عهد فاضل
وضع قناع على الوجه لإخفائه أو منحه ملامح مؤثرة، كان موضوعاً متنوع الظهور في السينما العالمية، وأغلبها ينتمي لما يعرف بأفلام الرعب. وعادة ما يقوم صاحب القناع في فيلم الرعب، بارتكاب جرائم قتل مروّعة يضفي عليها القناع، مسحة مضاعفة من الغموض لإخافة المشاهد، وسواء عرف صاحب القناع، أو لم يعرَف، يظل شخصية مخيفة لأن قناعه يرسخ في الذهن وجرائمه، لا وجهه الحقيقي.
وقبل السينما، بقرون، تحدثت كتب التاريخ العربية، عن شخصية هي أقرب إلى أفلام الرعب، مع فارق أنها حقيقية اتفق على صفاتها بين المؤرخين، مع خلافات جزئية تتعلق بطريقة موتها. وهي شخصية تضع القناع الذهبي على الوجه، طيلة الوقت. وبعض الكتب تقول إنه كان يضع قناعاً أخضر اللون، أيضاً، وهو اللون الذي سنراه، حديثاً، في أفلام القناع، وإن في شكل كوميدي كما في فيلم (القناع) الشهير من بطولة جيم كيري.
المقنّع الخراساني، هو الشخص الذي تحدثت عنه كتب التاريخ العربي، بصفته مقنعاً بقناع من الذهب، أو بقناع أخضر اللون، كما نقل المصدر العربي الأصل إلا أنه أصبح، لاحقاً، منقولاً عن اللغة الفارسية، وهو ما يعرف بـ(تاريخ بخارى) للنرشخي، محمد بن جعفر، 286-348 للهجرة، الذي وضع مصنفه بالعربية، إلا أن النص العربي الأصلي “لم يصلنا بعد” كما قال محققا الكتاب ومترجماه، أمين عبد المجيد بدوي ونصر الله مبشر.
والمقنّع الخراساني، أفرد له الكثير في كتب التاريخ العربي الشهيرة، كـ(البداية والنهاية) لإسماعيل بن كثير، 701-774 للهجرة، وتاريخ الطبري، محمد بن جرير، 224-310 للهجرة، والمعروف بتاريخ الرسل والملوك، و(الكامل في التاريخ) لابن الأثير الجزري، والمتوفى سنة 630 للهجرة. وأفرد للمقنّع، في كتب التراجم، كما فعل ابن خلكان (608-681) للهجرة، في (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) ومصنفات عديدة وضعت في أزمان مختلفة، اهتمت لتلك الشخصية التي أحاطت نفسها بهالة من الغموض وأعمال السحر والشعوذة والمزاعم الباطلة.
قناع من الذهب على وجه “قبيح”
المقنع الخراساني اسمه (عطاء) كما يقول ابن خلكان الذي يؤكد أن الرجل في الأصل، كان يعمل في تنظيف الثياب، إلا أنه تعلم فنون السحر، لاحقاً، ثم ادعى “الربوبية” كما يقول السابق، وكما في سائر كتب التاريخ التي تناولت تلك الشخصية المرعبة التي حوصرت بجيش المسلمين، فقتلت نفسها ونساءها بطريقة مرعبة، على ذات المنوال الذي كانت تحيا به.
يقول ابن خلكان، إن الرجل سمّي المقنع، لأنه كان “لا يسفر عن وجهه بل اتخذ وجهاً من ذهب تقنّع به”.
أما كتاب (تاريخ بخارى) العربي تأليفاً وأصلا، ثم الفارسي ترجمةً، ثم المعرّب، فيقول عن الرجل إن اسمه (حكيم) وقضى عليه الخليفة العباسي المهدي بن المنصور سنة 167 للهجرة. ويضيف أن الرجل اكتسب لقب المقنع لأنه كان يغطي وجهه ورأسه، إلا أنه كان يضع عليهما “قناعاً أخضر” على غير ما أفاد به ابن خلكان من أنه قناع من الذهب، والذي أعاد ابن كثير ما أفاد به: “وكان يتخذ له وجهاً من ذهب”.
ويقول ابن خلكان إن المقنع في الأصل “قبيح” الصورة و”مشوّه الخلق” بالإضافة إلى صفات جسدية مختلفة أضفت عليه مزيداً من “القبح”.
الأتراك دعموه بعشرات الآلاف من الجنود!
المقنع الخراساني المذكور والذي يشار إليه أيضا بهاشم بن الحكيم كاسم معتمد في المخاطبات التي أرسلها لبعض حكام الولايات في (تركستان) وغيرها، والذي استعمل السحر على عامة الناس وضللهم بألاعيب مختلفة كاستعمال المرايا ليظهر “نوره” بعدما ادعى “الربوبية” و”النبوة” ونشر دعوته في أمكنة مختلفة، وكان يعمل لدى أبي مسلم الخراساني، قائد التنظيم السري للدعوة العباسية التي حاربت الأمويين وأنهت دولتهم، تلقى دعماً عسكرياً كبيراً من الأتراك، كما يقول النرشخي: “وقد روى محمد بن جعفر أن خمسين ألفاً من عسكر المقنّع من أهل ما وراء النهر من التُّرك وغيرهم”.
