سوليوود «القاهرة»
أتيحت لي الفرصة أخيرا لمشاهدة نسخة جيدة من الفيلم المصري “تراب الماس” للمخرج مروان حامد، الذي أعتبر أحد أهم ما عرض من أفلام في مصر في عام 2018.
لا شك في الطموح الفني الكبير الذي يتبدى في الفيلم، أولا على أيدي مروان حامد مع شريكه أحمد مراد الذي كتب السيناريو عن روايته، من ناحية طرقهما موضوعا يبدو للوهلة الأولى قاسيا قاتما، ثم استخدام التعليق السياسي النقدي الرصين بشكل غير مباشر، أي عكس المألوف في أفلام النقد السياسي في السينما المصرية.
ويبدو الطموح ثانيا في تلاعب السيناريو بالسرد، الذي يتخذ نسقا متعرجا، يروح ويجئ، ينتقل حينا بين الماضي والحاضر، ويعتمد حينا آخر، على استدعاء الأحداث التي عاشتها الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهي كما أرى، ليست شخصية الصيدلي الشاب “طه”، بل شخصية والده “حسين الزهار” التي يقوم بأدائها باقتدار وتفوق وسيطرة مدهشة، الممثل أحمد كمال. وفي ظني أن من أكثر عناصر الفيلم بروزا وقوة بدا في اختيار الممثلين، باستثناء الممثل اللبناني عادل كرم الذي قام بدور رجل الأعمال الملياردير المثلي الجنس “هاني برجاس” الذي لا يتورع عن اللجوء للقتل تجنبا للفضيحة، فقد بدا تائها غريبا على الدور، عاجزا عن التكيف مع الشخصية، خاصة وأنه غير مدرب بدرجة كافية على الأداء باللهجة المصرية.
التطهير بالعنف
وعلى نحو ما، يذكرنا “تراب الماس” بفيلم “سائق التاكسي” (1974) لسكورسيزي، فهو ليس فقط عن الانتقام الفردي، بل – أساسا- عن “تطهير” المجتمع بالمعنى الأخلاقي، فكما كان ترافيس بيكل بطل “سائق التاكسي” العائد من فيتنام يستخدم العنف لتطهير المجتمع من الفساد الأخلاقي، يدبر “حسين الزهار” عمليات متعددة لتطهير البلد ممن يعتبرهم مسؤولين عن الفساد الذي يتمثل في استغلال النفوذ (عقيد الشرطة وليد سلطان)، تجارة المخدرات (الضابط مع سليمان اللورد)، الشذوذ الجنسي (هاني برجاس)، وتجارة الجنس لحساب الطبقة الراقية (القوادة بشرى)، مع لمسة جريئة دون شك، من نقد الفساد السياسي كما تشير شخصية عضو البرلمان “محروس برجاس” الذي تخصص في “تفصيل القوانين” لإرضاء السلطة في كل العصور.
شخصية “محروس برجاس” التي يؤديها عزت العلايلي، ليس من الممكن أن تظل فاعلة في الواقع وفي خدمة السلطة كما نرى، حتى 2018 إلا أن يكون الرجل قد تجاوز الثامنة والتسعين من عمره مثلا، فنحن نشاهد صورا له مع الملك فاروق ثم محمد نجيب وعبد الناصر.. وغيره، لكن ربما كان وجوده رمزيا. أما موقف الفيلم من الصراع السياسي بين نجيب وعبد الناصر فيتضح منذ المشاهد الأولى في الفيلم التي يسترجع خلالها الزهار وقائع ما جرى في مصر بعد يوليو 1952، والصراع بين نجيب وناصر، الذي ينتهي بعزل نجيب والاتجاه إلى “الدولة الشمولية”.
يتحسر الفيلم أيضا على مجتمع التعدد العرقي والثقافي في مصر قبل 1952 ووجود الأقليات كالأقلية اليهودية التي يمثلها في الفيلم تاجر المجوهرات “ليتو” (بيومي فؤاد)، وكان يرتبط بصداقة وطيدة مع “حنفي الزهار” (سامي مغاوري)، جد طه ووالد حسين، وهو “اليهودي الطيب” الذي يقف إلى جانب حسين بعد وفاة والده، يتولاه بالرعاية ويسند إليه عملا في دكانه، بل وينفق على استكمال تعليمه.
