبيرة مقياساً ودليل نجاح أو تقدّم لسينما أي بلد. المشاركة في مرات غير قليلة تخضع لظروف معينة أغلبها سياسي، إيديولوجي، أو تضامناً مع أفكار نسوية، أو انتصاراً لقضايا الأطفال والمنبوذين. أفلام مصرية قوية لم تتمكن من المشاركة في المهرجانات المهمة. في المقابل، أفلام اخرى ساعدتها الظروف في ذلك.
تقول إن السينما المصرية في تراجع كبير في السنوات الماضية. من وجهة نظر صناعية، هذا التوصيف لا يُعتبر صحيحاً. هناك طفرة في أنواع سينمائية كانت نادرة وشحيحة سابقاً، مثل أفلام الرعب والأفلام البوليسية. هذا نوع لا يُمكن تجاهله. وإن كان هناك تراجع، فالموضوع غير مرتبط بأسباب سياسية، حتى وإن وجدت. فالتاريخ يشهد أن الإبداع لا تقهره الأنظمة الديكتاتورية، بل على العكس، الإبداع الحقيقي يفجّره الكبت والقهر.
لماذا أخرج فيلم محمد حماد، “أخضر يابس”، بهذه الجمالية الفنية والتعبيرية القوية والرمزية الجريئة؟! فيلم حماد يتجاوز “يوم الدين” أهميةً، لكنه لم يُعرض في كانّ أو برلين أو فينيسيا. لم ترشّحه لجنة بلده للأوسكار؟ لماذا؟ إنها الشللية والمصالح.
“آخر أيام المدينة” لتامر السعيد.
المأزق الذي يواجهه مخرجو سينما المؤلف في مصر هو أن المبدع منهم يحتاج إلى سنوات لينجز فيلمه. حتى في السينما الغربية هناك سنوات فيها طفرة كمّاً وكيفاً وسنوات تعاني القحط. لكن هذا القحط ليس دائماً قحطاً حقيقياً، لأنه يُمكن اعتباره فترات كمون زائف، ذلك ان المبدع يكون في مرحلة إنتاج عمله، أو في فترة الحمل الإبداعي إن جاز التعبير. المأزق الذي تعاني منه السينما المصرية المختلفة عن التجاري والسائد، هو نقص التمويل ونقص دعم الدولة. لدينا مخرجون واعدون، لكنهم يضطلعون بدور الباحث عن الأموال، فيقضون خمس أو ستّ أو حتى عشر سنوات لإنجاز فيلم واحد وحيد، بدل إنجاز فيلم كلّ عام. هل تتخيل كيف ستكون حال السينما المصرية لو كان هناك دعم من الدولة لمثل هؤلاء؟ أليس هذا إهداراً لطاقات؟ أين محمد حماد منذ “أخضر يابس”؟ أين نادين خان منذ فيلمها الأول؟ أين تامر السعيد بعد فيلمه المختلف والمغاير تماماً؟ أين داود عبد السيد الذي في حوزته سيناريوات عدة جاهزة؟ أين يسري نصرالله، وهل سيكتفي بالمشاركة في لجان التحكيم والتكريمات؟ أين عاطف حتاتة، صاحب أهم فيلم في تاريخ السينما المصرية، “الأبواب المغلقة”، عن الإرهاب الذي يستقطب المراهقين ويحوّلهم قنابل موقوتة في صدر الوطن؟
ظهور نماذج أفلام سينمائية من بلدان عربية شقيقة لا يُشكّل حركة سينمائية قوية أو اتجاها سينمائيا. هذه مجرد أفلام. حالات فردية. تم الترحيب ببعضها دولياً لأسباب سياسية. السينما السورية خير دليل. فيها أفلام ضعيفة جداً فنياً تم التهليل لها لأنها تنتقد النظام السوري. ولا يمكن لهذه النماذج أن نعتبرها قد سحبت الريادة من السينما المصرية. لأن هذه الدول لا تمتلك أصلاً صناعة سينمائية، ولا يمكن مقارنتها بمصر رغم أحوال السينما ومشاكلها في أرض الكنانة. ثم إن ظهور نجوم لا يلغي النجوم القدامى، يمكن للجميع أن ينوجد. كلّ بشكله وتنويعاته. القمّة واسعة تحتمل الكثيرين.
السينما الوحيدة التي أعتبرها تفوقت بحق على السينما المصرية هي السينما الوثائقية اللبنانية. أراها حققت طفرة لافتة ومدهشة. هي الوحيدة التي أراها وقد تجاوزت السينما المصرية، وإن كان “رمسيس راح فين؟” لعمرو بيومي أثبت انه لدينا مواهب كما في لبنان، لكن لا يزال ينقصنا تشكيل هذا التيار اللافت”.
