نيكولاس باربر
بحلول المشهد الختامي لفيلم “عندما التقى هاري بسالي” ندرك جميعا أن بطلي العمل ملائمان تماما لبعضهما البعض. لكن ما هي المعلومات الإضافية التي علمناها عن هاري برنز (بيلي كريستال) وسالي أولبرايت (ميغ رايان)؟
الإجابة: ليس الكثير، فقد عرفنا مثلا أن سالي تستغرق ساعة ونصف الساعة لكي تطلب شطيرة، وأن هاري يعتبر الـ “مالومارز” – وهي حلوى مارشميلو مغطاة بالشكولاتة – أفضل أنواع الكعك صغير الحجم على الإطلاق.
لكننا لم نعلم في المقابل، ما إذا كان لديهما إخوة أو أخوات، أو ما إذا كان والدا كل منهما على قيد الحياة أم لا. لم نعلم كذلك، ما إذا كانا قد تعرضا للتنمر في المدرسة، أوما إذا كانا يستمتعان بوظيفتيهما من عدمه، كما لم ندرِ شيئا عن خططهما بالنسبة للمستقبل، أو مواقفهما السياسية.
على الرغم من ذلك، فإن إغفال كل هذه الأمور يشكل أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل هذا الفيلم – وبعد 30 عاما من بدء عرضه عام 1989 – ما يزال يعد واحدا من أفضل الأفلام ذات الطابع الرومانسي الكوميدي، التي أُنتجت في عالم السينما على الإطلاق.
من المسلم به بالطبع أن هناك الكثير من الأسباب الأخرى، التي تقف وراء نجاح هذا العمل، بدءا من حواره المتميز والأداء الذي لا تشوبه شائبة للمشاركين فيه، وصولا إلى موسيقاه والصورة السينمائية التي أظهرت نيويورك في أبهى صورها. لكن الإبداع الحقيقي للفيلم يتمثل في الطريقة التي ينجح من خلالها المخرج روب راينر وكاتبة السيناريو نورا إفرون في تقليص تفاصيل السيرة الذاتية التي نعرفها عن بطلي العمل، بالتزامن مع تذليلهما كل العقبات التي تعترض طريق هذين البطلين صوب الشعور بالسعادة.
ومن هذا المنطلق، تُحذف مختلف التفاصيل الخاصة بشخصيتيه الرئيسيتين، باستثناء توجهات كل منهما حيال مسائل مثل الحب والجنس والصداقة، وتجاه بعضهما البعض كذلك. ونتج عن ذلك عمل رومانسي كوميدي مُصفى حتى أخر قطرة. فلا نشاهد أمامنا فيه سوى رومانسية وكوميديا، ولا شيء آخر من أي نوع.
هو أسلوب بسيط إذا، تمخض عن نتيجة رائعة للغاية، بقدر يجعل المرء ينسى ما اصطبغت به تلك الطريقة من جراءة وابتعاد عن النمطية. ومن الصعب التفكير في فيلم رومانسي كوميدي آخر يتسم بالطابع نفسه من النقاء الخالص. فإذا قارنت “عندما التقى هاري بسالي” بأفلام أخرى ظهرت في فترة مقاربة له مثل “روكسان” و”فتاة عاملة” و”مجذوبة القمر”، فستجد في كل من هذه الأعمال السابقة ثغرة ما. أما إذا أمعنت النظر في الفيلم الذي نحن بصدده هنا، فسترى أنه يتضمن بعض الحقائق المسلم بها في مختلف أنحاء العالم، التي ترتبط بفكرة أن يكون المرء وحيدا وغارقا في الحب أيضا. ولذا اتصف “عندما التقي هاري بسالي” بأنه مكرس إلى أبعد مدى لتفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة، إلى حد استبعاده لكل شيء آخر، بحيث كان من الممكن أن يصبح عنوانه “عندما يلتقي شاب بفتاة”.
وفي أحد تعقيباته على الفيلم، قال مخرجه إن الفكرة الأساسية من ورائه كانت “دراسة التفاعلات التي تحدث بين الرجال والنساء” خلال رحلة التعارف بينهم. وأضاف: “عندما فكرنا في هذا الفيلم في الأصل، كان سيكون عبارة عن رجال ونساء يتحدثون عن بعضهم البعض عما تشهده فترة التعارف بينهم قبل أن ينتهي الأمر إلى إقامة علاقة حميمة”.