ورغم تعاطف الفيلم الواضح مع اليهود المصريين إلا أنه يدينهم ويصمهم بالخيانة الوطنية عندما يكتشف حسين (الطفل) أن “ليتو” جاسوسا يعمل لحساب إسرائيل في 1956، فيقتله باستخدام “تراب الماس” السام بعد خلطه بالشاي، وهي الطريقة التي تعلمها من ليتو نفسه عندما تخلص من قط ابنته الجميلة “تونا” (تارا عماد) بعدما أصيب بالسعار. ومع ذلك يستمر حسين في حبه لـ “تونا” حتى بعد أن تتطوع في جيش الاحتلال الصهيوني ثم تأتي لزيارة مصر وتلتقي به بعد معاهدة السلام في أواخر السبعينات.
دوافع شخصية
تبدو دوافع حسين الزهار للتخلص من الفاسدين في نطاق الدائرة التي يراقبها من نافذة غرفته من فوق مقعده المتحرك، دوافع شخصية، نتجت عن شعوره بالغضب والإحباط، فقد فشل في الالتحاق بالكلية الحربية (لغياب الوساطة)، وعندما تطوع في الجيش شارك في حرب 1967 وعاش الهزيمة المريرة وعاد الى حارة اليهود سيرا على قدميه (خذله القادة). وهو يتجه لدراسة التاريخ ويصبح نموذجا للمثقف الذي يتطلع الى أن تصبح مصر دولة ديمقراطية الحديثة، لكنه يصاب بالشلل بسبب اهمال طبي دون الحصول على أي تعويض، فيفقد وظيفته، وتهجره زوجته وتترك له ابنهما طه الذي يتعلم ويصبح صيدليا، لكن حسين يشاهد ذات ليلة، ما لم يكن مسموحا له بمشاهدته. وسوف نبقى حتى النهاية، قبل أن نعرف الحقيقة، وهنا يستخدم الفيلم ببراعة التواء الحبكة ليوحي لنا بالحقيقة دون أن تكون هي الحقيقة. ولكن عندما تتبين الحقيقة تأتي أقل من توقعاتنا. فرؤية ضابط شرطة فاسد يمارس فساده ليس بالأمر الجلل الذي يستوجب قتل حسين.
الضابط الفاسد
من أكثر شخصيات الفيلم قوة وانسجاما مع أحداثه، شخصية الضابط المنحرف “وليد سلطان” (ماجد الكدواني) فهو يبدو في البداية طيب القلب، لطيف، مجامل، ثم يكشف تدريجيا عن وجهه القبيح كشخص يتصف بالجشع والخبث والقسوة، وحتى بعد أن يتم وقفه عن العمل بعد أن ثبت أنه كان يراود سيدة على نفسها مقابل نقل زوجها الضابط من مكان عمله الى القاهرة، يحاول “وليد” أن يستخدم “طه” ويوظفه من أجل تحقيق أطماعه عن طريق الوعيد والتهديد وهو ما يفعله أيضا مع القوادة “بشرى” (شيرين رضا).. لكنه لا يمارس التعذيب والقهر وخطف المعارضين السياسيين أو قتلهم واخفاء جثثهم أو تلفيق التهم لهم وتقديم شهادات مزورة أمام القضاء. لذلك ينحصر الفساد في الفيلم في الانحرافات الفردية لا في النظام السياسي عموما. ومع ذلك يقول الفيلم إن الحالات الفردية لم تعد فردية بل شملت قطاعات واسعة في المجتمع، من النخبة ومن القاع.