أحمد شوقي: الوضع لا يُمكن أن يستمر
“أزمة السينما المصرية حالياً هي تحولها صناعتين متوازيتين لا تكادان تلتقيان. اذا سألتَ منتجي السينما السائدة وموزّعيها، فسيخبرونك بأننا نعيش لحظة ازدهار؛ الأفلام صارت تجمع ما يزيد على أربعة وأحياناً خمسة ملايين دولار من إيرادات السوق المحلية فقط، ناهيك بالتوزيع الخارجي، ولا تزال بشكل ما مطلوبة من المحطات الفضائية العربية بأسعار تفوق أسعار أفلام عربية أخرى. في المقابل، سيروي صنّاع السينما المغايرة والفنية والمستقلّة حكايات نقيضة، عن المعاناة التي تصل حدّ التسول من أجل تجميع مبالغ ضئيلة لموازنة أفلامهم التي يشارك معظمها في مهرجانات دولية متفاوتة القيمة، قبل أن تنتهي بها الحال في عروض محلية محدودة النجاح والتأثير، من دون أي اهتمام من المحطات التلفزيونية التي إن اشترت فيلماً من هذا النوع فتفعل ذلك كجزء من صفقة فيها أفلام عدة من السينما السائدة.
الكارثة هي أن هذا الوضع لا يُمكن أن يستمر، فصنّاع السينما السائدة المنتشون بالنجاح الكبير لا يدركون أنهم صاروا راضين بجمهور درجة ثانية ـ وأحياناً ثالثة ـ من العالم العربي، وأن الشاب الأردني أو الجزائري أو حتى الخليجي الذي يمتلك حداً أدنى من الثقافة والانفتاح على العالم، لم يعد تعنيه مطاردات عز والسقا ونكات هنيدي وسعد، وأن الاهتمام المستمر بالقصور الذاتي سيأتي يوم ويتوقف ونجد أن المواهب التي كان في امكانها أن تُقدّم سينما حقيقية، تواكب الطفرة الحاصلة في دول مثل تونس ولبنان والمغرب وفلسطين، ولن نقول تواكب العالم المعاصر لأن ذلك يبدو حلماً بعيد المنال!
“ورد مسموم” لأحمد فوزي صالح.
أؤمن بأن الأزمة إنتاجية. بلد في حجم مصر لا يزال في امكانه تقديم عشرات المواهب السينمائية، وإن تكن معايير العالم المعاصر والمنافسة الإنتاجية في المنطقة قد اختلفت. لكن المواهب لا تظهر من العدم، والوضع الإنتاجي الحالي يكاد يستحيل أن يدعم ويقدّم مواهب إخراجية حقيقية إلا في ما ندر. لا يوجد حلّ في امكانه تحقيق نتائج سريعة سوى تأسيسصندوق دعم وطني لتمويل المشاريع الجادة والمغايرة جزئياً، الدعم الذي اضطلع بالدور الأبرز في نموّ صناعة مثل السينما التونسية، والذي من المعيب ألا تمتلك مصر ما يناظره حتى لحظتنا الحالية”.
رياض أبو عواد: عملية تخريب منظّمة
“هناك أسباب كثيرة لتراجع السينما المصرية الكبير على أكثر من مستوى، منها ما هو إنتاجي ومنها ما هو سياسي، والمقصود عملية تخريب منظّمة للإنتاج ووضع سقف له يتناسب مع التوجّه السياسي الذي ارتأته شركات الإنتاج المختلفة التي وصلت إلى ذروتها في بداية القرن الحالي، بحيث كان يتجاوز عدد انتاجاتها الخمسين سنوياً. ويأتي هذا التراجع من خلال رأس المال السعودي الذي دفع بعدد الأفلام المنتجة إلى القمّة، ثم انسحب فجأةً وأوقف الإنتاج وتحول المنتجون المحليون إلى منتجين من الباطن وذلك من طريق الفضائيات السعودية، وتحديداً شبكة “راديو وتلفزيون العرب”، المملوكة لشيخ صالح التي أنتجت كمية كبيرة من الأفلام منذ انطلاقتها يُقال انها تجاوزت الثلاثمئة فيلم، ثم فضائيات “روتانا” التي يملكها الأمير الوليد بن طلال. إلى جانب شركة “جود نيوز”للإنتاج السينمائي التي كانت شكلياً مصرية وفعلياً سعودية ورفعت اجرة الفنّانين إلى أرقام لم تكن معروفة قبل ذلك. في لحظة واحدة توقّفت هذه الشركات عن الإنتاج، وهي الفترة التي شهدت مفاهيم “السينما النظيفة” التي يُمنع فيها التقبيل أو المشاهد الموحية بالجنس.
“يوم الدين” لأبو بكر شوقي.