وورد في (تاريخ بخارى) أيضاً عن مدى دعم الأتراك للمقنّع، من مثل “وقد جاء كثير من عسكر الترك” للقتال لصالح المقنع، أو هنا: “التُّرك، هنا، خصومنا” أو هنا: “فجاء قوم من الترك وأغاروا..” و”ذهب معاذ بن مسلم إلى سمرقند وخاض حروبا كثيرة مع الترك” أو هنا: “ودعى المقنّع الأتراك” وأباح لهم تصفية خصومه ونهب أموالهم، كما قال التاريخ المذكور. حيث أصبحت مزاعم المقنع تنظيماً مسلحاً يمتلك عددا كبيرا من الجنود، فأرسل له الخليفة المهدي جيشاً للقضاء عليه بعدما اتسعت دعوته وتفاقم خطره على البنية العقائدية للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، خاصة في مزاعمه التي ضلل بها عامة الناس ووضع في عقولهم الكثير. إلا أن هذا الرجل المرعب المقنّع بوجه من الذهب، أو بقناع أخضر، سينهي حياته وحياة من معه، بطريقة أكثر رعباً.
قتل نساءه وغلامه ورمى بجسده إلى الفرن!
تشير المصادر إلى أن جيش الخليفة المهدي تعثر مرارا وهو بصدد القضاء على المقنّع، إلا أن الأمر قضي لهم، في نهاية الأمر بعدما حاصروا قلعته المعروفة بـ(كش) ونجحوا بإحداث ثغرة فيها، وبدأ الانهيار يدب في صفوف مقاتليه بمختلف جنسياتهم، وهنا قرّر المقنّع، أن يختم حياته بأكثر فصولها دموية وإرهاباً!
تجمع الروايات على أن الرجل وضع سماً في مجموعة كبيرة من الكؤوس، وطلب من نسائه القيام بشرب كؤوسهن في اللحظة التي يشرع هو بشرب كأسه، وفعلن ذلك، ومتن جميعاً على الفور، إلاّ واحدة منهن ساورها الشك، فدلقت ما في كأسها، خفية عن المقنع، ثم تماوتت أمام عينيه لخداعه.
لكن هل انتهى فصل الرعب بقتل النساء بوضع السم لهن دون علمهن في كؤوس الشرب، وكذلك قيامه بقطع رأس الغلام الوحيد الذي كان مسموحاً له التواجد في مكانه؟
كان المقنع، على ما تجمع المصادر التاريخية السابق ذكرها وغيرها، قد أوقد فرناً داخل حصنه، لمدة ثلاثة أيام متواصلة، كي تزداد حرارته ارتفاعاً وحدة، ثم قام بإلقاء نفسه في ذلك الفرن الذي التهم كل أجزاء جثته إلى الدرجة التي عجز فيها جنود الخليفة المهدي من العثور على أي ما يدل على موته!
ويشار إلى أن تفاصيل تلك الشخصية، حسب ما أوردته مصادر في التاريخ العربي والإسلامي، تشكّل ملامح الرعب التي يؤكدها (تاريخ بخارى): “كان يغطي رأسه ووجهه، إذ كان في غاية القبح!”، أولاً بتكوينها الجسماني الذي وصف بشديد القبح، وثانياً، بارتداء القناع الذهبي أو الأخضر طيلة الوقت لإخفاء وجهه، وثالثاً بإيقاع الرعب في قلوب من حوله بزعمه الربوبية، ورابعاً بقتل نسائه بالسمّ، ثم رمي نفسه في فرن يتأجج مستعراً.
ويذكر أن رواية مصرعه بحرق جثته، ليست الوحيدة، فهناك روايتان أخريان، واحدة تقول إنه تناول السمّ مع نسائه اللاتي قضين غيلة، وأخرى تقول إنه أحرق المكان كله لا جثته فقط. إلا أن تقاطع المصادر التاريخية والتفاصيل الواردة لدى اقتحام حصنه، تثبت أنه ألقى بنفسه في النار، وحده، فيما بقية نسائه قضين على الفور بعد تجرعهن مشروباً دس لهن فيه السم، إلا واحدة روت مقتله بعدما قتل نساءه، كما نقل النرشخي، وكما لو أنه مشهد رعب في فيلم سينمائي: “ثم نهض المقنّع، ورأى كل النسوة ميتات، فذهب إلى غلامه وضربه بالسيف وأطاح برأسه، وكان قد أمر بإحماء التنور، وخلع ثيابه وألقى بنفسه فيه، وتصاعد الدخان، فذهبتُ إلى ذلك التنور، ولم أر له أي أثر!”.
المصدر: العربية نت