لا يبدو أن ثمة أهمية لوجود شخصية المذيع التليفزيوني الانتهازي شريف مراد (أياد نصار) الذي يغتصب بالقوة والعنف زميلته “ساره” (منة شلبي) بعد أن تكتشف خيانته لها، رغم أنه سبق أن مارس معها الجنس كما صورها على أحد شرائطه مثل غيرها، ويبدو من العسير أن نصدق ما يحاول الفيلم اقناعنا به فيما بعد، أن “ساره” أقنعت شريف بأنها غفرت له اعتداءه الوحشي عليها وعادت إلى حبه، فقط لكي تنتقم منه بالطريقة التي علمها إياها طه، أي بوضع حفنة من تراب الماس في كأس الشاي!
مادة “تراب الماس” اختلسها حسين الزهار من اليهودي ليتو، وطعمها لا يمكن الإحساس به في الشاي، وهي تسبب الأعراض الرهيبة التي نراها في الفيلم ثم الموت حلال أسابيع معدودة، مع ملاحظة أن اليهودي “ليتو” هو أول من استخدمها في الفيلم ومنه تعلم حسين الزهار. أما طه فيستعين بمنشار كهربائي لتقطيع جثة “السيرفيس” (محمد ممدوح) أو “البلطجي” القاتل الشرير الذي كان يستخدمه الضابط في تصفية وترويع الآخرين، لكنه يضع الجثة في حامض الكبريتيك داخل البانيو، قبل أن يقوم بتقطيعها، ثم ينقلها بعد ذلك في حقيبة كبيرة إلى المقابر، فإن كان قد تم تذويبها في الحامض فلماذا ينقلها!
تتردد في الفيلم أكثر من مرة، فكرة تطهير المجتمع من الأشرار (بعيدا عن القانون)، أي بالطريق الفردي كما يفعل حسين الزهار، أو حتى على لسان الضابط وهو يقول لطه ذات مرة، مبررا تجاوزاته للقانون “إلى حين أن يصبح هناك قانون”. ويتكرر ظهور الغراب الأسود كرمز للموت القادم، ويتكرر الحلم الذي يتنبأ بالموت ويرويه الزهار لترويع ضحاياه قبل أن يتركهم بعد يضع السم لهم.
لكن إذا كان حسين الزهار قد فعل ما فعله مؤمنا بأنه “صاحب رسالة”، فابنه طه يستكمل دور والده فقط بدافع الانتقام الشخصي ممن تسببوا في قتله. فهو يقتل البلطجي “السرفيس” ثم الضابط، ويدخر حياة هاني برجاس الذي يعيش ليستمر في الفساد. ولا يدين الفيلم الحل الفردي، بل يتوقف عند مقولة تتردد أيضا أكثر من مرة وهي أنه “أحيانا يمكن معالجة خطأ كبير بخطأ صغير” وإن كان ينتهي بفكرة “ضرورة أن يراقب الصغار الكبار”، إضافة الى القصة التي ترويها العمة “فايقة” (صابرين) لطه عن “القاتل العادل” الذي ينتهي بالموت على أيدي من كان يقتل لأجلهم.
أسلوب الإخراج
هناك اهتمام واضح في الفيلم بالتكوين والإضاءة وحركة الكاميرا، وعناصر الصورة عموما، على نحو يضفي جمالا خاصا وغموضا ساحرا على الفيلم خاصة في نصفه الأول، وتٌظهر مواقع التصوير التي اختيرت بعناية فاقة، التناقضات الطبقية بين مجتمعات النخبة التي تحتكر الثروة والنفوذ، وبين الفئات المحرومة، كما يعكس ديكور وإضاءة شقة الزهار، جوا كابوسيا خانقا، فالمكان ينضح برائحة القدم وعلامات تعاقب الزمن بما في ذلك واجهة العمارة التي يقيم فيها، وفي الداخل تنتشر الكتب القديمة والصحف، وتشي الإضاءة الخافتة التي تصطبغ باللون الأصفر والبني، بقتامة الشخصية وسريتها، وتدعم موسيقى هشام نزيه هذا الاحساس كما تعكس في باقي أجزاء الفيلم، أجواء القلق والتوتر والصراع الذي يدور داخل شخصية “طه”. ويستخدم مروان حامد زوايا التصوير الغريبة كما في اللقطة المصورة من أعلى للحمام من زاوية قائمة تقريبا بعد وضع جثة “السرفيس” في الحامض.