وساهم رأس المال العربي والمحلي في تدمير ما تبقى من خلال “الشركة العربية للفنون” التي أسّسها المليونير نجيب ساويرس بالمشاركة مع جهات عدة، أحدها لرجل الأعمال الأردني من أصل فلسطيني علاء الخواجة، فقامت بشراء أصول السينما المصرية، واعترض على هذا الأمر سينمائيون مصريون، خصوصاً الراحل محمد كامل القليوبي. في ما بعد انفرد علاء الخواجة بالشركة، بما فيها دور العرض التي كان يملكها ساويرس والتي كانت جزءاً من مساهمته في الشركة الأم التي احتكرت السوق في حينها إنتاجاً وعرضاً، وهي أكبر مجموعة مالكة لدور العرض تقترب من نسبة ٤٠ في المئة من بين ٤٠٠ دار عرض موجودة في مصر. وبعدما تم بيع أصول السينما المصرية لـ”روتانا” بفترة بسيطة، تخلّت الشركة عن الإنتاج وبدأت بالضغط على نقابة السينمائيين ووزارة الثقافة لزيادة عدد نسخ الأفلام الأجنبية المستوردة، وتحديداً الأميركية، لتغطية احتياجات دور العرض. في حين تخلى رجال أعمال كانوا دخلوا بوابة الإنتاج من خلال البزنس. ولم يبقَ من المنتجين المحليين سوى مجموعة صغيرة، منها مجموعة شركات محمد السبكي التي لا تهتم لقيمة المنتج الفنية بقدر اهتمامها بالقيمة الربحية السوقية، وشركة “دولار فيلم” وبعض الأفلام التي ينتجها منتجون محاصرون مثل “العدل جروب”. وظهرت في السنوات الأخيرة شركة “سينيرجي” التي تركّز على أفلام تجارية تقدّم العنف وأشكالا معينة لتزييف الوعي على النمط الأميركي.
هذه النمطية الإنتاجية سعت إلى تحجيم كلّ المخرجين المهمين في مصر، وتمت محاصرتهم من شركات الإنتاج ومن الدولة، وطبعاً في فترة الهيمنة السعودية على الإنتاج كانت تتم محاصرة السينمائيين وإلزامهم مفاهيم وهابية أحد افرازاتها شعار “السينما النظيفة”. واستكملت الصورة بتخلي الدولة عن المشاركة في الإنتاج السينمائي وتوقّف صندوق الدعم عن تقديم أي مساعدة، وكان ضحية هذا القرار كلّ من داود عبد السيد وخيري بشارة وأسامة فوزي وغالبية المخرجين الذين يملكون رؤية. استطاع محمد خان المحاصر ان يخرج من حصاره فأنجز أكثر من فيلم عبر الإنتاج المشترك.
مصر هي البلد العربي الوحيد الذي يملك صناعة سينمائية متكاملة من كلّ الجوانب، وهي مؤهلة لتسترجع دورها اذا حصلت على التمويل الكافي والحرية الكافية للتعبير عن الواقع المصري والعربي، مع توفير الدولة أموالا كافية للسينمائيين ليعملوا بكامل حريتهم، اسوة بتجربة المركز السينمائي المغربي، رغم الملاحظات على هذه التجربة”.
زياد الخزاعي: القدامى واجهات والشباب مقلِّدون
“السينما لا تموت أو تنتهي، إنما تتحوّل. السينما لا تتراجع، بل تنتظر إنقلاباتها الجمالية والإيديولوجية. هذاكلّه رهن بأمان سياسي وتطامناته الإجتماعية. السينمائي العربي اليوم تعيس الحظ لأنه يعاني، في كلّ مكان، من عسرولادات. فجيل العشرية الأخيرة، اعتبر أن ما يُسمى بـ”الربيع العربي” هو إنقاذ حاسم لبنية اجتماعية نَشَدت مجتمعاً “جديداً” قائماً على حرية ومساواة ورفاهية، وفوق كلّ شيء علمانية دولته التي يجب عليها، ضمن التزامات أخرى عدّة، أن تعضد السينما وصناعاتها. بيد أن ما أدركه هذا السينمائي لاحقاً هو أن الثورات تلك وتنظيمها والتحريض عليها ودعمها، لم تكن سوى لإشاعة فوضى جماعية مدسوسة وتآمرية. صحيح أنها قلبت نُظماً أوتوقراطية، إلا أنها في المقابل خلقت أجساداً طائفية، وشراهات قبلية، وفاشيات دينية، وتفتيتاً طبقياً منظّماً.
“كارما” لخالد يوسف.
الدولة المصرية أفلتت من محنة حاسمة وفخ خطير: لم تسقط مؤسساتها، وفشل مشروع إختراق عمقها البيروقراطي العتيد الذي يعتبره البعض نظاماً بالياً، لكنه أثبت قوّته وعناده على التهشيم والتفتيت والإسقاط. الصناعة السينمائية كانت ركناً من أركانه. اهتزت لفترة وجيزة، لصالح فورة من أفلام ديجيتال حماسية ومُغرضة وإنتقائية. بعد “التصحيحين” المتعلقين بنظامَي مبارك ومرسي، وجدت الصناعة نفسها أمام إشتراطين. الأول: إبقاء ما كان قائماً، ومنه فساد دواوينها ونفاق منتجيها التجاريين الكبار، وحساسياتهم من الإختراق وتهديد المكانة. الثاني: استيعاب النظرة الشبابية، وإحتواء حماساتها. ما حدث أن الطرف الأول شدّ من عزمه بسرعة، وأنتج كمّاً معقولاً ذا نوعية متهاودة لمرحلة إنتقالية. فهو لم يعد يغامر كما السابق بأفلام تخسر مع تهاوي الجنيه وعثرات السوق والغلاء وإرتفاع الضرائب. فيما وجد الجيل الجديد الفرصة لإثبات وجود، من دون العمل بجد على تأسيس تيار سينمائي مؤثّر، حيث بقي عنوان “سينما مستقلة” من دون كلمة “بديلة” – وهي سينما تحتاج جودتها إلى تمعّن نقدي هادئ وعقلاني-، ملتبساً ومتحايلاً، كأنه أهون الشرّين. هذا يفسّر، في قناعتي النقدية، تراجع الكمّ. وهو محكوم بنزعته المغرقة في المحلية، ما يفوّت الفرصة على إختراق سوق عالمي أو على الأقل مهرجاني. عليه، فإن سينما ما بعد الثورة بقيت حبيسة مصريتها وجمهورها من دون الإلتفات إلى أهمية، وواجب، مقاربة موضوعات ذات مدار إنساني متفتح، يقترب من ذهنية الآخر وذائقته وحساباته، كما هي الحال في التجربة الإيرانية على وجه الخصوص.
