محمد رُضـا
يستعد مهرجان فينيسيا في طلته المقبلة في الثامن والعشرين من هذا الشهر تقديم فيلمين لهما علاقة بالمخرج ستانلي كوبريك (1928 – 1999). أحدهما فيلم تسجيلي بعنوان «أبداً ليس حلماً فقط»: ستانلي كوبريك و«عينان مغلقتان باتساع» لمات ولز والآخر هو فيلم ستانلي كوبريك ذاته Eyes Wide Shut الذي أنجزه قبل وفاته بأشهر من بطولة نيكول كيدمان وتوم كروز.
النسخة الجديدة هي احتفاء بمرور عشرين سنة على الفيلم كذلك ذلك الفيلم التسجيلي المصاحب، وكلاهما سوف يعرض في صالات الدول الغربية قبيل نهاية العام للتأكيد على هذه المناسبة.
فيلم ستانلي كوبريك انتمى إلى عالمه الذي حفل بحكايات تمزج الواقع بالخيال والخوف من الأول باللجوء إلى الثاني. هو أقرب، في هذا الوصف، إلى «ذ شاينينغ» (1980) من حيث إن كليهما يتحدث عن زوجين يجدان نفسيهما على طرفي نقيض وكيف أن الزوج يغترب عن واقعه فجأة فينطلق إلى ما يبدو، بالنسبة إليه، لجوءاً إلى مخيلة جانحة.
في الوقت ذاته، فإن مفهوم فيلم كوبريك الأخير يمضي ليشمل الحديث عن مجمع سري (قيل إنه يقصد الماسونية) معرّياً شعائره وممارساته. كوبريك لم يحوّل هذا الهدف إلى تقديم نماذج بل ساق كل ذلك من خلال نظرة عريضة حافلة منطلقها الزوج وما يمر به عندما يقرر دخول المجمّع المغلق. العنوان بحد ذاته يتضمن النقيض: «عينان مغلقتان باتساع» هو لوصف الانكفاء عن المعرفة على نحو كامل.
ألعاب خطرة
في حياته التي شهدت 13 فيلماً طويلاً من إنجازه عالج كوبريوك الوهم في أكثر من طريقة. إنه وهم الانتصار في الخروج من بيئة معينة. قدرة الإنسان المحدودة في مواجهة العالم الذي يجد نفسه في مواجهته. في فيلمه الأول «خوف ورغبة» (1953) اختار الحرب وسيلة لإعلان هزيمة أفراده. بعد ذلك انطلق إلى بيئة نيويوركية محطمة في «قبلة القاتل» (فيلمه الأول، 1955) يدور حول وهم الخروج من ظروف الواقع الصعب. لكنه في الوقت ذاته ليس مجرد حكاية ملاكم واقع في حب فتاة تعاني من سطوة رجل آخر، بل يدور حول الخيال والواقع في بذراته الأولى: هناك ذلك المشهد الذي يدور حول صراع الرجلين في مصنع دمى كاملة الحجم. الواقع المنشود هو حضورهما. الخيال الموازي هو تلك الدمى المحيطة بهما كما لو أن صراع بطل الفيلم مزدوج: واحد ضد رجل آخر يريد القضاء عليه والثاني ضد أوهام الحياة ممثلة بشخصيات أخرى.
نستطيع استبدال الدمى وما ترمز إليه في فيلمه اللاحق «2001: أوديسا فضائية» حيث تتحول الدمى – في عالم كوبريك – إلى عقول الكومبيوتر الجانحة في رغبتها تقويض الإنسان. لكن قبل ذلك داوم كوبريك على استعراض قوانين اللعبة الصعبة ضد أوهام تفرضها تلك الحياة على أبطال أفلامه.
هذا أكثر وضوحاً في فيلمه البوليسي «القتل» (1956) عندما يقدّم خمس شخصيات رجالية مندفعين في سبيل تحقيق غنيمة كبيرة في عملية سطو على مكاتب ميدان لسباق الخيل. العملية تنجح، لكن كل ما يتبعها يهوى تباعاً مقوّضاً الأحلام جميعاً. في واقعه لا يقدم كوبريك في هذا الفيلم شخصيات شريرة فلا جورج (إليشا كوك) الذي يحاول إرضاء زوجته ولا مايك (جو سوير) الذي يريد المال لإدخال زوجته المستشفى، ولا رجل البوليس راندي (تد د كورسيكا) فعلياً فاسد وينطلي الوضع بدوره على زعيم تلك العصبة جوني (سترلينغ هايدن) الذي جل ما يحاوله هو تحقيق حلمه بثراء يمكنه من ترك حياة الجريمة. يتناول كوبريك هذه الشخصيات خالقاً التعاطف معها من لبنة الواقع المر وليس عن طريق تعاطف مباشر معها.
