أمل مجدي
وسط مجتمعات عربية، يتجذر فيها الموت محاطا بنوع من القدسية، على اعتبار أنه حقيقة واقعة لا محالة، تخلص الناس من شرور الحياة ومتاعبها المستمرة، يأتي فيلم “إلى آخر الزمان” للمخرجة الجزائرية ياسمين شويخ، المشارك ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، ليعلي من قيمة الحياة والتشبث بها، نابضا بالحب والحيوية في أرض الموتى.
تنسج المخرجة خيوط حكايتها في مكان خيالي يطلق عليه “سيدي بولقبور”، مستوحى من ثقافة الأضرحة والمقامات المتوغلة في مجتمعاتنا، حيث ترتيل القرآن وحلقات الذكر جنبا إلى جنب مع صواني الطعام. يأتي الزوار بشكل موسمي للاطمئنان على موتاهم، والتمتع بالأجواء الروحانية التي من شأنها تطهير القلوب، لمدة ثلاثة أيام، قبل أن تقلهم الحافلة وتعود بهم إلى حياتهم الصاخبة. في هذا المكان، يتجرد الموت من هالته، ويصبح مجرد عمل، تقسم مهامه على مجموعة من البشر يتربحون من ورائه.
تركز شويخ على طريقة تعامل هؤلاء البشر مع عملهم المهيب، معتمدة على المزج بين شاعرية المكان الهادئ الباعث على التأمل وعفوية البشر وتصرفاتهم المتناقضة التي تحمل قدرا من الكوميدية. ففي وسط القبور، هناك الشاب الذي يسعى إلى تأسيس شركة لخدمات المآتم محاولا إٌقناع الأحياء بالتوقيع لصالحه، والسيدة المسؤولة عن تغسيل الموتى، التي ترد على الهاتف أثناء ممارسة عملها كأنها في جلسة تدليك، إلى جانب النساء اللاتي يُعددن محاسن الموتى في أداء أقرب إلى كورس الغناء. فقد تقاطع الموت المخيف مع الحياة الطائشة، فاجتاحته بالرغم من الأجواء القاتمة، متحايلة على رهبته.
وفي حضرة الموت، تنشأ قصة حب بين إحدى الزائرات وحفار القبور، تزلزل نمط حياتهما الراكد. فالأرملة (جوهر) ضحية لقهر زوجي ومجتمعي، لأنها اضطرت أن تعيش منصاعة للكثير من القيود بعدما هربت شقيقتها آملا في حياة تحفظ لها كرامتها. وبالرغم من تحررها أخيرا، فإنها باتت لا تفكر سوى في التحضير لجنازتها نظرا لكونها وحيدة بلا أطفال. الحال يتشابه مع حفار القبور (علي)، الرجل النحيل، قليل الحديث، الذي خطى الشيب رأسه، ونسى أن يعيش حياته بسبب طبيعة عمله، فأصبح وحيدا لا يتوقع شيئا من الدنيا. تتقاطع السبل بينهما، وأثناء مساعدته لها في تحضير الجنازة، يكتشف الحب الذي فاته ويعود معه شابا صغيرا. هي أيضًا تتعلق به، حتى وأن حاولت إنكار ذلك، فتدخل في صراع بين ما كانت تخطط له والحب الذي باغتها دون سابق إنذار. مع تطور قصة الحب، تدب الحياة في أرض الموتى، فيجري الحبيبان معا وسط المقابر وكأنها حقول، وينطلقان بدراجة نارية في طريق الجنازات فيصبح طريقا للأفراح، ويتحرران من ثقل الهموم في رحلتهما إلى البحر.