تعود الكبوة الحالية إلى جملة عوامل، في مقدمتها وأهمها أن السينما المصرية تواجه اليوم إزاحة منظّمة من الواجهة الخارجية، وفي الذات الخليجية، وهي الأوسع والأغنى، لصالح إستقطاب أميركي/ هندي كاسح. ثانياً، إن سياسة تعويض النجوم في السينما المصرية عانت فجأةً من شلليات معقّدة، ومقاسات متهافتة، ومحسوبيات متحزّبة، جعلت من القدامى واجهات، أما الشباب فمقلدون غالباً لنظرائهم الهنود، أو في أحسن الأحوال إلى هوليوود ونجومها. ثالثاً، أن البنية الإنتاجية للسينما المصرية، رغم تطوّرها الطفيف (أي خروجها قليلاً من عباءة عائلة محمد السُبكي وأفلام حاراته التي لا تنتهي أفراحها) بقيت مناوراتها ضيّقة، بسبب غياب دعم حكومي مفترض، إلى حيل القرصنة وقدراتها التقنية الخارقة، وأيضا “موت” أسواق تقليدية للفيلم المصري كما في حالة العراق مثلاً، من دون إغفال عزوف القنوات الفضائية عن المساندة والدعم، لمصلحة مسلسلات شعبية مكرورة بلا طائل فكري”.
صفاء الليثي حجاج: تراثك يقيّدك في بعض الأحيان
“المهرجانات العالمية التي نتّخذها مقياساً، لها توازنات سياسية وميول تتغير حسب المصالح. لا أوافق على اعتبارها المعيار الوحيد لقياس مستوى الفيلم المصري الحالي. مع ذلك، هناك الهمّ العام الذي يتّخذه الفنّان شاغلا له ليتمكّن من التعبير. حالياً، هناك بلدان عربية لديها هموم أكبر وأوضح من همومنا في مصر . سوريا ولبنان خصوصاً. لكي يقدّم ما يلفت الانتباه، على الفنّان أن يكون مهموماً بقضايا وطنه ومشاكل شعبه. لا يوجد لدينا حالياً اتجاه سينمائي كما كانت الحال في الماضي، زمن مخرجي الواقعية، صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح، ومن بعدهم عاطف الطيب وداود عبد السيد وخيري بشارة. لا يوجد مثل هذا الاتجاه في السينما المصرية الا بشكل فردي. تظهر هالة لطفي بفيلم ثم تعاني لإنجاز الثاني فتتجه إلى الإنتاج. يظهر محمد حماد بفيلم أجده جديراً بالمشاركة في أهم المهرجانات، ثم يعاني لإنجاز الفيلم التالي. هل التيمات التي يختارونها لأفلامهم لا تجد مَن يدعم إنتاجها؟ في الداخل، طبعاً لن تجد، ولكن ماذا عن الجهات الخارجية الداعمة؟ “كفرناحوم” جاب المهرجانات. هل هذا فيلم متفوق على “أخضر يابس” مثلاً؟ المشاركة والاحتفاء ليسا دليلاً على المستوى.
“كازابلانكا” لبيتر ميمي.
مع ذلك، أجد أن مستوى الوعي العام تراجع عند الفنّانين المصريين. لديهم مشكلة في تعميق أفكارهم والتجريب. هالة خليل مخرجة مصرية لامعة، لكنها تسلك الطريق المضمون، فتقدّم واقعية تقليدية يقتصر الإعجاب بها على الداخل. في بعض الأحيان، تراثك يقيّدك ويمنعك من سلك طرق جديدة”.