المؤسسة
منذ بداياته تلك وكوبريك كان سيد ما يرويه مبتعداً عما قد تحكيه الرواية الأصلية إذا ما كانت مصدر الفيلم الذي بين يديه (كما الحال في «ذا شايننغ» أو «باري ليندن» مثلاً). لا يلتزم بما تسرده أو بكيف تسرده بل يسحب منها خطوطاً تفي بتصميمه لها. تستجيب لنظرته وإلى كيف يريد لهذا الفيلم أن يكون. وهذه النظرة تبلورت إلى نقد المؤسسة منذ أن قام بتحقيق «ممرات المجد» (1957) الذي قام كيرك دوغلاس ببطولته والتحق به كل من رالف ميكر وأدولف منجو. معارضته للحرب مورست مرتين بعد ذلك. الأولى في «دكتور ستراجلوف» (1964) و«سترة معدنية واقية» (1987).
هذا الأخير كان تعليق المخرج على الحرب الفييتنامية: المؤسسة العسكرية تخلق رجالاً ليحاربوا. الحرب ذاتها تهدم هؤلاء الرجال بعنفها. الأولى تبني والثانية تدمر. هنا العكس يحدث: الخيال يبدأ والواقع يُنهي.
المؤسسة متّهمة أيضاً في «سبارتاكوس» (1960) و«باري ليندون» التاريخيين وفي «كلوكوورك أورانج» وصولاً إلى «عينان مغلقتان باتساع» الذي بنى له حياً في نيويورك داخل ستوديوهات باينوود البريطانية. وبمثابة عودته إلى ذلك الحي كما في فيلمه الأول مع اختلاف عريض تفرزه المقارنة بين فيلم صغير وفيلم كبير. وبين فيلم استند إلى الواقع بقدر ملحوظ إلى فيلم يمضي إلى الخيال الجانح بالقدر ذاته.
الخيال الجانح عند كوبريك في «عينان مغلقتان باتساع» هو نتيجة شكوك الزوج (كروز) بزوجته (كيدمان) التي تدفعه لترك واقعه والاندماج في حياة من الفانتازيا العاطفية الداكنة. لا نرى بطله في أي وضع جنسي، لكنه مراقب لأوضاع هذا يكشف عن عجزه عن بلوغ متعة الحياة كاملة، بقدر ما يكشف عن ضياعه بين واقع يتبدد وخيال يطبق على حياته.
والمشهد الأخير له دلالة مذهلة: الزوجان كيدمان وكروز (وكانا زوجين بالفعل حينها) يقفان في متجر للألعاب كما لو أنها استدارة كاملة مكّـنت كوبريك من الالتقاء مجدداً مع أول فيلم نيويوركي المكان أنجزه وهو «قبلة القاتل».
بعد وفاة كوبريك بأشهر قليلة إثر انتهائه من تحقيق فيلمه الأخير، دار الحديث طويلاً حول إرثه السينمائي. قام المخرج ستيفن سبيلبرغ باستعادة ذكرى كوبريك من خلال تحقيق فيلم كان المخرج الراحل يود إنجازه وهو «ذكاء اصطناعي» (2001).
إثر موته ترك كوبريك حلمه بتحقيق فيلم «نابليون» معلقاً. لا أحد يجرؤ اليوم على إنجازه لا لتكلفته المتوقعة فقط، بل لأن الرؤية التي صاحبت وصف كوبريك للقائد الفرنسي الأشهر تختلف ولا أحد سواه يستطيع تحقيقها على نحو كامل.
لكن هناك سيناريوهين يقوم التلفزيون باقتباسهما. واحد بعنوان «متحدر» (Downslope) والآخر «رجل يخاف الله» (God Fearing Man).
المصدر: الشرق الأوسط