وقد واتت هذه الفكرة راينر بسبب انفصاله عن زوجته المخرجة والممثلة بيني مارشال، ما أعاده على كره منه إلى حياة العزوبية. بعد ذلك، روى الرجل ومعه صديقه أندرو شاينمان كل التفاصيل الخاصة بالتجربة الحياتية لكل منهما، لنورا إفرون التي أضافت من جانبها النظرة النسائية للأمر، وحولت تلك النقاشات الحافلة بالاعترافات إلى سيناريو، زاد من قوته الطريقة التي جسد بها كريستال شخصية هاري.
وتمثل السؤال الكبير الذي وُضِع على الملصقات الخاصة بالفيلم في: هل يمكن أن يصبح الرجال والنساء أصدقاء أم أن الجنس دائما ما يعترض طريق حدوث ذلك؟ لكن هذا لم يكن سوى موضوع واحد من الموضوعات التي تناولها العمل. ففي الفترة التي سبقت استخدام البشر للإنترنت للبوح بما في داخلهم والتحدث مع الآخرين عن غالبية شؤونهم الحميمة؛ كان الطابع الصريح الذي اتسم به الفيلم في الحديث عن كل شيء – بدءا من العناق التي يتبادله المحبون بعد ممارسة الجنس وصولا إلى التظاهر بالوصول إلى النشوة في الفراش – أمرا ثوريا وغير معتاد.
ويقول راينر: “الطريقة الوحيدة التي تجعل الفيلم يحقق هدفه كانت في أن نكشف بحق عما يشعر به ويفكر فيه الرجال والنساء”. ويؤكد الفيلم، في الكثير من مشاهده، أنه لا يعبأ بأي شيء بخلاف المشاعر والأفكار. ففي بداية أحداثه، نرى بطليه – خريجيْ جامعة شيكاغو اللذين لا يعرفان بعضهما بعضا – وهما يتوجهان معا في سيارة سالي إلى نيويورك. ولأن لديهما 18 ساعة كاملة من السفر يتعين عليهما قضاؤها؛ يسأل هاري سالي قائلا: “لِمَ لا تحدثينني عن قصة حياتك؟”. في فيلم آخر أكثر تقليدية؛ كان هذا السؤال سيمثل إشارة لسالي لكي تنهمك في الحديث عن تفاصيل مؤثرة عن فترة طفولتها، ولكن في “عندما التقى هاري بسالي” تُغيّر البطلة الموضوع ببساطة.
وبحسب الأحداث يحاول هاري وسالي – بعد سنوات من هذه الرحلة – تعزيز الصلات بينهما، مع صديقيهما جيس (بروس كيربي) وماري (كاري فيشر). ومن خلال مشهد لا يكترث فيه هذان الصديقان كثيرا بما يقوله البطلان عن عملهما الحالي أو المكان الذي يعيش كل منهما فيه، يبرز الفيلم أحد أفكاره المتمثلة في أن المهم عند تناول أي علاقة حب بين شخصين، ليس طبيعة عملهما أو المكان الذي يقيمان فيه؛ وإنما مقدار الحب الذي يُكنه كل منهما للآخر.
نرى سالي هاري في قسم “تنمية الشخصية والقدرات الذاتية” في إحدى المكتبات. بحسب أحداث الفيلم
وتمثل هذه النقطة المشكلة التي يواجهها البطلان، ففي غالبية الأفلام الرومانسية الكوميدية؛ يتمثل السبب الذي يحول دون لم شمل بطلي العمل، في أنهما يعيشان مثلا في مدينتين مختلفتين (كما نرى في فيلم ساهر في سياتل
الذي كتبته وأخرجته نورا إفرون نفسها) أو في دولتين مختلفتين (مثلما يحدث في أربع زيجات وجنازة
) أو لأسباب أخرى من بينها وجود فجوة ثقافية أو طبقية (حسبما نرى في زفافي اليوناني هائل الحجم
). لكن الأمر يختلف مع “عندما التقى هاري بسالي”، فالاثنان – في القسم الثاني من الفيلم – يعيشان في المكان نفسه ألا وهو نيويورك، ويبليان في حياتهما العملية بلاء حسنا، ولا يحول دون لم شملهما، سوى المخاوف التي تساورهما والصعوبات النفسية القائمة بينهما.