عبد الكريم قادري: رقيب ذاتي وقلّة حماسة
“لا يُمكن حصر أسباب تراجع السينما المصرية في السنوات الأخيرة في نقطتين أو ثلاث. هي مجموعة أسباب شكّل تجمّعها هذا التراجع، أهمها تعوّد الجمهور المصري على نوعية واحدة من السينما، استمدت شكلها وطرق معالجتها من الدراما التلفزيونية، حفاظاً على مستوى معيّن من الايرادات، وإرضاءً للمنتج الذي لا تهمّه النوعية ومدى فنية العمل بقدر ما يسعى إلى الربح. لهذا، أصبح من النادر أن نرى عملاً يفوز بالشروط الفنية وفي الحين نفسه يحقق ايرادات كبيرة. كما أن هناك عدداًكبيراً من المخرجين باتوا لا يحملون قضية، أي انهم لا ينتصرون لمدرسة سينمائية، أو تيار فنّي، لا يدافعون عن مبدأ سياسي أوفكري، لهذا نجد أن هذه الأعمال تنقصها الحماسة، فتأتيمن دون بصمة تميزها. ناهيك بعجزها الواضح عن معالجة القضايا الإنسانية الكبرى والانتصار لها، وتشبثّها بالمحلية، ما قلّص من انتشارها في المهرجانات الكبرى. هذا بالإضافة إلى تشكّل الرقيب الذاتي لدى فئة واسعة من المخرجين، خصوصاً في ظلّ التقلّبات السياسية الكبرى التي عاشتها مصر وبعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة. من هنا، ضاق هامش الحرية، وأثّر بشكل كبير على صدمة الإبداع الذي يستمد قوته من متن الحرية وليس من هامشها.
هذه بعض الأسباب التي ضيقت على السينما المصرية وجعلت بعض المخرجين الأكفّاء والجيدين يدخلون في بطالة قسرية، في ظلّ غياب الشروط الحقيقية التي يحافظون من خلالها على مسارهم، وينتصرون بها لفكرهم وفلسفتهم السينمائية، ما سمح بخروج الريادة من هذه السينما واستقرارها في بعض البلدان العربية، كتونس التي تشكّل لديها وعي سينمائي رهيب، وأضحت تنتج في السنة مجموعة من الأفلام المهمّة التي يشارك بعضها في أهم المهرجانات. بالإضافة إلى المغرب الذي شهد ولادة مجموعة من المخرجين المهمين فباتوا ينجزون سينما مختلفة وجريئة في المنطقة. بالإضافة إلى لبنان الذي تميز في السنوات الأخيرة بصناعة أفلام وثائقية مهمة جداً لا تفصلها عن الأفلام الروائية سوى شعرة. وهذا ما يحدث أيضاً في فلسطين. لكن، لا يمكن أن نقول البتة بأن السينما المصرية انتهت؛ هي محطة خفوت لكنها ستعود إلى الواجهة في حال تغير المعطيات السلبية المذكورة، ورفع قيمة الدعم المالي لها، ودعم المخرجين الشباب الذين يملكون رؤيا سينمائية، بالإضافة إلى رفع البطالة المفروضة عن بعض المخرجين الكبار الذين حافظوا على شعاع السينما المصرية وساهموا في صناعة مجدها في زمن مضى”.
فراس محمد: فقدان لحظة الإدراك
“السينما عموماً لحظة إدراك أو في الحد الأدنى محاولة للبحث عنها. التغييرات الكبيرة والسريعة في مصر خلال السنوات الأخيرة ساهمت في فقدان حقيقي لتلك اللحظة، وخصوصاً التغيير الحاصل في المفاهيم وتأويلاتها على المستوى الاجتماعي والسياسي. هذا كله انعكس بلا شك على النتاج السينمائي. قلة من الأفلام التي أُنتجت خلال هذه الفترة، لا سيما في السينما الجادة، اهتمّت في البحث على هذا المتغير أو إدراكه. وعندما يجد السينمائي نفسه أمام حالة خواء من هذا النوع، سيعوض عن إدراكه ويقينه تجاه هذا الإدراك أو شكّه به، برفع سوية “الشكل” الفني. هذا مُلاحظ في الأفلام عموماً، بما فيها تلك التي ذهبت إلى المهرجانات وتكرمت فيها.
في الخمسينات، كان اليقين موجوداً تجاه الأسئلة التي طرحتها السينما، لا سيما أن الجهة المنتجة كانت حكومية. واستمرت الحال هذه في العقود التالية لأن التغيير السياسي لم ينعكس بشكل فج أو متسرع. التغيير المتأني أنتج تيارات وبرز رواد لها، بينما في الوقت الراهن لا يبدو أن هناك شيئاً واضحاً أو جلي. فيلم تامر السعيد، “آخر أيام المدينة”، حاول فهم هذه الجزئية تحديداً، وبدرجة أقل فيلم عمر سلامة، “شيخ جاكسون”. لكن طغيان الشكل يذوّب المضمون. أفلام كـ”ورد مسموم”، و”اشتباك” و”يوم الدين” أمثلة جيدة على هذا، لا سيما أنه تم الاحتفاء بها. لكن الشيء الذي لا يُمكن تجنّبه هو أن التجارب القليلة التي حاولت فهم هذا الواقع المتغير ساهمت بشكل أو بآخر في إبقاء الدماء متدفّقة في عروق سينما لها ارثها، وقد يكون هذا الإرث سبباً كافياً في قدرة هذه السينما على تجاوز محن سياسية واقتصادية واجتماعية تعاني منها مصر حالياً، خصوصاً أنها بدأت أخيراً في اقتحام بيئات شعبية وتصوير هشاشتها على نحو معاكس لتوجهها في عقود سابقة كانت فيها أكثر محافظةً على هذا الصعيد”.