“لكن هناك مرات، يحتاج فيها الإنسان إلى المزيد من الشجاعة ليعيش أكثر مما يحتاج ليقتل نفسه”، ألبير كامو، في رواية “الموت السعيد”.هذه المقولة، تصف حال الوحيدين اللذين كان حبهما بمثابة شرارة أنارت طريق الفرح في مكان خيم الموت عليه لسنوات طويلة. فالشجاعة المطلوبة لاختيار الحياة، والتمسك بما تقدمه من فرص جديدة، لم تكن متوفرة لدى (جوهر). كان الخوف والتردد مسيطرين، وبالتالي كان الموت الخيار الأسهل. تتوغل ياسمين شويخ في ثنائية الموت والحياة، لتجعلنا ندرك أن الحياة أعقد من الموت، وتحتاج إلى جسارة لمواجهة مخاوفنا والتغلب عليها.
هذا يقودنا إلى المستوى الثاني من الفيلم، الذي يركز على الأوضاع السياسية المتسببة في استسلام الناس للموت بدلا من الصمود لمواجهة الحياة. حيث يبدو “سيدى بولقبور” مكانا يعمل فيه الناس بشكل آلي، معتادين على القيام بالأمور نفسها كل يوم، منتظرين الخلاص. حتى محاولات بعضهم لإحداث تغيير، تقابل بالرفض من قبل أصحاب الكلمة العليا. فهناك طريقة واحدة للعيش وفقا للمجتمع وتقاليده، والجميع يدورون في فلك واحد، دون قدرة على التمرد. ففي أحد المشاهد، عندما يتحدث الشاب المنشغل بتجديد خدمات المآتم، إلى الشيخ عن رغباته في تجريب الكثير من الأشياء، ينتقده الأخير معترضا على مشروعه، فيرد عليه مؤكدا أنه لا يمتلك خيارات أخرى. بالتأكيد هذا المشروع البائس الذي يحقق الرفاهية للموتى بدلا من الأحياء، يقول الكثير عن سقف الطموح المصرح به. ومع ذلك، يتطلب الأمر قدرا من الشجاعة كي يتمكن صاحبه من تحقيقه.
في هذه البيئة التي يحاصرها الموت، باتت المقبرة هي المساحة التي تحتضن الإنسان وأحلامه البسيطة صعبة التحقق. فيمني الأحياء أنفسهم بالتحرر من سطوة الظروف القاهرة لآمالهم وسعادتهم، حتى ينتهي بهم الحال موتى. يتجلى هذا المعنى، في مشهد تواجد (جوهر) و(علي) أمام قبر شقيقتها التي عانت من العنف الزوجي، حيث تخبره أنها كانت تخفف عنها بإيهامها أنه يوما ما سيأتي لها أميرا لينقذها ويبني لها قصرا من الأحجار الملونة. تستعرض الكاميرا في هذا المشهد، مكان القبر، فيبدو مثل القصر الذي يمكن من داخله رؤية السماء الزرقاء، والشمس الذهبية، والأشجار الخضراء، والورود الحمراء. يتكرر الأمر بشكل أكثر وضوحا، في مشهد آخر يأتي فيه مجموعة من الرجال حاملين علم الجزائر، وينتهى به الحال متروكا على القبر.
ينتهي الفيلم بحفار القبور مغادرا المكان الذي سرق شبابه وحياته، مستقلا العربة المخصصة لنقل الموتى، وذلك بعدما تخلص من هيكل الكفن. يتجه نحو المجهول، محاولا العثور على الحياة التي أضاعها، قبل أن يدركه الموت. فيما تقف السيدة التي خزلته وحيدة وسط القبور، تبكي على السعادة التي خسرتها.
يخبرنا “إلى آخر الزمان” دون خطابة أو مباشرة فجة أن القهر بمختلف أنواعه يسلبنا حقنا في الحياة. وأن الخوف من التجربة يمنعنا من اغتنام الفرصة للعيش من جديد. يذكرنا بأن أحلامنا تستحق العناء، وأن المغامرة ضرورية بصرف النظر عن أي شيء. فقد غمر الحب أرض القبور وحالها إلى أرض الأعراس.
المصدر: موقع في الفن