ويأتي بعد ذلك مباشرة الانتقال المنطقي من تلك اللقطة الخانقة مع تصاعد الأبخرة الخانقة داخل الحمام، إلى لقطة عامة من بعيد لطه وهو يقف في نافذة الغرفة يتطلع إلى الخارج وهو يستنشق الهواء النقي بينما تتقدم العدسة نحوه تدريجيا.
السرد المتعرج الذي ينتقل بين الأزمنة يبرز حضور شخصية “حسين الزهار” وسيطرته على مجمل أحداث الفيلم رغم موته في نهاية المشهد الأول. وينجح مروان حامد في التغلب على الطابع الأدبي للسرد الذي نسمعه بصوت الزهار تارة، وبصوت الضابط تارة أخرى، في استعادة الأحداث من وجهة نظر كل منهما، أولا عن طريق مذكرات الزهار المكتوبة التي تمر على أبرز الأحداث السياسية التي شهدتها مصر، وثانيا من خلال ما يرويه الضابط لطه، فقد استخدم مروان بالتعاون مع المونتير، تداعي الصور واللقطات بطريقة شبه تسجيلية، مع تعدد زوايا التصوير (تصوير مشاهد تدور في المقابر له طابع خاص يكتسي بالرهبة).
كما ينجح مع المونتير (أحمد حافظ)، في خلق إيقاع متزن، متدفق، متوازن، وبفضل مدير التصوير محمد المرسي، يأتي الفيلم في صورة شديدة الجمال والصدق معا سواء في التكوين أو حركة الكاميرا (الحركة البطيئة من اليسار لليمين أو حركة المتابعة أو الكاميرا المهتزة، التي توحي بالدوار والترنح) مع دقة شديدة في اختيار العناصر التكميلية للصورة (الصور التي تمر عليها الكاميرا على الجدران والاكسسوارات سواء داخل شقة ليتو اليهودي وشقة الزهار ومكتب محروس برجاس). وينجح مدير التصوير في خلق علاقة بصرية جيدة بين الشخصيات والأماكن.
يتميز التصوير الخارجي سواء في المشاهد المصورة بالأبيض والأسود والتي تستدعي الماضي، في الخمسينات، خاصة مشاهد حارة اليهود، والبيوت والأزقة الضيقة وأجواء الفجر.. وغيره ذلك، أو في المشاهد التي تعكس الزحام والضجيج في الأحياء العشوائية عندما ذهب طه ليختفي بعد أن تمكن من وضع السم للضابط. وبين الحدثين نرى في مشهد “فوتومونتاج” بديع صامت يوجز الكثير من الأحداث، فنرى الضابط مع أتباعه من “البلطجية”، يقومون بتفتيش شقة طه ويبحثون عنه دون جدوى، ثم نرصد تدهور الحالة الصحية للضابط إلى أن نقرأ خبر وفاته منشورا في الصحف، ثم العزاء الذي يحضره طه.
كان يمكن اختصار بعض المشاهد لكي يصبح إيقاع الفيلم أكثر دقة، مثل مشهد قتل الصبي الشاذ “كريم” في السجن، واستبعاد مشهد إصابة طه بنوبة صرع خاصة أنه لا يضيف شيئا من الناحية الدرامية، واختصار رد فعل طه بعد أن يعلم بموت والده فيغادر الفراش ويسير في ردهة المستشفى وهو يجر خلفه جهاز نقل المحلول، ينادي على أبيه وهو يتطلع يمينا ويسارا، ويبحث عنه، ثم يصرخ وينهار. وكان يمكن الاكتفاء بتصوير رد فعل طه في لقطة واحدة. لكن هذه المغالاة في تصوير المشاعر من العلامات الراسخة في الفيلم المصري.
ورغم أي ملاحظات سلبية على الفيلم، يبقى أحد الأعمال المهمة في مسيرة مخرجه ومحاولة لاختراق الطابع التقليدي العتيق في السينما المصرية، وتجربة تجمع بين العمق والغموض والقابلية الجماهيرية.