قيس قاسم: التخلّص من عقدة “التفوق” وأوهامها القاتلة
“تضع أسئلة ألغاماً وتطلب الينا السير فوقها! لا بأس، ما دامت تحفّز على سجالات، وتبحث في واقع السينما المصرية، المستحقّة نقاشاً وجدلاً حول ما آلت اليه أحوالها، خاصةً تراجعها الملحوظ خلال السنوات الأخيرة، إلى درجة تسمح بصوغ سؤال مقلق عن احتمال “نهاية” دورها الثقافي والفنّي والاجتماعي؟ “السينما المصرية في تراجع”، هذا توصيف دقيق! من دلالاته قلّة الأفلام المشاركة في المهرجانات السينمائية الكبيرة، وهي في الأعم انعكاس ونتاج أزمة إبداعية أكبر تمر بها، من مسبباتها طبيعة النظام السياسي بلا شك. التجربة التاريخية تقول: كلما اتسعت الحرية وقلت الرقابة على الإبداع والمبدعين ازدهرت الثقافة فمجرد وجود رقابة، أياً كان نوعها، يؤدي إلى كبح الفعل الإبداعي وتقلّص مساحته. السينما بوصفها الفنّ الأكثر جماهيرية، تغوي السلطة للتدخل في صناعتها. مصرياً، يظهر ذلك في سطحية حوارات الأفلام، وفي تقليص المساحة المتاحة للتعبير عن أفكار ومواقف صُنّاعها. في حياء لغة الجسد وتهميشها. حين تغدو القبلة أو أي شكل من أشكال التعبير الجنسي والعاطفي موضع رقابة وتوجّس سلطوي وديني، سيحدث عجز محتم في مستوى اللغة البصرية ولجم قسري لها. واحدة من فضائل الثقافة الغربية – والسينما واحدة لا أكثر من أشكال تعابيرها – أنها وفّرت لمبدعيها حرية مراجعة تاريخ مجتمعاتها وقراءتها نقدياً. هذا شبه غائب في السينما المصرية. لن تظهر نصوص سينمائية جيدة، جمالياً وفكرياً، إذا حُرم خلاقّوها من حرية قراءة المشهد السياسي والاجتماعي لبلدانهم وفق رؤيتهم لها، ومن دون خوف.
تراجع السينما المصرية أتاح لبقية سينمات المنطقة البروز، ليس على حسابها، بل لأن مصر خسرت طليعيتها، وفقدت السينما فيها زخمها التنويري الذي قدّمته في بداياتها. السكون والتعكّز على مجد ماضٍ زائل لازمها، فيما بقية الدول ـ التي تمتّعت بحرية نسبية أفضل خاصةً في العقود الأخيرة ـ راحت تتحرك وتطوّر نتاجها، مستفيدةً من ضعف المنافس المصري. في لبنان وتونس تحديداً حرية التعبير فيهما أفضل، وهذا ينعكس في ما تقدّمه من أفلام. الأفلام الوثائقية اللبنانية المشترطة شجاعة اختيار مواضيع وجرأة انفتاح على نقاش يكسر المحرمات، هي في المقدّمة اليوم. في شمال أفريقيا، رغبة السينما في التعلّم والاستفادة من العلاقات العامة ساعدتها كثيراً. فيما يُعيب البعض على “فرنكوفونيتها”، فما تنجزه يبرره رهانها على جزء منه. البقية تكمّله ذاتياً بمثابرة لا تستنكف التعاون والانفتاح، متخلصةً من عقدة “التاريخ”.
هل تنتهي السينما المصرية؟ قطعاً لا! النفي متأتٍّ من اقتناعبأن تراكم المنجز وحيوية المجتمع قادران على المواصلة. السياسة دائمة التَغَيُّر.الإبداع تحولاته بطيئة. الأولى تعجز عن إزاحته أو إلغائه. مصر قادرة على تقديم سينما جيدة شريطة توفرها على مناخ سياسي ومجتمعي سويّ. عليها مواجهة ذاتها نقدياً عبر التخلّص أولاً من عقدة “التفوق” وأوهامها القاتلة”.
محمد رُضا: دور السينما المصرية الحالي ليس رائداً
“لا تولد السينما المختلفة عن السائد من دون شروط سياسية وثقافية واجتماعية وما يجاورها من ظروف تؤدي إلى توفير المناخ العام للإبداع وإنتاج ما هو فنّي وفكري يصلح لعرضه على الشاشات. بالنظر إلى التاريخ، نجد أن السينما المصرية تمتعت بهذا المناخ سابقاً. ربما ليس على النحو الكامل، لكن بالحجم الذي كان كافياً لتأكيد دورها لا في مجال صناعة الفيلم الترفيهي فحسب، بل في مجال إنجاز الأفلام البديلة والمختلفة وما ينتمي إلى سينما المؤلف عموماً. حتى قبل فترة قريبة، شاهدنا أفلاماً كانت بمثابة أمل في شقّ طريق صوب هذا الوضع المنشود. أفلام مثل “أخضر يابس” و”باب الوداع” و”آخر أيام المدينة”. لكن استمرارية هذا الخط لا تتم بقرار فردي من أصحاب مواهب يريدون تجسيد طموحاتهم، بل تعود في الدرجة الأولى إلى تلك الشروط المُشار إليها والمناخات العامة التابعة له.