فإذا لم يكن ذلك دقيقا؛ لِمَ وجدت سالي هاري وهو يجول في قسم كتب التنمية البشرية والقدرات الذاتية في إحدى المكتبات؟
يمكننا هنا الإشارة إلى ما قاله تيمار جيفرز ماكدونالد، الذي كتب الجزء الخاص بـ “عندما التقى هاري بسالي” في سلسلة الكتب التي يصدرها معهد الفيلم البريطاني “بي إف آي فيلم كلاسيكس”؛ من أن ذلك الفيلم يختلف عن سواه من الأعمال السينمائية ذات الطابع الرومانسي الكوميدي، في أن أحداثه لا تدور خلال فترة قصيرة مثل ليلة أو عطلة نهاية أسبوع، وإنما يمنح “شخصياته الفرصة للنضج ورؤية الآخرين وارتكاب الأخطاء، كي يصبحوا في نهاية المطاف على الشاكلة التي نراهم عليها بالفعل. أي أن الفيلم يجعلنا نراهم وهم يتقدمون في العمر”.
أما نورا إفرون فتلخص الأمر بقولها: “هناك نوعان تقليديان للأفلام الرومانسية الكوميدية؛ أحدهما النوع المسيحي، الذي توجد فيه عقبة حقيقية تحول دون لم شمل الحبيبين، والآخر اليهودي – الذي كان وودي آلن رائدا له – والذي تتمثل العقبة فيه في المشكلات النفسية والعصبية التي تعاني منها شخصية البطل الرجل”.
ما قالته إفرون صحيح بالطبع، لكنها وراينر استفادا من هذا النوع اليهودي، ووسعا نطاقه بشكل أكبر مما فعل آلن، لتشمل هذه المشكلات النفسية البطلين؛ أي هاري وسالي معا. ففي فيلم مثل “آني هول” نرى أن البطل يكره ولاية كاليفورنيا بينما تريد البطلة الانتقال إلى مدينة لوس أنجليس – وهي كبرى مدن الولاية نفسها – لمواصلة مشوارها الغنائي. ولذا يمثل هذا العمل بشكل ما صداما ثقافيا ذا طابع كوميدي بين بطليه.
أما في “عندما التقى هاري بسالي”، فقد اتسمت الاختلافات القائمة بين الشخصيتين الرئيسيتين، بأنها محدودة بشكل أكبر وأكثر رهافة ودقة، وهو ما يجعل هذا الفيلم فريدا من نوعه.
يتيح الفيلم لبطليه الفرصة لكي يكبرا في السن وينضجا إلى أن يصبحا على الشاكلة التي نراهما عليها بالفعل
على أي حال كان هذا العمل فريدا بالفعل على شاشة السينما. فقد بدأ عرضه في يوليو/تموز 1989، أي في الشهر نفسه الذي شهد بدء عرض مسلسل “ساينفلد” الذي يندرج في إطار مسلسلات “كوميديا الموقف” أو الـ “سِت كوم”.
ويمكن القول إن هناك الكثير من النقاط المتشابهة بين الفيلم والمسلسل، إذ يتسمان بالطابع الرومانسي الكوميدي من جهة، كما تتشابه قائمة الشخصيات الواردة فيهما من جهة أخرى. فكل منهما يتضمن شخصية لرجل يهودي الديانة ساخر الطباع، ممن تكون أفضل صديقاته فتاة تتصف علاقته بها بأنها عذرية (في أغلب الوقت)، بينما يكون أفضل أصدقائه شابا قلقا على الدوام.
كم تشابهت الموضوعات بين الفيلم والمسلسل، فقد تضمنا نقاشات حول أمور مثل عملية البحث المضنية عن مسكن في مانهاتن، بل وكذلك مسألة التظاهر بالوصول إلى النشوة في الفراش.
ويثبت العملان أن الكوميديا لا تحتاج لسيناريو يتضمن مفاهيم براقة أو محاولات للتحذلق خاوية من أي مضمون. فإذا كان موضوع الفيلم أو المسلسل مسليا وذا نظرة ثاقبة بما يكفي، فبوسعه تحقيق النجاح حتى وإن كان يركز فقط على مسألة مثل طقوس المواعدة في نيويورك.
وبينما تعلم هذا الدرس صناع الكثير من الأعمال التليفزيونية مثل “الأصدقاء” و”الجنس والمدينة” و”كيف قابلت أمك” وغيرها، فلم يشهد عالم السينما سوى محاولات أقل عددا لمحاكاة “عندما التقى هاري بسالي”. ربما يعود ذلك إلى أن هذا الفيلم أجاد في كل عناصره وجوانبه بشدة، ليصنفه البعض على أنه “الأفضل من نوعه على مر العصور”.
المصدر: بي بي سي عربي