“اشتباك” لمحمد دياب.
بكلام أدق: الرقابة الرسمية المؤلفة من أجهزة تريد تأمين سيادة فكر الدولة على كلّ مفاصل الحياة الثقافية والفنية والإعلامية والإجتماعية وبالطبع السياسية. والمخرج “المختلف” يريد تحقيق مشروع لا بد ان يتعارض، على نحو رئيسي أو أكثر، مع تلك المتطلبات. وبالتالي فإن وجهته ستبقى محدودة، وما يبثّه من خلال الفيلم سيقتصر على المسموح. هذا لا ينتج الفنّ الذي يستطيع أن يتمتّع بعروض دولية.
سبب آخر مهم، في اعتقادي، هو أن الركود الإقتصادي كان أدّى إلى ركود النشاط التجاري المعتاد. معظم ما يتم إنتاجه من أفلام “تجارية” لا يحقق أرباحاً لا في مصر (التي كان يُمكن أن تكتفي بمحصولها) ولا في خارجها. هذا مهم، لأن السينما البديلة التي برزت في السبعينات وامتدت صوب الثمانينات استفادت من رواج الفيلم التجاري المصري. كما في كلّ صناعة، العائدات المرتفعة تتيح – عرضاً أو قصداً – وجود رأسمال معين يريد أن يواكب مسيرة فنية مختلفة. عندما يقل منسوب الإيراد الشامل للسينما التجارية فإن تلك البديلة تتأثر على نحو واضح.
يصاحب ذلك كلّه أن أهم مهرجانين دعما السينما في السنوات القليلة الماضية (دبي وأبو ظبي) خرجا من اللعبة، ما تسبب في انحسار فرص الإعتماد على تمويل خارجي. دور السينما المصرية الحالي ليس رائداً، لكن السينما العربية بأسرها لا تملك بديلاً ولا يوجد البلد الذي يوفّر مثل هذه القيادة. وكما نعلم، ازدادت وجهة البحث عن التمويل الغربي، والغرب ليس صندوق مال مفتوحاً. وأغلب الظن أن الأمور لن تتقدّم كثيراً، هذا إذا لم تتراجع أكثر”.
محمد هاشم عبد السلام: لا ينبت الفنّ إلا في مناخ كامل أو شبه كامل من الحرية
“الأمر في حاجة إلى فضّ اشتباك لتوضيح الصورة. هل المقصود التراجع الكمّي أو الكيفي؟ في النظر إلى التراجع الكمّي، فإنه يرجع إلى عقود بعيدة، لا إلى السنوات الأخيرة فحسب. عدد الأفلام المُنتِجة سنوياً – المتراوح منذ سنوات طويلة بين ٢٥ و٣٥ تقريباً – يكفي لإيضاح الأمر بجلاء. الأسباب عديدة جداً ومتداخلة. كلها تصب، في النهاية، في ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي. للدولة دورها الكبير قطعاً، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. يتمثّل دورها المباشر في عدم اهتمامها وحمايتها للصناعة ككلّ. بدايةً من صالات العرض وانتهاءً بالتوزيع، عبر قوانين وتشريعات، لم تصدر منذ سنوات. الدولة لن تخترع العجلة. يكفي فقط الاقتداء بالنظام الذي تسير عليه السينما عالمياً. ولنا في السينما الفرنسية خير مثال. أما دورها غير المباشر، فيتجلى في التضييق على الفنون عامةً. لا ينبت الفنّ ويزدهر ويتألق إلا في مناخ كامل أو شبه كامل (إيران نموذجاً)، من الحرية والديموقراطية. وعليه، فالدولة مسؤولة عمّا آل إليه مستوى الفنّ والمبدعين، والدراسات الأكاديمية والقائمين عليها، والمناخ عامةً.
يقودنا هذا إلى ما يتعلّق بالكيف. المناخ المصري السائد لم يتغير منذ عقود، بل ازداد سوءاً وانحداراً. لذا، كان من الطبيعي والمنطقي تردي الإنتاج الكيفي، عامةً، إلى مستويات غير مسبوقة. أهذا استثناء من القاعدة؟ المراجعة المُنصفة تجيب عن السؤال سلبياً. على امتداد تاريخ السينما المصرية، المحاولات التي شقت طريقها إلى “العالمية” كما يُقال (وليست العالمية مقياسها المهرجانات السينمائية فحسب)، محاولات محض فردية، وليست نتاجاً لتيار مستقلّ، أو تخطيط، أو نظام إنتاجي، أو طفرة. حتى تلك المحاولات، وبعضها على قدر من الفنية، لا تصمد عند المقارنة الفنية الخاضعة لمعيار القيمة. ولم تنجح حتى داخلياً في تشكيل أي تيار أو موجة أو توجه.
التطرق إلى الريادة يُعيدنا ثانيةً إلى ما هو كمّي. كانت هناك ريادة، نظراً إلى كمّ الإنتاج. مع انحسار الكمّ – لاعتبارات عدة – خبت الريادة الناجمة في الأساس عن الانتشار. أما مقارنة السينما المصرية بغيرها، فيصعب القول بأن ثمة طفرة أو حتى انتعاشة في السينما العربية. كلها، على امتداد الوطن العربي، محض جهود فردية، منسوبة لفنّانين لم تتبلور رؤاهم بعد، أو تتفاوت إبداعاتهم من عمل إلى آخر. وما يميز الجيد من هذه الأعمال، يرجع لانفتاح أصحابها على الإنتاجات المشتركة. ما أدى لطرح موضوعات مغايرة، وبناء فيلمي أكثر حرفية واحترافية. وإن ظلت الرؤى الفنية والفلسفية، في النهاية، غائبة. الأسباب عديدة: مجتمعات تعاني من أمراض سياسية واجتماعية واقتصادية منذ عقود، يستحيل التخلص من آثارها قريباً. تلك المشكلات لم تقض على المجتمعات العربية عامةً، والمصرية خاصة، لذا يصعب للغاية القول بموت أو نهاية سينما ما، فستظل المحاولات والنجاحات فردية، أكانت مصرية أم عربية”.
نديم جرجوره: الصراع قديم بين نظام إنتاجيّ وتجارب تجديدية
“مسألة “الأزمة الإبداعية” لا تُختَزَل فقط بالنظام السياسي الذي يكمّ الأفواه، ويؤثّر على الخلق السينمائي. للنظام السياسي دور كبير في تعطيل حركة سينمائية متكاملة. هذا مؤكّد. لكن المسألة أبعد من نظام يتحكّم بالبلد ويتسلّط على ناسه.
الصناعة السينمائية في ذاتها تعاني أزمات: تغليب البُعد التجاري على أفلام الأجزاء الثانية مثلاً، من دون أدنى اهتمام بأي جديد في القصّة والمعالجة والتنفيذ، يعني استنساخ الجزء الناجح تجارياً كما هو. الاستمرار في إنتاج كوميديا تهريجية ومُسطّحة. تغليب الأكشن المنقول عن السينما الأميركية، وغالباً من دون بلوغ المستوى السينمائي المهمّ للأكشن الأميركي. إلخ. أما التوغّل في مصائب البلد وانهياراته، فيُمنَع، والمنع سلطوي بالتأكيد. هكذا، يتكامل النظامان في تخريب السينما.
في المقابل، هناك إنتاج سينمائي مختلف تماماً عن هذا كلّه. تجارب وثائقية وروائية، بعضها مهمّ للغاية. الأمثلة عديدة: أحمد عبدالله السيد، مع التنبّه إلى التفاوت الملحوظ بين أفلامه، لكن أهميته كامنة في استمرار اختباراته. هالة خليل مستمرة في مواجهة نظام إنتاجي يفرض شروطاً ملائمة له وليس لمشروعها السينمائي. محمد حمّاد وهالة لطفي وأحمد مجدي وكريم حنفي وغيرهم، رغم أن لكلّ واحد منهم فيلماً واحداً إلى الآن. أحمد فوزي صالح أيضاً. تامر عشري ومحمد دياب وغيرهما. هذه تجارب تُحارَب من النظام الإنتاجي أكثر ممّا يُحاربها النظام السياسي. هذه تجارب لا تعثر على صالات عرض، ولا تُمنَح وقتاً كافياً للعرض إنْ تعثر على صالة. ولولا “زاوية”، ربما لما تواصلت مع جمهور مهتمّ بهذا النوع المختلف من السينما.
هذه أمثلة لمخرجي أفلام روائية. للوثائقي حضور مهم أيضاً. والكلام عنه يطول. لمحمد حفظي المنتج دورٌ في إيجاد حيّز للنتاج السينمائي المختلف قليلاً عن النظام الإنتاجي المتحكّم بالسوق، وهذا مهمّ أيضاً. لذا، فالصراع قديم بين نظام إنتاجيّ، لعلّه يرتبط بالسلطة أيضاً، وتجارب ومحاولات تجديدية، المهرجانات الدولية الكبيرة غير مكترثة بها. لن أحيّد النظام السياسي الذي يتسلّط على كلّ شيء، بما فيه الاستوديوات وشركات الإنتاج الفارضة نظاماً إنتاجياً يرفض التجارب والمحاولات التجديدية.
تدخّل النظام السياسي في السينما مُوارب ومباشر في آن واحد. “عيار ناري” (٢٠١٨) لكريم الشناوي، رغم وجود منتجين لبعضهم مشروع إنتاج مستقلّ، دليل على كيفية التلاعب السلطوي عبر رجال أعمال في تشويه وقائع حقيقية خاصّة بالناس. أما القول بخسارة مصر دورها الريادي، وبانتهاء دورها الثقافي والفني والاجتماعي، فيحتاج إلى نقاش أكبر من رأي مختصر. رغم هذا، فإنّ السينمات العربية، في دول المغرب العربي كما في فلسطين وسوريا ولبنان تحديداً، تتفوّق بكثير على سينما مصرية حالية، تعجز عن ابتكار الجديد، وعندما تبتكر جديداً تجديدياً، تُهاجَم وتُحاصَر. والجديد التجديدي في السينما المصرية جزءٌ من حيوية الإنتاج المختلف في تلك السينمات العربية”.
المصدر: صحيفة النهار